قوله تعالى : { ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون* ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه } على دينه ، { رأفةً } وهي أشد الرقة ، { ورحمةً } كانوا متوادين بعضهم لبعض ، كما قال الله تعالى في وصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { رحماء بينهم }( الفتح- 29 ) ، { ورهبانية ابتدعوها } من قبل أنفسهم ، وليس هذا بعطف على ما قبله ، وانتصابه بفعل مضمر كأنه قال : وابتدعوا رهبانية أي جاؤوا بها من قبل أنفسهم ، { ما كتبناها } ، أي ما فرضناها ، { عليهم إلا ابتغاء رضوان الله } يعني : ولكنهم ابتغوا رضوان الله بتلك الرهبانية ، وتلك الرهبانية ما حملوا أنفسهم من المشاق في الامتناع من المطعم والمشرب والملبس والنكاح والتعبد في الجبال ، { فما رعوها حق رعايتها } أي لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها بل ضيعوها وكفروا بدين عيسى ، فتهودوا وتنصروا ، ودخلوا في دين ملوكهم ، وتركوا الترهب ، وأقام منهم أناس على دين عيسى عليه الصلاة والسلام حتى أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم فآمنوا به ، وذلك قوله تعالى : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } وهم الذين ثبتوا عليها وهم أهل الرأفة والرحمة ، { وكثير منهم فاسقون } وهم الذين تركوا الرهبانية وكفروا بدين عيسى عليه الصلاة والسلام .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأني عبد الله بن حامد ، أنبأنا أحمد بن عبد الله المزني ، حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا الصعق بن حرب ، عن عقيل الجعدي ، عن أبي إسحاق عن سويد بن غفلة ، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة ، نجا منها ثلاث وهلك سائرهن ، فرقة وازت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى عليه الصلاة والسلام ، فأخذوهم وقتلوهم ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى عليه السلام فساحوا في البلاد وترهبوا ، وهم الذين قال الله عز وجل فيهم : { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون " . وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي : " يا ابن أم عبد هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل الرهبانية ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى عليه السلام يعملون بالمعاصي ، فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم ، فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات ، فلم يبق منهم إلا القليل ، فقالوا : إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو له فقالوا : تعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى عليه السلام ، يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم ، فتفرقوا في غيران الجبال ، وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ، ثم تلا هذه الآية : { ورهبانية ابتدعوها } الآية . { فآتينا الذين آمنوا منهم } يعني من ثبتوا عليها أجرهم ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا ابن أم عبد أتدري ما رهبانية أمتي ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : الهجرة والجهاد ، والصلاة والصوم ، والحج والعمرة ، والتكبير على التلاع " . وروي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن لكل أمة رهبانية ، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله " . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت ملوك بني إسرائيل بعد عيسى عليه السلام بدلوا التوراة والإنجيل ، وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله فقيل لملوكهم : لو جمعتم هؤلاء الذين شقوا عليكم فقتلتموهم أو دخلوا فيما نحن فيه ، فجمعهم ملكهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها ، فقالوا : نحن نكفيكم أنفسنا ، فقالت طائفة : ابنوا لنا أسطوانة ، ثم ارفعونا إليها ، ثم أعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا ، ولا نرد عليكم ، وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش ، فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا ، وقالت طائفة : ابنوا لنا دوراً في الفيافي نحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم ، ففعلوا بهم ذلك فمضى أولئك على منهاج عيسى عليه الصلاة والسلام ، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب ، فجعل الرجل يقول : نكون في مكان فلان فنتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان ، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم ، فذلك قوله عز وجل : { ورهبانية ابتدعوها } أي ابتدعها هؤلاء الصالحون ، { فما رعوها حق رعايتها } يعني الآخرين الذين جاؤوا من بعدهم ، { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } يعني الذين ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ، { وكثير منهم فاسقون } هم الذين جاؤوا من بعدهم .
