التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَلَوۡ أَنَّهُمۡ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخۡرُجَ إِلَيۡهِمۡ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (5)

بسم الله الرحمان الرحيم

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( 1 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ( 2 ) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ( 3 ) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ( 4 ) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 5 ) } .

تعليق على الآية

{ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم1 }

والآيات الأربع التالية لها وما فيها من صور وتلقين .

في الآية الأولى : نهي للمسلمين عن أن يسبقوا النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ما قولا أو عملا أو أن يبدو رأيا في أمر قبله انتظارا لما يكون من النبي صلى الله عليه وسلم من قول وعمل ورأي ، والوقوف عنده مع حثهم على تقوى الله تعالى السميع لكل ما يقال العليم بكل شيء الذي يجب مراقبته وعدم الخروج عن أمره ونهيه .

وفي الآية الثانية : نهي لهم عن رفع أصواتهم في حضوره حتى تعلو على صوته . وعن مخاطبته بالأساليب التي يخاطب بها بعضهم بعضا وعن الجهر أمامه بقول لا يليق مما قد يجهر به بعضهم أمام بعض . وتنبيه لهم على أن مثل التصرف من شأنه أن يحبط ويضيع ثمرات أعمالهم الحسنة عند الله ، من دون أن يشعروا على سبيل التحذير والعظة .

وفي الآية الثالثة : تنويه ( على سبيل توكيد النهي في الآية الثانية والدعوة إلى التأسي } بالذين يخفضون أصواتهم في حضور النبي صلى الله عليه وسلم ، فهؤلاء قد طهر الله قلوبهم فجعلها تشعر بواجب تقوى الله والتأدب في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم . ولهم عند الله من أجل ذلك المغفرة وعظيم الأجر .

وفي الآيتين الرابعة والخامسة : تنديد بالذين ينادون النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته حينما لا يجدونه في المسجد ، فأكثرهم جاهلون لا يعقلون ، ولو أنهم انتظروا وصبروا حتى يخرج إليهم حين يحين وقت خروجه لكان خيرا وأفضل .

ومع ذلك فالله غفورا رحيم يشمل أصحاب هذه الهفوة التي تصدر عن جهل وحسن نية بغفرانه ورحمته .

والآيات احتوت ثلاثة مواضيع متجانسة وتأديبية نحو شخص النبي صلى الله عليه وسلم كما هو واضح ، وقد روى المفسرون{[1964]} لكل موضوع مناسبة خاصة . بل منهم من روى لبعضها أكثر من رواية ومناسبة فرووا لمناسبة نزول الآية الأولى أو الموضوع الأول :

( 1 ) أن وفدا من بني تميم قدم إلى المدينة فاقترح أبو بكر تأمير شخص منهم عليهم واقترح عمر تأمير شخص آخر . فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي ونفى عمر ذلك وتماريا حتى ارتفعت أصواتهما ، وكان ذلك في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن يسألهما رأيهما أو يبدي رأيه فكان ذلك سبب نزول الآية . وممن روى هذه الرواية البخاري عن عبد الله ابن الزبير{[1965]} .

( 2 ) وأنها نزلت بمناسبة صيام بعض المسلمين قبل أن يثبت هلال رمضان ويعلن النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الصوم .

( 3 ) وأنها نزلت بمناسبة ذبح بعضهم يوم عيد الأضحى قبل أن يذبح النبي صلى الله عليه وسلم ورووا لمناسبة الآية الثانية أو الموضوع الثاني أنها نزلت في مسلم اسمه ثابت ابن قيس كان جهير الصوت ، فكان صوته يعلو على صوت الرسول صلى الله عليه وسلم . وقد روى الشيخان في فصل التفسير أنه لما نزلت الآية جلس في بيته منكسا رأسه فافتقده رسول الله فقال له رجل : أنا أعلم علمه فذهب إليه فسأله ما شأنك ؟ قال : شر ، كان صوتي يرتفع فوق صوت رسول الله ، فحبط عملي وصرت من أهل النار ، فأتى الرجل النبي فأخبره فقال : اذهب إليه . فقل له : إنك لست من أهل النار ، ولكنك من أهل الجنة{[1966]} .

