قوله تعالى : { ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم } قال مقاتل : لكان خيراً لهم لأنك كنت تعتقهم جميعاً وتطلقهم بلا فداء ، { والله غفور رحيم } وقال قتادة : نزلت في ناس من أعراب بني تميم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنادوا على الباب . ويروى ذلك عن جابر قال : جاءت بنو تميم فنادوا على الباب : اخرج إلينا يا محمد ، فإن مدحنا زين ، وذمنا شين ، فسمعها النبي صلى الله عليه وسلم فخرج صلى الله عليه وسلم وهو يقول : إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين ، فقالوا : نحن ناس من بني تميم جئنا بشعرائنا وخطبائنا لنشاعرك ونفاخرك ، فقال صلى الله عليه وسلم : ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت ، ولكن هاتوا ما عندكم ، فقام شاب منهم فذكر فضله وفضل قومه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لثابت ابن قيس بن شماس ، وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم : قم فأجبه ، فأجابه ، وقام شاعرهم فذكر أبياتاً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت : أجبه فأجابه ، فقام الأقرع بن حابس ، فقال : إن محمداً لمؤتىً له والله ما أدري ما هذا الأمر ، تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن من خطيبنا وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولاً ، ثم دنا من النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما يضرك ما كان قبل هذا ثم أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكساهم ، وكان قد تخلف في ركابهم عمرو بن الأهتم لحداثة سنه ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطاهم ، وأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل فيهم : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم } الآيات الأربع إلى قوله : { غفور رحيم } وقال زيد بن أرقم : جاء ناس من العرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يكن نبياً فنحن أسعد الناس به ، وإن يكن ملكاً نعش في جنابه ، فجاؤوا فجعلوا ينادونه ، يا محمد يا محمد ، فأنزل الله : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون * ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم } .
ثم أرشدهم - سبحانه - إلى السلوك الأفضل فقال - تعالى - : { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } .
أى : ولو أن هؤلاء الذين ينادونك - أيها الرسول الكريم - من وراء الحجرات ، صبروا عليك حتى تخرج إليهم ولم يتعجلوا بندائك بتلك الصورة الخالية من الأدب ، لكان صبرهم خبرا لهم { والله } - تعالى - { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أى : واسع المغفرة والرحمة .
قال صاحب الكشاف : يحكى عن أبى عبيد - العالم الزاهد الثقة - أنه قال : ما دققت باب عالم قط ، حتى يخرج فى وقت خروجه .
وقوله : { أَنَّهُمْ صَبَرُواْ } فى موضع رفع على الفاعلية ، لأن المعنى : ولو ثبت صبرهم .
فإن قلت : هل من فرق بين قوله { حتى تَخْرُجَ } وإلى أن تخرج ؟
قلت : إن " حتى " مختصة بالغاية المضروبة ، تقول : أكلت السمكة حتى رأسها ، ولو قلت : حتى نصفها ، أو صدرها ، لم يجز ، و " إلى " عامة فى كل غاية ، فقد أفادت " حتى " بوضعها : أن خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم غاية قد ضرب لصبرهم ، فما كان لهم أن يقطعوا أمرا دون الانتهاء إليه .
فإن قلت : فأى فائدة فى قوله { إِلَيْهِمْ } ؟ قلت : فيه أنه لو خرج ولم يكن خروجه إليهم ولأجلهم ، للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أن خروجه إليهم .
هذا والمتدبر فى هذه الآيات الكريمة ، يراها قد رسمت للمؤمنين أسمى ألوان الأدب فى مخاطبتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفى إلزامهم بألا يقولوا قولا أو يفعلوا فعلا ، يتعلق بشأن من شئون دينهم إلا بعد معرفتهم بأن هذا القول أو الفعل يستند إلى حكم شرعى ، شرعه الله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
كما أنه يراها قد مدحت الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذمت الذين لا يلتزمون هذا الأدب عند مخاطبته أو ندائه .
وبين لهم الأولى والأفضل وهو الصبر والانتظار حتى يخرج إليهم . وحبب إليهم التوبة والإنابة ، ورغبهم في المغفرة والرحمة .
وقد وعى المسلمون هذا الأدب الرفيع ، وتجاوزوا به شخص رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى كل أستاذ وعالم . لا يزعجونه حتى يخرج إليهم ؛ ولا يقتحمون عليه حتى يدعوهم . . يحكى عن أبي عبيد - العالم الزاهد الراوية الثقة - أنه قال : " ما دققت بابا على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه " . .
ثم أرشد إلى الأدب في ذلك فقال : { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } أي :
لكان لهم في ذلك الخيرة والمصلحة في الدنيا والآخرة .
