قوله تعالى : { وهم ينهون عنه } أي : ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { وينأون عنه } ، أي : يتباعدون عنه بأنفسهم ، نزلت في كفار مكة ، قال محمد بن الحنفية ، والسدي ، والضحاك ، وقال قتادة : ينهون عن القرآن ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم ، ويتباعدون عنه ، وقال ابن عباس ومقاتل : نزلت في أبي طالب كان ينهى الناس عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم ويمنعهم ، وينأى عن الإيمان به ، أي : يبعد ، حتى روي أنه اجتمع إليه رؤوس المشركين وقالوا : خذ شاباً من أصبحنا وجهاً ، وادفع إلينا محمداً ، فقال أبو طالب : ما أنصفتموني ، أدفع إليكم ولدي لتقتلوه وأربي ولدكم ؟ . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإيمان ، فقال : لولا أن تعيرني قريش لأقررت بها عينك ، ولكن أذب عنك ما حييت ، وقال فيه أبيات شعر :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وابشر بذاك وقر بذاك منك عيونا
ودعوتني وعرفت أنك ناصحي *** ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت ديناً قد علمت بأنه *** من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة *** لوجدتني سمحا بذاك مبينا
قوله تعالى : { وإن يهلكون } ، أي ما يهلكون .
قوله تعالى : { إلا أنفسهم } أي : لا يرجع وبال فعلهم إلا إليهم ، وأوزار الذين يصدونهم عليهم .
{ 26 } { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }
وهم : أي المشركون بالله ، المكذبون لرسوله ، يجمعون بين الضلال والإضلال ، ينهون الناس عن اتباع الحق ، ويحذرونهم منه ، ويبعدون بأنفسهم عنه ، ولن يضروا الله ولا عباده المؤمنين ، بفعلهم هذا ، شيئا . { وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } بذلك .
ثم بين - سبحانه - أنهم لا يكتفون بمحاربة الدعوة الإسلامية ، بل هم لفجورهم - يحرضون غيرهم على محاربتها معهم فقال - تعالى - :
{ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } .
النهى : الزجر ، والنأى : البعد ، والضمير " هم " يعود على المشركين .
والمعنى : إن هؤلاء المشركين لا يكتفون بمحاربة الحق ، بل يزجرون الناس عن اتباعه ، ويبعدونهم عن الاستماع إليه . فهم قد جمعوا بين فعلين قبيحين : محاربتهم للحق وحمل غيرهم معهم على محاربته والبعد عنه .
وهم بهذا العمل الباطل القبيح ما يهلكون إلا أنفسهم ولكنهم لا يشعرون بذلك لانطماس بصيرتهم ، وقسوة قلوبهم .
وعملهم هذا يدل على أنهم كانوا معترفين فى قرارة أنفسهم بأن القرآن حق ، لأنهم لو كانوا يعتقدون أنه أساطير الأولين - كما زعموا - لتركوا الناس يسمعونها ليتأكدوا من أنها خرافات وأوهام ، ولكنهم لما كانوا مؤمنين ببلاغة القرآن وصدقه ، فإنهم نهوا غيرهم عن سماعه حتى لا يؤمن به وابتعدوا هم عنه حتى لا يتأثروا به فيدخلوا فى دين الإسلام ، ولقد حكى الله عنهم هذا المعنى فى قوله - تعالى -
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } والضمير فى قوله - تعالى - { عَنْهُ } يرجع إلى النبى صلى الله عليه وسلم وما جاء به من آيات .
ويرى بعض المفسرين أن الضمير " هم " يرجع إلى عشيرة النبى صلى الله عليه وسلم فيكون المعنى : وهم - أى أعمام النبى صلى الله عليه وسلم وعشيرته ينهون الناس عن إيذائه والتعرض له بسوء ، ولكنهم فى الوقت نفسه ينأون عنه أى يبتعدون عن دعوته فلا يؤمنون بها ، ولعل أوضح مثل لذلك أبو طالب ، فقد كان يدافع عن النبى صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يدخل فى الإسلام مع تصريحه بأنه هو الدين الحق .
ومما روى عنه فى هذا المعنى قوله :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم . . . حتى أوسد فى التراب دفيناً
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضه . . . وابشر بذاك وقر منك عيوناً
ودعوتنى وزعمت أنك ناصحى . . . فلقد صدقت وكنت قبل أميناً
وعرضت ديناً قد عرفت بأنه . . . من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار مسبة . . . لوجدتنى سمحاً بذاك يقيناً
والذى تطمئن إليه النفس أن الرأى الأول هو الأرجح . لأن الكلام مسوق فى بيان موقف المشركين من النبى صلى الله عليه وسلم ، وأنهم قد بلغ بهم السفه والعناد أنهم لا يكتفون بالإعراض عن الحق الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بل تعدى شرهم إلى غيرهم ، وأنهم كانوا يحرضون الناس على إيذائه وعلى الابتعاد عنه .