قال : فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل انحط رجل من صومعته وجاء سياح من سياحته وصاحب دير من ديره ، وآمنوا به فقال الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } الخطاب لأهل الكتابين من اليهود والنصارى ، يقول : يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله في محمد صلى الله عليه وسلم { وآمنوا برسوله } محمد صلى الله عليه وسلم ، { يؤتكم كفلين } نصيبين ، { من رحمته } يعني يؤتكم أجرين لإيمانكم بعيسى عليه الصلاة والسلام ، والإنجيل وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن . وقال قوم : انقطع الكلام عند قوله :{ ورحمة } ثم ابتدأ : { ورهبانية ابتدعوها } ، وذلك أنهم تركوا الحق فأكلوا الخنزير وشربوا الخمر وتركوا الوضوء والغسل من الجنابة والختان ، فما رعوها ، يعني : الطاعة والملة { حق رعايتها } كناية عن غير مذكور ، { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } وهم أهل الرأفة والرحمة ، { وكثير منهم فاسقون } وهم الذين ابتدعوا الرهبانية ، وإليه ذهب مجاهد . معنى قوله : { إلا ابتغاء رضوان الله } على هذا التأويل : ما أمرناهم وما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله ، وما أمرناهم بالترهب . قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا } بموسى وعيسى اتقوا الله . { وآمنوا برسوله } محمد صلى الله عليه وسلم { يؤتكم كفلين } نصيبين { من رحمته } . وروينا عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها ، ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وعبد أحسن عبادة الله ونصح سيده " . { ويجعل لكم نوراً تمشون به } قال ابن عباس ومقاتل : يعني على الصراط ، كما قال : { نورهم يسعى بين أيديهم }( التحريم- 8 ) ، ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النور هو القرآن . وقال مجاهد : هو الهدى والبيان ، أي يجعل لكم سبيلاً واضحاً في الدين تهتدون به ، { ويغفر لكم والله غفور رحيم } وقيل : لما سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله عز وجل : { أولئك يؤتون أجرهم مرتين }( القصص- 54 ) قالوا للمسلمين : أما من آمن منا بكتابكم فله أجره مرتين لإيمانه بكتابكم وبكتابنا ، وأما من لم يؤمن منا فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا ؟ فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته } فجعل لهم الأجرين إذا آمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وزادهم النور والمغفرة .
{ ثُمَّ قَفَّيْنَا } أي : أتبعنا { عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } خص الله عيسى عليه السلام ؛ لأن السياق مع النصارى ، الذين يزعمون اتباع عيسى عليه السلام ، { وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ } الذي هو من كتب الله الفاضلة ، { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً } كما قال تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } الآيات .
ولهذا كان النصارى ألين من غيرهم قلوبا ، حين كانوا على شريعة عيسى عليه السلام .
{ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا } والرهبانية : العبادة ، فهم ابتدعوا من عند أنفسهم عبادة ، ووظفوها على أنفسهم ، والتزموا لوازم ما كتبها الله عليهم ولا فرضها ، بل هم الذين التزموا بها من تلقاء أنفسهم ، قصدهم بذلك رضا الله تعالى ، ومع ذلك { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أي : ما قاموا بها ولا أدوا حقوقها ، فقصروا من وجهين : من جهة ابتداعهم ، ومن جهة عدم قيامهم بما فرضوه على أنفسهم . فهذه الحال هي الغالب من أحوالهم .
ومنهم من هو مستقيم على أمر الله ، ولهذا قال : { فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ } أي : الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، مع إيمانهم بعيسى ، كل أعطاه الله على حسب إيمانه { وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ }
{ ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ } والتقفيه إتباع الرسول برسول آخر يقال : قفا فلان آثر فلان . . . إذا اتبعه ، وقفى على أثره بفلان ، إذا اتبعه إباه . . . وأصله من القفا وهو مؤخر العنق . . . فكأن الذى يتبع أثر غيره قد أتاه من جهة قفاه .
وضمير الجمع فى قوله { على آثَارِهِم } يعود إلى نوح وإبراهيم وذريتهما الذين كانت فيهم النبوة والكتاب .
أى : ثم أرسلنا بعدهم رسولا بعد رسول . حتى انتهينا إلى عيسى - عليه السلام - { وَآتَيْنَاهُ الإنجيل } أى : أوحيناه إليه ليكون هداية لقومه .
قالوا : والإنجيل كلمة يونانية من النجل وهو الأصل ، يقال : رحم الله ناجليه ، أى : والديه ، وقيل : الإنجيل مأخوذ من نجلت الشىء إذا استخرجته وأظهرته . ويقال للماء الذى يخرج من البئر : نجل . وقيل هو من النجل الذى هو سعة العين ، ومنه قولهم : طعنة نجلاء ، أى : واسعة .
وسمى الإنجيل بهذا الاسم ، لأنه سعة ونور وضياء ، أنزله الله - تعالى - على نبيه عيسى ، ليكون بشارة وهداية لقومه .
وأعاد - سبحانه - مع عيسى - عليه السلام - كلمة { قَفَّيْنَا } للإشعار بأن المسافة التى كانت بين عيسى - عليه السلام - وبين آخر رسول من بنى إسرائيل كانت مسافة طويلة .
ثم بين - سبحانه - بعض السمات التى كانت واضحة فى أتباع عيسى فقال : { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله } .
والرأفة : اللين وخفض الجناح ، والرحمة . العطف والشفقة .
قالوا : وعطف الرحمة على الرأفة من باب عطف العام على الخاص ، لأن الرأفة ، رحمة خاصة ، تتعلق بدفع الأذى والضر . أما الرحمة فهى أشمل وأعم ، لأنها عطف وشفقة على كل من كان فى حاجة إليه .
و " الرهبانية " معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان . وهم النصارى المبالغون فى الرهبة والخوف من الله - تعالى - والزهد فى متاع الحياة الدنيا .
