ثم قال : { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ } أي : إلى العِجْلِ . وقال الفرَّاءُ : إلى الطَّعامِ وهو العجل .
قوله : " نَكِرَهُمْ " أي : أنكرهم ، فهما بمعنى واحد ؛ وأنشدوا : [ البسيط ]
وأنكَرَتْنِي ومَا كَانَ الذي نَكِرَتْ *** مِنَ الحَوادثِ إلاَّ الشَّيْبَ والصَّلعَا{[18881]}
وفرَّق بعضهم بينهما فقال : الثلاثي فيما يُرَى بالبصرِ ، والرباعي فيما لا يُرَى من المعاني ، وجعل البيت من ذلك ، فإنَّها أنكرتْ مودَّتهُ وهي من المعاني التي لا تُرَى ، ونكِرَتْ شَيْبَتَهُ وصلعهُ ، وهما يُبْصرانِ ؛ ومنه قول أبي ذؤيبٍ : [ الكامل ]
فَنَكِرْتَهُ فَنَفَرْتُ وامْتَرَسَتْ بِهِ *** هَوْجَاءُ هَادِيَةٌ وهَادٍ جُرْشَعُ{[18882]}
والإيجاس : حديث النَّفس ، وأصله من الدُّخُول كأنَّ الخوف داخلهُ .
وقال الأخفش : " خَامَر قلبه " . وقال الفرَّاء : " اسْتَشْعَرَ وأحسَّ " .
والوَجَسُ : ما يَعْتَرِي النفس أوائل الفزع ، ووجس في نفسه كذا أي : خطر بها ، يَجِسُ وَجْساً ووُجُوساً ووَجِيساً ، ويَوْجَسُ ويَجِسُ بمعنى يسمعُ ؛ وأنشدوا على ذلك وقوله : [ الطويل ]
وَصَادِقَتَا سَمْعِ التَّوجُّسِ للسُّرَى *** لِلَمْحِ خَفِيٍّ أو لِصَوْتٍ مُنَدَّدِ{[18883]}
و " خفية " مفعول به أي : أحس خيفة أو أضمر خيفة .
اعلم أنَّ الأضياف إنَّما امتنعوا عن الطَّعام ؛ لأنهم ملائكةٌ ، والملائكةُ لا يأكلون ، ولا يشربون ، وإنَّما أتوهُ في صورة الأضياف ، ليَكونوا على صفة يحبها ؛ لأنه كان يحب الضيافة ، وأمَّا إبراهيم ، فإما أن يقال : إنه ما كان يعلم أنهم ملائكة بل كان يعتقدُ أنهم من البشر ، أو يقال : إنَّه كان عالماً بأنهم ملائكة ، فعلى الأول فسببُ خوفه أمران :
أحدهما : أنَّهُ كان ينزل في طرف من الأرض بعيداً عن النَّاس ، فلما امتنعوا عن الأكل ، خاف أن يريدوا به مكروهاً .
والثاني : أنَّ من لا يعرفه إذا حَضَر ، وقدَّم إليه طعاماً ، فإن أكل حصل الأمن ، وإن لم يأكل ، حصل الخوفُ .
وإن كان عارفاً بأنَّهم ملائكة ، فسبب خوفه أمران :
أحدهما : أنه خاف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله تعالى عليه .
والثاني : أنه خاف أن يكون نزولهم لتعذيب قومه .
والأول أقرب ؛ لأنَّهُ سارع إلى إحضار الطعام ، ولو عرف كونهم من الملائكة لما فعل ذلك ، ولما استدلَّ بترك الأكل على حصول الشَّرِّ ، وأيضاً : فإنَّهُ رآهم في صورة البشر ، قالوا : لا تخف يا إبراهيم ، إنَّا ملائكة الله ، أرسلنا إلى قوم لوط .
في هذه القصَّة دليل على تعجيل قرى الضيف ، وعلى تقديم ما يتيسَّر من الموجود في الحال ، ثم يُتبِعُهُ بغيره ، إن كان له جدةٌ ، ولا يتكلَّف ما يَضُرُّ به ، والضيافة من مكارم الأخلاق ، وإبراهيم أوَّل من أضاف ، وليست الضيافةُ بواجبة عند عامة أهل العلم ؛ قال - عليه الصلاة والسلام - : " مَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ ، ومَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ ، فلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ " {[18884]} .
وإكرام الجار ليس بواجب ، فكذلك الضَيْفُ ، وفي الضيافة الواجبة يقولُ - عليه الصلاة والسلام - : " لَيْلَةُ الضَّيْفِ حَقٌّ{[18885]} .
وقال ابن العربيِّ : وقد قال قَوْمٌ : إنَّ الضيافة كانَتْ واجبةً في صدْر الإسلام ، ثم نُسِخَتْ .
اختلفوا في المخاطب بالضِّيافة ، فذهب الشافعيُّ ، ومحمد بنُ عبد الحكم إلى أنَّ المخاطب بها أهل الحضر والبادية . وقال مالكٌ : ليس على أهل الحضر ضيافة .
قال سُحْنُون : إنَّما الضِّيافةُ على أهْلِ القُرى ، وأمَّا أهل الحضر ، فالفُنْدُق ينزل فيه المسافرُ ؛ لما روى ابنُ عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الضِّيافةُ عَلَى أهْلِ الوَبَرِ ، ولَيْسَتْ عَلَى أَهْلِ المَدَرِ " {[18886]} .
قال القرطبيُّ : " قال أبوعمر بن عبد البرِّ : وهذا حديثٌ لا يصحُّ " قال ابنُ العربي : " الضيافة حقيقة فرض على الكفاية " .
ومن أدب الضيافة أن يبادرَ المضيف بالأكل ؛ لأنَّ كرامةَ الضَّيْفِ التعجيل بتقديم الضِّيافة ، كما فعل إبراهيمُ - عليه الصلاة والسلام - ولما قبضوا أيديهم نكرهم إبراهيم فإذا أكل المضيف ، طاب نفس الضَّيف للأكل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.