ولقد كانوا كذلك ينهون الناس عن الاستماع إليه - وهم كبراؤهم - وينأون هم عن الاستماع خشية التأثر والاستجابة :
( وهم ينهون عنه ، وينأون عنه ، وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ) . .
لقد كانوا على يقين من أنه ليس أساطير الأولين . وأن مواجهته بأساطير الأولين لا تجدي لو ترك الناس يسمعون ! وكان كبراء قريش يخافون على أنفسهم من تأثير هذا القرآن فيها كما يخافون على أتباعهم . فلم يكن يكفي إذن في المعركة بين الحق النفاذ بسلطانه القوي ، والباطل الواهن المتداعي ، أن يجلس النضر بن الحارث يروي للناس أساطير الأولين ! ومن ثم كانوا ينهون أتباعهم أن يستمعوا لهذا القرآن ؛ كما كانوا هم أنفسهم ينأون بأنفسهم - خوفا عليها أن تتأثر وتستجيب - وحكاية الأخنس بن شريق ، وأبي سفيان بن حرب ، وعمرو بن هشام وهم يقاومون جاذبية القرآن التي تشدهم شدا إلى التسمع في خفية لهذا القرآن حكاية مشهورة في السيرة .
وهذا الجهد كله الذي كانوا يبذلونه ليمنعوا أنفسهم ويمنعوا غيرهم من الاستماع لهذا القرآن ؛ ومن التأثر به والاستجابة له . . هذا الجهد كله إنما كانوا يبذلونه في الحقيقة لإهلاك أنفسهم - كما يقرر الله - سبحانه - : ( وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون )
وهل يهلك إلا نفسه من يجاهد نفسه ويجاهد غيره دون الهدى والصلاح والنجاة ، في الدنيا والآخرة ؟
إنهم مساكين أولئك الذين يجعلون همهم كله في الحيلولة بين أنفسهم والناس معهم وبين هدى الله ! مساكين ! ولو تبدوا في ثياب الجبابرة وزي الطواغيت ! مساكين فهم لا يهلكون إلا أنفسهم في الدنيا والآخرة . وإن بدا لهم حينا من الدهر وبدا للمخدوعين بالزبد أنهم رابحون مفلحون .
وقوله : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } وفي معنى { يَنْهَوْنَ عَنْهُ } قولان : أحدهما : أن المراد أنهم ينهون الناس عن اتباع الحق ، وتصديق الرسول ، والانقياد للقرآن ، وينسأون عنه أي : [ ويبتعدون هم عنه ، فيجمعون بين الفعلين القبيحين لا ينتفعون ]{[10622]} ولا يتركون أحدًا ينتفع [ ويتباعدون ]{[10623]} قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ } قال : ينهون الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به .
وقال محمد بن الحنفية : كان كفار قريش لا يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وينهون عنه .
وكذا قال مجاهد وقتادة ، والضحاك ، وغير واحد . وهذا القول أظهر ، والله أعلم ، وهو اختيار ابن جرير .
والقول الثاني : رواه سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عمن سمع ابن عباس يقول في قوله : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ } قال : نزلت في أبي طالب كان ينهى [ الناس ]{[10624]} عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذى{[10625]}
وكذا قال القاسم بن مُخَيْمِرةَ ، وحبيب بن أبي ثابت ، وعطاء بن دينار : إنها نزلت في أبي طالب . وقال سعيد بن أبي هلال : نزلت في عمومة النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وكانوا عشرة ، فكانوا أشد الناس معه في العلانية وأشد الناس عليه في السر . رواه ابن أبي حاتم .
وقال محمد بن كعب القرظي : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ } أي : ينهون الناس عن قتله .
[ و ]{[10626]} قوله : { وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } أي : يتباعدون منه{[10627]} { وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } أي : وما يهلكون بهذا الصنيع ، ولا يعود وباله إلا عليهم ، وما يشعرون .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } . .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنأوْنَ عَنْهُ فقال بعضهم : معناه : هؤلاء المشركون المكذّبون بآيات الله ، ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والقبول منه ، وينأون عنه : يتباعدون عنه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص بن غياث وهانيء بن سعيد ، عن حجاج ، عن سالم ، عن ابن الحنفية : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ قال : يتخلفون عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا يجيبونه ، وينهون الناس عنه .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ يعني : ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به . ويَنْأَوْنَ عَنْهُ يعني : يتباعدون عنه .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ أن يتبع محمد ويتباعدون هم منه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ يقول : لا يلقونه ، ولا يدعون أحدا يأتيه .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول في قوله : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ يقول : عن محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ جمعوا النهي والنأي . والنأي : التباعد .