قال بعض العلماء : والرهبانية : اسم للحالة التى يكون عليها الراهب متصفا بها فى غالب شئون دينه ، والياء فيها ياء النسبة إلى الراهب على غير قياس ، لأن قياس النسب إلى الراهب : الراهبية ، والنون فيها مزيدة للمبالغة فى النسبة ، كما زيدت فى قولهم : شعرانى ، لكثير الشعر ، ولحيانى لعظيم اللحية .
وقوله - تعالى - : { ورهبانية ابتدعوها . . . منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر .
أى : وابتدعوها رهبانية ابتدعوها ، فهو من باب الاشتغال .
ويصح أن يكون معطوفا على قوله : { رَأْفَةً وَرَحْمَةً } وقوله : { ابتدعوها } فى موضع الصفة ، والكلام على حذف مضاف ، أى : وجعلنا فى قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة لهم .
وجملة : ما كتبناها عليهم ، مستأنفة مبينة لجملة { ابتدعوها } .
والاستثناء فى قوله : { إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله } منقطع .
والضمير فى قوله : { فَمَا رَعَوْهَا } يعود لهؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية .
والمعنى : ثم أتبعنا كل رسول من ذرية نوح وإبراهيم برسول آخر ، حتى انتهينا إلى عيسى - عليه السلام - فأرسلناه إلى بنى إسرائيل وآتيناه الإنجيل وجعلنا فى قلوب الذين اتبعوه وآمنوا به { رَأْفَةً } أى لينا وخفض جناح { وَرَحْمَةً } أى : شفقة وعطفا ، وحب رهبانية مبتدعة منهم ، أى : هم الذين ابتدعوها واخترعوها واختاروها لأنفسهم ، زهداً فى متاع الحياة الدنيا .
ونحن ما كتبنا هذه الرهبانية ، وإنما هم الذين ابتدعوها من أجل أن يرضى الله عنهم { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أى : ولكنهم بمرور الأيام ، لم يحافظ كثير منهم على ما تقتضيه هذه الرهبانية من زهد وتقى وعفاف . . . بل صارت طقوسا خالية من العبادة الصحيحة ، ولم يصبر على تكاليفها إلا عدد قليل منهم .
ولذا ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { فَآتَيْنَا الذين آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } .
أى : أما الذين استمروا على اتباعهم لعيسى - عليه السلام - وعلى الإيمان بالحق إيمانا صحيحا خاليا مما يفسده . . . فقد أعطيناهم أجورهم الطيبة كاملة غير منقوصة .
وأما الذين بدلوا ما جاء به عيسى - عليه السلام - حيث كفروا به وقالوا : الله ثالث ثلاثة ، أو قالوا : المسيح ابن الله فسيلقون ما يستحقونه من عقاب .
وقوله : { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } يدل على أن الذين خرجوا عن الدين الحق الذى جاء به عيسى - عليه السلام - وفسقوا عن أمر ربهم . . . أكثر من الذين آمنوا به إيمانا صحيحا .
قال الإمام ابن جرير : واختلف أهل التأويل فى الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها . فقال بعضهم : هم الذين ابتدعوها ، ولم يقوموا بها ، ولكنهم بدلوا وخالفوا دين الله الذى بعث به عيسى ، فتنصروا وتهودوا .
وقال آخرون : بل هم قوم جاءوا من بعد الذين ابتدعوها فلم يرعوها حق رعايتها ، لأنهم كانوا كفارا . . . فهم الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوها حق رعايتها .
وأولى الأقوال فى ذلك بالصحة أن يقال : إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها ، بعض الطوائف التى ابتدعتها ، وذلك لأن الله - تعالى - قد أخبر أنه أتى الذين آمنوا منهم أجرهم ، فدل ذلك على أن منهم من قد رعاها حق رعايتها .
وكثير منهم - أى : من الذين ابتدعوا الرهبانية - أهل معاص ، وخروج عن طاعة الله - تعالى - وعن الإيمان به .
وقال الإمام الآلوسى ما ملخصه : وقوله - تعالى - : { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } جملة مستأنفة .
وقوله - سبحانه - : { إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله } استثناء منقطع ، أى : ما فرضناها نحن عليهم رأسا ، ولكن ابتدعوها وألزموا بها أنفسهم ابتغاء رضوان الله .
وقوله - تعالى - : { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أى : ما حافظوا عليها حق المحافظة ، ذم لهم من حيث إن ذلك كالنذر ، وهو عهد مع الله - تعالى - يجب رعايته ، لا سيما إذا قصد به رضاه - عز وجل .
وجائز أن يكون الاستثناء متصلا من أعم العلل . أى : ما قضيناها عليهم لشىء من الأشياء ، إلا ليبتغوا بها رضوان الله ، ويستحقوا بها الثواب ، ومن ضرورة ذلك أن يحافظوا عليها . . . إلا أنهم لم يحافظوا عليها ، ولم يرعوها حق رعايتها .
والفرق بين الوجهين : أن الأول يقتضى أنهم لم يؤمروا بها أصلا ، وأن الثانى يقتضى أنهم أمروا بها ، لابتغاء رضوان الله ، فما رعوها حق رعايتها .