ورووا لمناسبة الآيتين الرابعة والخامسة .

أن النبي بعث سرية إلى قوم فهرب رجالهم واستاقت السرية عيالهم سبيا . فلم يلبث رجالهم أن جاءوا إلى المدينة للتفاهم مع النبي وافتكاك السبي فدخلوا المسجد ، فلما رآهم عيالهم أجهشوا بالبكاء ، فأخذوا ينادون النبي من وراء حجراته بأصوات عالية حتى أيقظوه من قيلولته فنزلت . والرواية تروي أن النبي حكم في أمرهم رجلا مسلما من قومهم فاقترح أن يطلق النصف ويأخذ الفداء عن النصف فوافق النبي على ذلك .

وأنها نزلت في وفد تميم الذين قدموا إلى المدينة فلما لم يجدوا النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد أخذوا ينادونه من وراء حجراته بأصوات عالية حتى أيقظوه من قيلولته .

ومهما يكن من أمر فالمتبادر والمستلهم من مضمون الآيات وروحها أنها نزلت مستهدفة تأديب المسلمين وتعليمهم ما يجب عليهم من التكريم والتوقير لشخص النبي صلى الله عليه وسلم والاحتشام والأدب في حضرته في مناسبة حدوث ما روته الروايات من مناسبات ، أو ما كان من بابها . والذي نرجحه استئناسا من تجانس المواضيع وتساوق الآيات حتى لكأنها وحدة تامة أنها نزلت دفعة واحدة . وأنها نزلت بعد المناسبات جميعها التي نزلت في صددها استهدافا لذلك التأديب والتعليم ، بل إننا نرجح أن هذه الآيات ومعظم ما بعدها من آيات السورة قد نزل دفعة واحدة أو متتابعة ؛ لأنها تحتوي ما تحتويه هذه الآيات من تأديب وتعليم ويتألف من مجموعها سلسلة تأديبية رائعة ومتساوقة .

والآيات الخمس التي نحن في صددها قد تدل : أولا : على ما كان عليه العرب إجمالا من عدم التقيد بمثل هذه الآداب مهما كان الفارق بينهم ، حيث كانوا يخاطبون الكبير والرئيس مخاطبة الند للند وبدون احتشام كبير . وثانيا : على أن الفريق المخلص من المؤمنين قد امتلأت نفسه بعظمة النبي صلى الله عليه وسلم وحقه من التكريم ، فكان يراعي نحوه ما يجب عليه من الأدب قبل نزول الآيات .

هذا ، ومع تقرير كون واجب تكريم النبي صلى الله عليه وسلم ولاحتشام في حضوره ومخاطبته لا يدانيه واجب وكون الآيات خاصة بشخصه الكريم فإن هذا لا يمنع من أن يقال والله أعلم : إن التأديب الرفيع الذي احتوته الآيات يصح أن يكون أدبا عاما وطابعا من طوابع الأدب الإسلامي .

كلمة عن حجرات رسول الله صلى الله عليه وسلم

من المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم عقب حلوله في المدينة اشترى أرضا ومهدها وجعل لها سورا ذا أربعة أضلاع فيه أبواب ، وجعل القسم الأكبر منه مسجدا للصلاة والاجتماع بالمسلمين والقضاء بينهم وحل مشاكلهم وتعليمهم ووعظهم والتداول في شؤون الإسلام والدعوة واستقبال الوفود الخ ، وجعل له سقفا من سعف النخل مقاما على أعمدة من جذوع الشجر . وأنشأ في أحد أضلاعه حجرة لسكناه ، ثم أخذ ينشئ إلى جانبها حجرات أخرى كلما زاد عدد زوجاته ، وقد توفي صلى الله عليه وسلم في إحداها الخاصة بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ودفن فيها .


[1964]:انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير وابن الزمخشري، ومنهم من روى بعض الروايات، ومنهم من رواها جميعا أو معظمها
[1965]:التاج فصل التفسير ج 4 ص 213 ت 214
[1966]:التاج ج 4 ص 214 وفي التفسير رواية أخرى في نفس المآل، وإنما تختلف في الصورة فلم نر ضرورة لإيرادها اكتفاء برواية الشيخين الوثقى