ثم قال داعيا لهم إلى التوبة والإنابة : { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وقد ذُكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي ، فيما أورده غير واحد ، قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا وُهَيْب ، حدثنا موسى بن عقبة ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن الأقرع بن حابس ، أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات ، فقال : يا محمد ، يا محمد - وفي رواية : يا رسول الله - فلم يجبه . فقال : يا رسول الله ، إن حمدي لزين ، وإن ذمي لشين ، فقال : " ذاك الله ، عز وجل " {[27053]} .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو عمار الحسين بن حُرَيْث المروزي ، حدثنا الفضل بن موسى ، عن الحسين بن واقد ، عن أبي إسحاق{[27054]} ، عن البراء في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ } قال : جاء رجل رسول الله{[27055]} فقال : يا محمد ، إن حمدي زين ، وذمي شين . فقال : " ذاك الله ، عز وجل " {[27056]} .
وهكذا ذكره الحسن البصري ، وقتادة مرسلا .
وقال سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي عَمْرَة قال : كان بِشْر بن غالب ولَبِيد بن عُطَارِد - أو بشر بن عطارد ولبيد بن غالب - وهما عند الحجاج جالسان - فقال بشر بن غالب للبيد بن عطارد : نزلت في قومك بني تميم : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ } قال : فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال : أما إنه لو علم بآخر الآية أجابه : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا } [ الحجرات : 17 ] ، قالوا : أسلمنا ، ولم يقاتلك بنو أسد {[27057]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عَمرو بن علي الباهلي ، حدثنا المعتمر بن سليمان : سمعت داود الطفاوي يحدث عن أبي مسلم{[27058]} البجلي{[27059]} ، عن زيد بن أرقم قال : اجتمع أناس من العرب فقالوا : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل ، فإن يك نبيا فنحن أسعد الناس به ، وإن يك ملكا نعش بجناحه . قال : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قالوا ، فجاءوا إلى حجرته فجعلوا ينادونه وهو في حجرته : يا محمد ، يا محمد . فأنزل الله [ عز وجل ] {[27060]} : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ } قال : فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني فمدها ، فجعل يقول : " لقد صدق الله قولك يا زيد ، لقد صدق الله قولك يا زيد " .
ورواه ابن جرير ، عن الحسن بن عرفة ، عن المعتمر بن سليمان ، به{[27061]} .
وقوله : وَلَوْ أنّهُمْ صَبَرُوا حتى تَخْرُجَ إلَيْهِمْ لَكانَ خَيْرا لهُمْ يقول تعالى ذكره : ولو أن هؤلاء الذين ينادونك يا محمد من وراء الحجرات صبروا فلم ينادوك حتى تخرج إليهم إذا خرجت ، لكان خيرا لهم عند الله ، لأن الله قد أمرهم بتوقيرك وتعظيمك ، فهم بتركهم نداءك تاركون ما قد نهاهم الله عنه ، واللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يقول تعالى ذكره : الله ذو عفو عمن ناداك من وراء الحجاب ، إن هو تاب من معصية الله بندائك كذلك ، وراجع أمر الله في ذلك وفي غيره رحيم به أن يعاقبه على ذنبه ذلك من بعد توبته منه .
ومعنى قوله : { ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم } أنه يكسبهم وقارا بين أهل المدينة ويستدعي لهم الإقبال من الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يخرج إليهم غير كاره لندائهم إياه ، ورفع أصواتهم في مسجده فكان فيما فعلوه جلافة .
فقوله : { خيراً } يجوز أن يكون اسم تفضيل ، ويكون في المعنى : لكان صبرهم أفضل من العجلة . ويجوز أن يكون اسما ضدّ الشر ، أي لكان صبرهم خيراً لما فيه من محاسن الخُلق بخلاف ما فعلوه فليس فيه خير ، وعلى الوجهين فالآية تأديب لهم وتعليمهم محاسن الأخلاق وإزالة لعوائد الجاهلية الذميمة .
وإيثار { حتى } في قوله : { حتى تخرج إليهم } دون ( إلى ) لأجل الإيجاز بحذف حرف ( أن ) فإنه ملتزم حذفه بعد { حتّى } بخلافه بعد ( إلى ) فلا يجوز حذفه .
وفي تعقيب هذا اللوم بقوله : { واللَّه غفور رحيم } إشارة إلى أنه تعالى لم يُحْص عليهم ذنباً فيما فعلوا ولا عَرّض لهم بتوبة . والمعنى : والله شأنه التجاوز عن مثل ذلك رحمة بالناس لأن القوم كانوا جاهلين .