والظاهر أن الضمير فى قوله { فَمَا رَعَوْهَا } يعود لأولئك الذين ابتدعوا الرهبانية ، والمراد نفى وقوع الرعاية من جميعهم ، أى : فما رعاها كلهم بل بعضهم .
فالآية الكريمة تثنى على الذين أحسنوا اتباع عيسى - عليه السلام - فطهروا أرواحهم من كل دنس ، وزهدوا فى متع الحياة الدنيا . . . وتذم الذين بدلوا ما جاء به عيسى - عليه السلام - وقالوا الأقوال الباطلة فى شأنه ، وفعلوا الأفعال القبيحة التى تغضب الله - تعالى - :
وقرب نهاية الخط يجيء عيسى بن مريم :
ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم . .
أي على آثار السابقين من ذرية نوح وإبراهيم . فكانت الرسالة ممتدة واحدة على إثر واحدة حتى جاء عيسى ابن مريم .
ويذكر هنا صفة بارزة من صفات الذين اتبعوا عيسى بن مريم : ( وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ) . . وهم الثمرة الطبيعية لدعوة المسيح - عليه السلام - وروحها السمحة وتطهرها الروحي ، وشفافيتها الوضيئة والرأفة والرحمة ظاهرة واضحة في المؤمنين حقيقة برسالة عيسى عليه السلام ، ممن أحسنوا اتباعه . وقد أشارت إليها آيات أخرى في القرآن الكريم ، كما حفظ منها التاريخ صورا يرويها الرواة عن النجاشي وعن وفد نجران وعن أفراد ممن وفدوا على دار الإسلام بعد ظهوره راغبين في الإسلام ، بحكم ما استقر في قلوبهم من الحق ، مذ كانوا أتباع عيسى بن مريم بحق .
كذلك يذكر النص هنا ظاهرة أخرى عرفت في تاريخ أتباع المسيح عيسى بن مريم : ( ورهبانية ابتدعوها - ما كتبناها عليهم - إلا ابتغاء رضوان الله ) . .
والراجح في تفسير الآية أن هذه الرهبانية التي عرفها تاريخ المسيحية كانت اختيارا من بعض أتباع عيسى عليه السلام ، ابتدعوها من عند أنفسهم ابتغاء رضوان الله ، وابتعادا عن أوضار الحياة ، ولم يكتبها الله عليهم ابتداء . ولكنهم حين اختاروها وأوجبوها على أنفسهم صاروا مرتبطين أمام الله بأن يرعوا حقوقها ، ويحافظوا على مقتضياتها من تطهر وترفع ، وقناعة وعفة ، وذكر وعبادة . . مما يحقق في أنفسهم حقيقة التجرد لله ، التي قصدوا إليها بهذه الرهبانية التي ابتدعوها .
ولكنها انتهت إلى أن تصبح في الغالب طقوسا وشعائر خالية من الروح ، وأن يتخذها الكثيرون مظهرا عاريا من الحقيقة . فلا يصبر على تكاليفها إلا عدد منهم قليل :
( فما رعوها حق رعايتها . فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، وكثير منهم فاسقون ) . .
والله لا يأخذ الناس بالمظاهر والأشكال ، ولا بالطقوس والمسوح . إنما يأخذهم بالعمل والنية ، ويحاسبهم على حقيقة الشعور والسلوك . وهو الذي يعلم خبايا القلوب وذوات الصدور .
وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ } وهم الحواريون { رَأْفَةً وَرَحْمَةً } أي : رأفة وهي الخشية { وَرَحْمَةً } بالخلق .
وقوله : { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا } أي : ابتدعتها أمة النصارى { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } أي : ما شرعناها لهم ، وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم .
وقوله : { إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ } فيه قولان ، أحدهما : أنهم قصدوا بذلك رضوان الله ، قاله سعيد بن جبير ، وقتادة . والآخر : ما كتبنا عليهم ذلك إنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله .
وقوله : { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أي : فما قاموا بما التزموه حق القيام . وهذا ذم لهم من وجهين ، أحدهما : في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله . والثاني : في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله ، عز وجل .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا إسحاق بن أبي حمزة أبو يعقوب الرازي ، حدثنا السندي بن عبدويه{[28314]} حدثنا بُكَيْر بن معروف ، عن مُقاتِل بن حَيَّان ، عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه ، عن جده بن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا ابن مسعود " . قلت : لبيك يا رسول الله . قال : " هل علمت أن بني إسرائيل افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة ؟ لم ينج منها إلا ثلاث فرق ، قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، فدعت إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فقاتلت الجبابرة فقُتلت فصبرت ونجت ، ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال ، فقامت بين الملوك والجبابرة فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فقتلت وقطعت بالمناشير وحرقت بالنيران ، فصبرت ونجت . ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال ولم تطق القيام بالقسط ، فلحقت بالجبال فتعبدت وترهبت ، وهم الذين ذكرهم الله ، عز وجل : { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } {[28315]}
وقد رواه ابن جرير بلفظ آخر من طريق أخرى فقال : حدثنا يحيى بن أبي طالب ، حدثنا داود بن المحبر ، حدثنا الصَّعِق بن حَزْن ، حدثنا عقيل الجعدي ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن سُوَيْد بن غفلة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اختلف من كان قبلنا على ثلاث وسبعين فرقة ، نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم . . . " وذكر نحو ما تقدم ، وفيه : " { فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ } هم الذين آمنوا بي وصدقوني { وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } وهم الذين كذبوني وخالفوني " {[28316]}
ولا يقدح في هذه المتابعة لحال داود بن المحبر ، فإنه أحد الوضاعين للحديث ، ولكن{[28317]} قد أسنده أبو يعلى ، وسنده{[28318]} عن شيبان بن فَرُّوخ ، عن الصَّعِق بن حَزْن ، به مثل ذلك {[28319]} فقوي الحديث من هذا الوجه .