وقال بعضهم : بل معناه : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ عن القرآن أن يُسمع له ويعمل بما فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ قال : ينهون عن القرآن ، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم . ويَنْأَوْنَ عَنْهُ ويتباعدون عنه .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ قال قريش عن الذكر . ويَنْأَوْنَ عَنْهُ يقول يتباعدون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ قريش عن الذكر ، ينأون عنه : يتباعدون .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ قال : ينهون عن القرآن وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ويتباعدون عنه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يَنْأَوْنَ عَنْهُ قال : ينأون عنه : يبعدون .
وقال آخرون : معنى ذلك : وهم ينهون عن أذى محمد صلى الله عليه وسلم ، وينأون عنه : يتباعدون عن دينه واتباعه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع وقبيصة ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عمن سمع ابن عباس يقول : نزلت في أبي طالب ، كان ينهى عن محمد أن يُؤْذَي وينأي عما جاء به أن يؤمن به .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : ثني من سمع ابن عباس يقول : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ قال : نزلت في أبي طالب ينهي عنه أن يؤذي ، وينأي عما جاء به .
حدثنا الحسن بن يحيى ، أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عمن سمع ابن عباس : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ قال : نزلت في أبي طالب كان ينهي المشركين أن يؤذوا محمدا ، وينأي عما جاء به .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبدة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن القاسم بن مخيمرة ، قال : كان أبو طالب ينهي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا يصدّقه .
حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ومحمد بن بشر ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن القاسم بن مخيمرة ، في قوله : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ قال : نزلت في أبي طالب . قال ابن وكيع : قال بشر : كان أبو طالب ينهي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يؤذي ، ولا يصدّق به .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن أبي محمد الأسديّ ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : ثني من سمع ابن عباس يقول في قول الله تعالى : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ نزلت في أبي طالب كان ينهي عن أذى محمد ، وينأى عما جاء به أن يتبعه .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن القاسم بن مخيمرة ، في قوله : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ قال : نزلت في أبي طالب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن عبد العزيز بن سياه ، عن حبيب ، قال : ذاك أبو طالب ، في قوله : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني سعيد بن أبي أيوب ، قال : قال عطاء بن دينار في قوله الله : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ويَنْأَوْنَ عَنْهُ أنها نزلت في أبي طالب ، أنه كان ينهى الناس عن إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وينأى عما جاء به من الهدى .
وأولى هذه الأقوال بتأويل الاَية ، قول من قال : تأويله : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم من سواهم من الناس ، وينأوْنَ عن اتباعه . وذلك أن الاَيات قبلها جرت بذكر جماعة المشركين العادلين به ، والخبر عن تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والإعراض عما جاءهم به من تنزيل الله ووحيه ، فالواجب أن يكون قوله : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ خبرا عنهم ، إذ لم يأتنا ما يدلّ على انصراف الخبر عنهم إلى غيرهم ، بل ما قبل هذه الاَية وما بعدها يدلّ على صحة ما قلنا من أن ذلك خبر عن جماعة مشركي قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يكون خبرا عن خاصّ منهم .
وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الاَية : وإن ير هؤلاء المشركون يا محمد كلّ آية لا يؤمنوا بها ، حتى إذا جاءوك يجادلونك ، يقولون : إن هذا الذي جئتنا به إلا أحاديث الأوّلين وأخبارهم ، وهم ينهون عن استماع التنزيل وينأون عنك ، فيبعدون منك ومن اتباعك . وإنْ يُهْلِكُونَ إلاّ أَنْفُسَهُمْ يقول : وما يهلكون بصدّهم عن سبيل الله وإعراضهم عن تنزيله وكفرهم بربهم إلا أنفسهم لا غيرها ، وذلك أنهم يكسبونها بفعلهم ذلك سخط الله وأليم عقابه وما لا قبل لها به . وَما يَشْعُرُونَ يقول : وما يدرون ما هم مكسبوها من الهلاك والعطب بفعلهم . والعرب تقول لكلّ من بعد عن شيء : قد نأي عنه ، فهو ينأي نأيا ، ومسموع منهم : نَأَيْتُك بمعنى نأيت عنك وأما إذا أرادوا : أبعدتك عني ، قالوا : أنأيتك . ومن نأيتك بمعنى نأيت عنك قول الحطيئة :
نَأَتْكَ أُمامَةُ إلا سُؤَالاَ ***وأبْصَرْتَ مِنْها بطَيْفٍ خَيالاَ
الضمير في قوله : { وهم } عائد على المذكورين قبل ، والضمير في { عنه } قال قتادة ومجاهد يعود على القرآن المتقدم ذكره في قوله أن يفهموه وقال ابن عباس وابن الحنفية والضحاك : هو عائد على محمد عليه السلام والمعنى أنهم ينهون غيرهم ويبعدون هم بأنفسهم و «النأي » البعد{[4876]} ، { وإن يهلكون } معناه ما يهلكون إلا أنفسهم بالكفر الذي يدخلهم جهنم ، وقال ابن عباس أيضاً والقاسم وحبيب بن أبي ثابت وعطاء بن دينار المراد بقوله { وهم ينهون عنه } أبو طالب ومن كان معه على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الدوام في الكفر{[4877]} ، والمعنى وهم ينهون عنه من يريد إذايته { وينأون عنه } بإيمانهم واتباعهم فهم يفعلون الشيء وخلافه ، ويقلق على هذا القول رد قوله { وهم } على جماعة الكفار المتقدم ذكرها ، لأن جميعهم لم يكن ينهى عن إذاية النبي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : ويتخرج ذلك ويحسن على أن تقدر القصد ذكر ما ينعى على فريق فريق من الجماعة التي هي كلها مجمعة على الكفر ، فخرجت العبارة عن فريق من الجماعة بلفظ يعم الجماعة ، لأن التوبيخ على هذه الصورة أغلظ عليهم ، كما تقول إذا شنعت على جماعة فيها زناة وسرقة وشربة خمر هؤلاء يزنون ويسرقون ويشربون الخمر وحقيقة كلامك أن بعضهم يفعل هذا وبعضهم يفعل هذا ، فكأنه قال : من هؤلاء الكفرة من يستمع وهم ينهون عن إذايته ولا يؤمنون به ، أي : منهم من يفعل ذلك { وما يشعرون } معناه : ما يعلمون علم حسّ ، وهو مأخوذ من الشعار الذي يلي بدن الإنسان ، والشعار مأخوذ من الشعر ، ونفي الشعور مذمة بالغة إذ البهائم تشعر وتحس ، فإذا قلت لا يشعر فقد نفيت عنه العلم النفي العام الذي يقتضي أنه لا يعلم ولا المحسوسات .
قال القاضي أبو محمد : وقرأ الحسن «وينون عنه » ألقيت حركة الهمزة على النون على التسهيل القياسي .
عطف على جملة { ومنهم من يستمع إليك } ، والضميران المجروران عائدان إلى القرآن المشار إليه باسم الإشارة في قولهم : { إن هذا إلاّ أساطير الأولين } [ الأنعام : 25 ] . ومعنى النهي عنه النهي عن استماعه . فهو من تعليق الحكم بالذات . والمراد حالة من أحوالها يعيّنها المقام . وكذلك الناي عنه معناه النأي عن استماعه ، أي هم ينهون الناس عن استماعه ويتباعدون عن استماعه . قال النابغة :
لقد نَهَيتُ بني ذبيانَ عن أُقُر *** وعن تربّعهم في كلّ أصفار
يعني نهيتهم عن الرعي في ذي أقر ، وهو حمى الملك النعمان بن الحارث الغسّاني .
وبين قوله : { ينهون وينأون } الجناس القريب من التمام .
والقصر في قوله : { وإنْ يهْلِكُون إلاّ أنْفسهم } قصر إضافي يفيد قلب اعتقادهم لأنّهم يظنّون بالنهي والنأي عن القرآن أنّهم يضرّون النبي صلى الله عليه وسلم لئلاّ يتّبعوه ولا يتّبعه الناس ، وهم إنّما يُهلكون أنفسهم بدوامهم على الضلال وبتضليل الناس ، فيحملون أوزارهم وأوزار الناس ، وفي هذه الجملة تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام وأنّ ما أرادوا به نكايته إنّما يضرّون به أنفسهم .
وأصل الهلاك الموت . ويطلق على المضرّة الشديدة لأنّ الشائع بين الناس أنّ الموت أشدّ الضرّ . فالمراد بالهلاك هنا ما يلقونه في الدنيا من القتل والمذلّة عند نصر الإسلام وفي الآخرة من العذاب .
والنأي : البعد . وهو قاصر لا يتعدّى إلى مفعول إلاّ بحرف جرّ ، وما ورد متعدّياً بنفسه فذلك على طريق الحذف والإيصال في الضرورة .
وعقّب قوله : { وإن يهلكون إلاّ أنفسهم } بقوله : { وما يشعرون } زيادة في تحقيق الخطأ في اعتقادهم ، وإظهاراً لضعف عقولهم مع أنّهم كانوا يعدّون أنفسهم قادة للناس ، ولذلك فالوجه أن تكون الواو في قوله : { وما يشعرون } للعطف لا للحال ليفيد ذلك كون ما بعدها مقصوداً به الإخبار المستقلّ لأنّ الناس يعُدّونهم أعظم عقلائهم .