السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَلَوۡ أَنَّهُمۡ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخۡرُجَ إِلَيۡهِمۡ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (5)

{ ولو أنهم } أي : المنادي والراضي { صبروا } أي : حبسوا أنفسهم ومنعوها من مناداتهم والصبر : حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها ، وهو حبس فيه شدّة وصبر . { حتى تخرج إليهم } من تلقاء نفسك عند فراغ ما أنت فيه مما يهمك من واردات الحق ومصالح الخلق { لكان } أي : الصبر { خيراً لهم } أي : من استعجالهم إيقاظك في الهاجرة .

ومما لو قرعوا الباب بالأظافر كما كان يفعل غيرهم من الصحابة . قال أبو عثمان : الأدب عند الأكابر يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلا والخير في الأولى والعقبى ا . ه فإنهم لو تأدّبوا لربهم لزادهم صلى الله عليه وسلم في الفضل فأعتق جميع سبيهم وأطلقهم بلا فداء . { والله } أي : المحيط بجميع صفات الكمال { غفور } أي : ستور ذنب من تاب من جهله { رحيم } أي : يعاملهم معاملة الراحم ، فيسبغ عليهم نعمه . وقال قتادة : «نزلت في ناس من أعراب تميم جاءوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فنادوا على الباب اخرج إلينا يا محمد فإن مدحنا زين وذمّنا شين فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين .

فقالوا : نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت ولكن هاتوا . فقام شاب منهم فذكر فضله وفضل قومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس وكان خطيب النبيّ صلى الله عليه وسلم قم فأجبه فأجابه . وقام شاعر فذكر أبياتاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت : أجبه فأجابه . فقام الأقرع بن حابس فقال : إنّ محمداً المولى تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولاً وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولاً ثم دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يضرّك ما كان من قبل هذا ثم أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم ، وكان قد تخلف في ركابهم عمرو بن الأهيم لحداثة سنه فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطاهم فأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل فيهم { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ } الآيات الأربع إلى قوله تعالى : { غفور رحيم } وقال زيد بن أرقم جاء ناس من العرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يكن نبياً فنحن أسعد الناس به ، وإن يكن ملكاً نعش في جناحه . فجاؤوا فجعلوا ينادون من وراء الحجرات يا محمد . فأنزل الله تعالى { إنّ الذين ينادونك } الآية وقيل : المراد بأكثرهم كلهم . لأنّ العرب تذكر الأكثر وتريد الكل احتراز عن الكذب واحتياطاً في الكلام . لأنّ الكل ما لا يحيط به علم الإنسان في بعض الأشياء فيقول الأكثر وفي اعتقاده الكل .

ثم إنّ الله تعالى مع إحاطة علمه بالأمور أتى بما يناسب كلامهم وفيه إشارة إلى لطيفة ، وهي أنّ الله تعالى يقول مع إحاطة علمي بكل شيء جريت على عادتكم استحساناً لتلك العادة ، وهي الاحتراز عن الكذب فلا تتركوها واجعلوا اختياري ذلك في كلامي دليلاً قاطعاً على رضاي بذلك منكم .

تنبيه : جعل الزمخشري أنهم من ولو أنهم فاعلاً بفعل مقدر أي ولو ثبت صبرهم وجعل اسم كان ضميراً عائداً على هذا الفاعل . ولكن مذهب سيبويه أنها في محل رفع بالابتداء وحينئذ يكون اسم كان ضميراً عائداً على صبرهم المفهوم وجرى على الأوّل البيضاوي ، وعلى الثاني الجلال المحلى .