وقال ابن جرير ، وأبو عبد الرحمن النسائي - واللفظ له - : أخبرنا الحسين بن حُرَيْث ، حدثنا الفضل بن موسى ، عن سفيان بن سعيد ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما{[28320]} قال : كان ملوك بعد عيسى ، عليه السلام ، بدلت التوراة والإنجيل ، فكان منهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ، فقيل لملوكهم : ما نجد شيئًا أشد من شتم يشتمونا هؤلاء ، إنهم يقرؤون : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 ] ، هذه {[28321]} الآيات ، مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم ، فادعهم فليقرؤوا كما نقرأ ، وليؤمنوا كما آمنا . فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل ، إلا ما بدلوا منها ، فقالوا : ما تريدون إلى ذلك ؟ دعونا : فقالت طائفة منهم : ابنوا لنا أسطوانة ، ثم ارفعونا إليها ، ثم أعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نرد عليكم . وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش ، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا . وقالت طائفة : ابنوا لنا دورًا في الفيافي ، ونحتفر الآبار ونحترث{[28322]} البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم . وليس أحد من القبائل إلا له حميم فيهم ، ففعلوا ذلك فأنزل الله ، عز وجل : { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } والآخرون قالوا : نتعبد كما تعبد فلان ، ونسيح كما ساح فلان ، ونتخذ دورًا كما اتخذ فلان ، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم{[28323]} فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا القليل ، انحط منهم رجل من صومعته ، وجاء سائح من سياحته ، وصاحب الدير من ديره ، فآمنوا به وصدقوه ، فقال الله ، عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } أجرين بإيمانهم بعيسى ابن مريم والتوراة والإنجيل ، وبإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقهم قال{[28324]} { وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } [ الحديد : 28 ] : القرآن ، واتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ } الذين يتشبهون بكم { أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } {[28325]}
هذا السياق فيه غرابة ، وسيأتي تفسير هاتين الآيتين الأخريين على غير هذا ، والله أعلم .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أحمد بن عيسى ، حدثنا عبد الله بن وهب ، حدثني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء : أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة زمان عمر بن عبد العزيز وهو أمير ، وهو يصلي صلاة خفيفة{[28326]} كأنها صلاة مسافر أو قريبًا منها ، فلما سلم قال : يرحمك الله ، أرأيت هذه الصلاة المكتوبة ، أم شيء تنفلته ؟ قال : إنها المكتوبة ، وإنها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخطأت إلا شيئًا سهوت عنه ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم ، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات ، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " . ثم غدوا من الغد فقالوا : نركب فننظر ونعتبر قال : نعم فركبوا جميعًا ، فإذا هم بديار قفر قد باد أهلها وانقرضوا وفنوا ، خاوية على عروشها فقالوا : تعرف هذه الديار ؟ قال : ما أعرفني بها وبأهلها . هؤلاء أهل الديار ، أهلكهم البغي والحسد ، إن الحسد يطفئ نور الحسنات ، والبغي يصدق ذلك أو يكذبه ، والعين تزني والكف والقدم والجسد واللسان ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه{[28327]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعمُر ، حدثنا عبد الله ، أخبرنا سفيان ، عن زيد العَمِّي ، عن أبي إياس ، عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لكل نبي رهبانية ، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل " {[28328]}
ورواه الحافظ أبو يعلى ، عن عبد الله بن محمد بن أسماء ، عن عبد الله بن المبارك به ولفظه : " لكل أمة رهبانية ، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله " {[28329]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين - هو ابن محمد - حدثنا ابن عياش - يعني إسماعيل - عن الحجاج بن مروان{[28330]} الكلاعي ، وعقيل بن مدرك السلمي ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، أن رجلا جاءه فقال : أوصني فقال : سألت عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبلك ، أوصيك بتقوى الله ، فإنه رأس كل شيء ، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام ، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن ، فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض . تفرد به أحمد{[28331]}
قد تقدم في رواية النسائي عن ابن عباس : أنه حمل هذه الآية على مؤمني أهل الكتاب ، وأنهم يؤتون أجرهم مرتين كما في الآية التي في القصص{[28332]} وكما في حديث الشعبي عن أبي بُرْدَة ، عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران ، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مَوَاليه فله أجران ، ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران " . أخرجاه في الصحيحين{[28333]}
ووافق ابن عباس على هذا التفسير الضحاك ، وعتبة بن أبي حكيم ، وغيرهما ، وهو اختيار ابن جرير .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ قَفّيْنَا عَلَىَ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ثم أتبعنا على آثارهم برسلنا الذين أرسلناهم بالبيّنات على آثار نوح إبراهيم برسلنا ، وأتبعنا بعيسى ابن مريم وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ يعني : الذين اتبعوا عيسى على منهاجه وشريعته رأَفَةً وهو أشدّ الرحمة وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها يقول : أحدثوها ما كَتَبَناها عَلَيْهِمْ يقول : ما افترضنا تلك الرهبانية عليهم إلاّ ابْتِغاءِ رِضْوَانِ اللّهِ يقول : لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله فَمَا رَعَوْها حَقّ رِعايَتِها .
واختلف أهل التأويل في الذين لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها ، فقال بعضهم : هم الذين ابتدعوها ، لم يقوموا بها ، ولكنهم بدّلوا وخالفوا دين الله الذي بعث به عيسى : فتنصّروا وتهوّدوا .
وقال آخرون : بل هم قوم جاؤوا من بعد الذين ابتدعوها فلم يرعوها حقّ رعايتها ، لأنهم كانوا كفارا ولكنهم قالوا : نفعل كالذي كانوا يفعلون من ذلك أوّليا ، فهم الذين وصف الله بأنهم لم يرعوها حق رعايتها .
وبنحو الذي قلنا في تأويل هذه الأحرف إلى الموضع الذي ذكرنا أن أهل التأويل فيه مختلفون في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الّذِينَ اتّبَعُوه رأفَةً ورحْمَةً فهاتان من الله ، والرهبانية ابتدعها قوم من أنفسهم ، ولم تُكتب عليهم ، ولكن ابتغوا بذلك وأرادوا رضوان الله ، فما رعوها حقّ رعايتها ، ذُكر لنا أنهم رفضوا النساء ، واتخذوا الصوامع .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَرهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها قال : لم تُكتب عليهم ، ابتدعوها ابتغاء رضوان الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ قال فلم ؟ قال : ابتدعوها ابتغاء رضوان الله تطوّعا ، فما رَعوْها حقّ رعايتها . ذكر من قال : الذين لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها كانوا غير الذين ابتدعوها . ولكنهم كانوا المريدي الاقتداء بهم .
حدثنا الحسين بن الحريث ( أبو عمار المَرْوَزِيّ ) قال : حدثنا الفضل بن موسى ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : كانت ملوك بعد عيسى بدّلوا التوراة والإنجيل ، وكان فيهم مؤمنون يقرأون التوراة والإنجيل ، فقيل لملكهم : ما نجد شيئا أشدّ علينا من شتم يشتُمناه هؤلاء أنهم يقرأون وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهَ فأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ هؤلاء الاَيات مع ما يعببوننا به في قراءتهم ، فادعهم فليقرأوا كما نقرأ ، وليؤمنوا كما آمنا به ، قال : فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل ، أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل ، إلا ما بدّلوا منها ، فقالوا : ما تريدون إلى ذلك فدعونا قال : فقالت طائفة منهم : ابنوا لنا أسطوانة ، ثم ارفعونا إليها ، ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا ، فلا نردّ عليكم ، وقالت طائفة منهم : دعونا نسيح في الأرض ، ونهيم ونشرب كما تشرب الوحوش ، فإن قدرتم علينا بأرضكم فاقتلونا ، وقالت طائفة : ابنوا لنا دورا في الفيافي ، ونحتفر الاَبار ، ونحترث البقول ، فلا نردّ عليكم ، ولا نمرّ بكم ، وليس أحد من أولئك إلا وله حميم فيهم قال : ففعلوا ذلك ، فأنزل الله جلّ ثناؤه وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إلاّ ابْتِغاءَ رِضْوَانِ اللّهِ فَما رَعَوْها حَق رِعايَتِها الاَخرون قالوا : نتعبد كما تعبد فلان ، ونسيح كما ساح فلان . ونتخذ دورا كما اتخذ فلان ، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم قال : فلما بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل ، انحطّ رجل من صومعته ، وجاء سائح من سياحته ، وجاء صاحب الدار من داره ، وآمنوا به وصدّقوه ، فقال الله جلّ ثناؤه يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا الله وآمَنُوا برسوله يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْن مِنْ رَحْمَتِهِ قال : أجرين لإيمانهم بعيسى ، وتصديقهم بالتوراة والإنجيل ، وإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقهم به . قال وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورا تَمْشُونَ بِهِ القرآن ، واتباعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال : لِئَلاّ يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ ألاّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللّهِ وأنّ الفَضْلَ بِيَدٍ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ .
حدثنا يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا داود بن المحبر ، قال : حدثنا الصعق بن حزن ، قال : حدثنا عقيل الجعديّ ، عن أبي إسحاق الهمدانيّ ، عن سويد بن غفلة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اخْتَلَفَ مَنْ كانَ قَبْلَنا على إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، نَجا مِنْهُمْ ثَلاثٌ وَهَلَكَ سائِرُهُمْ : فِرْقَةٌ مِنَ الثّلاثِ وَازَتِ المُلُوكَ وَقاتَلَتْهُمْ على دِينِ اللّهِ وَدِينِ عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِمْ ، فَقَتَلَتْهُمُ المُلُوكُ وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طاقَةٌ بِموَازَاة المُلُوكِ ، فأقامُوا بَينَ ظَهْرَانيْ قَوْمِهِمْ يَدْعُونَهُمْ إلى دِينِ اللّهِ وَدِينِ عِيَسى ابن مَرْيَم صَلَوَاتُ اللّهُ عَلَيْهِ ، فَقَتَلَتْهُمُ المُلُوكُ ، وَنَشَرْتهُمْ بالمِناشِير وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طاقَةٌ بِمُوَازَاةِ المُلُوكِ ، وَلا بالمُقام بَينَ ظَهْرَانِي قَوْمِهِمْ يَدْعُوَنَهُمْ إلى دِينِ اللّه وَدِينِ عِيسَى صَلَواتُ اللّهُ عَلَيْهِ ، فَلَحِقُوا بالبَرَارِي والجِبالِ ، فَتَرَهّبُوا فِيها » فَهُوَ قَوْلُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ قال : «ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله » فَمَا رَعَوْها حَقّ رِعايَتِها قال : «ما رعاها الذين من بعدهم حقّ رعايتها » فآتَيْنا الّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ قال : «وهم الذين آمنوا بي ، وصدّقوني » . قال وكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ قال : «فهم الذين جحدوني وكذّبوني » .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها قال الاَخرون ممن تعبد من أهل الشرك ، وفني من فني منهم ، يقولون : نتعبّد كما تعبد فلان ، ونسيح كما ساح فلان ، وهم في شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم . ذكر من قال : الذين لم يرعوها حقّ رعايتها : الذين ابتدعوها .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَجَعَلْنا فِي قُلُوب الّذِينَ اتّبَعُوهُ رأفَةً وَرَحْمَةً . . . إلى قوله : حَقّ رِعايِتها يقول : ما أطاعوني فيها ، وتكلّموا فيها بمعصية الله ، وذلك أن الله عزّ وجلّ كتب عليهم القتال قبل أن يبعث محمدا صلى الله عليه وسلم ، فلما استخرج أهل الإيمان ، ولم يبق منهم إلا قليل ، وكثر أهل الشرك وذهب الرسل وقهروا ، اعتزلوا في الغيران ، فلم يزل بهم ذلك حتى كفرت طائفة منهم ، وتركوا أمر الله عزّ وجلّ ودينه ، وأخذوا بالبدعة وبالنصرانية وباليهودية ، فلم يرعوها حقّ رعايتها وثبتت طائفة على دين عيسى ابن مريم صلوات الله عليه ، حين جاءهم بالبينات وبعث الله عزّ وجلّ محمدا رسولاً صلى الله عليه وسلم وهم كذلك فذلك قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْن مِنْ رَحْمَتِهِ . إلى وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُواها ما كَتَبْناها عَلَيْهمْ كان الله عزّ وجل كتب عليهم القتال قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم فلما استخرج أهل الإيمان ، ولم يبق منهم إلا القليل ، وكثر أهل الشرك ، وانقطعت الرسل ، اعتزلوا الناس ، فصاروا في الغيران ، فلم يزالوا كذلك حتى غيرت طائفة منهم ، فتركوا دين الله وأمره وعهده الذي عهده إليهم ، وأخذوا بالبدع ، فابتدعوا النصرانية واليهودية ، فقال الله عزّ وجلّ لهم : ما رَعَوْها حَقّ رِعايَتِها وثبتت طائفة منهم على دين عيسى صلوات الله عليه ، حتى بَعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فآمنوا به .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا زكريا بن أبي مريم ، قال : سمعت أبا أمامة الباهليّ يقول : إن الله كتب عليكم صيام رمضان ، ولم يكتب عليكم قيامه ، وإنما القيام شيء ابتدعتموه ، وإن قوما ابتدعوا بدعة لم يكتبها الله عليهم ، ابتغوا بها رضوان الله ، فلم يرعوها حقّ رعايتها ، فعابهم الله بتركها ، فقال : وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إلاّ ابْتِغاءَ رِضْوَانِ اللّهِ فَما رَعَوْها حَقّ رِعايتِها .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال : إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها ، بعض الطوائف التي ابتدعتها ، وذلك أن الله جلّ ثناؤه أخبر أنه آتى الذين آمنوا منهم أجرهم قال : فدلّ بذلك على أن منهم من قد رعاها حقّ رعايتها ، فلو لم يكن منهم من كان كذلك لم يكن مستحقّ الأجر الذي قال جلّ ثناؤه : فآتَيْنا الّذِينَ آمَنوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ إلا أن الذين لم يرعوها حقّ رعايتها ممكن أن يكونوا كانوا على عهد الذين ابتدعوها ، وممكن أن يكونوا كانوا بعدهم ، لأن الذين هم من أبنائهم إذا لم يكونوا رعوها ، فجائز في كلام العرب أن يقال : لم يرعها القوم على العموم . والمراد منهم البعض الحاضر ، وقد مضى نظير ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب .
وقوله : فآتَيْنا الّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ يقول تعالى ذكره : فأعطينا الذين آمنوا بالله ورسله من هؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية ثوابهم على ابتغائهم رضوان الله ، وإيمانهم به وبرسوله في الاَخرة ، وكثير منهم أهل معاص ، وخروج عن طاعته ، والإيمان به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد فآتَيْنا الّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ قال : الذين رعوا ذلك الحقّ .
{ قفينا } معناه : جئنا بهم بعد الأولين ، وهو مأخوذ من القفا ، أي جاء بالثاني في قفا الأول ، فيجيء الأول بين يدي الثاني ، ومنه القوافي التي تأتي أواخر أبيات الشعر ، ثم ذكر «عيسى » عليه السلام تشريفاً وتخصيصاً .
وقرأ الحسين : «الأنجيل » بفتح الهمزة ، قال أبو الفتح : هذا مما لا نظير له . و : { رأفة ورحمة ورهبانية } مفعولات { جعلنا } . والجعل في هذه الآية بمعنى : الخلق .
وقوله : { ابتدعوها } صفة ل { رهبانية } وخصها بأنها ابتدعت ، لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيها ، وأما الرهبانية هم ابتدعوها ، والمراد بالرأفة والرحمة : حب بعضهم في بعض وتوادهم ، والمراد بالرهبانية : رفض النساء ، واتخاذ الصوامع ، والمعتزلة تعرب { رهبانية } أنها نصب بإضمار فعل يفسره { ابتدعوها } وليست بمعطوفة على الرأفة والرحمة ويذهبون في ذلك إلى أن الإنسان يخلق أفعاله فيعربون الآية على مذهبهم ، وكذلك أعربها أبو علي .
وروي في ابتداعهم الرهبانية أنهم افترقوا ثلاث فرق ، ففرقة قاتلت الملوك على الدين ، فقتلت وغلبت . وفرقة قعدت في المدن يدعون إلى الدين ويبينونه ، فأخذتها الملوك ونشرتها بالمناشر وقتلوا ، وفرقة خرجت إلى الفيافي وبنت الصوامع والديارات ، وطلبت أن تسلم على أن تعتزل فتركت وتسموا بالرهبان{[10989]} ، واسمهم مأخوذ من الرهب ، وهو الخوف ، فهذا هو ابتداعهم ولم يفرض الله ذلك عليهم ، لكنهم فعلوا ذلك { ابتغاء رضوان الله } ، هذا تأويل أبي أمامة وجماعة ، وقال مجاهد : المعنى { كتبناها عليهم } { ابتغاء رضوان الله } . ف «كتب » على هذا بمعنى : قضى ، ويحتمل اللفظ أن يكون المعنى : ما كتبناها عليهم إلا في عموم المندوبات ، لأن ابتغاء مرضاة الله بالقرب والنوافل مكتوب على كل أمة فالاستثناء على هذا احتمال متصل .
واختلف الناس في الضمير الذي في قوله : { فما رعوها } من المراد به ؟ فقيل إن الذين ابتدعوا الرهبانية بأنفسهم لم يدوموا على ذلك ولا وفوه حقه ، بل غيروا وبدلوا ، قاله ابن زيد وغيره ، والكلام سائغ وإن كان فيهم من رعى : أي لم يرعوها بأجمعهم ، وفي هذا التأويل لزوم الإتمام لكل من بدأ بتطوع ونفل أنه يلزمه أن يرعاه حق رعيه . قال ابن عباس وغيره : الضمير للملوك الذين حاربوهم وأجلوهم وقال الضحاك وغيره : الضمير للأخلاف الذين جاؤوا بعد المبتدعين لها ، وباقي الآية بين . وقرأ ابن مسعود : «ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها » .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ثم أتبعنا على آثارهم برسلنا الذين أرسلناهم بالبيّنات على آثار نوح إبراهيم برسلنا، وأتبعنا بعيسى ابن مريم" وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ "يعني: الذين اتبعوا عيسى على منهاجه وشريعته "رأَفَةً" وهو أشدّ الرحمة "وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها" يقول: أحدثوها "ما كَتَبَناها عَلَيْهِمْ" يقول: ما افترضنا تلك الرهبانية عليهم "إلاّ ابْتِغاءِ رِضْوَانِ اللّهِ" يقول: لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله "فَمَا رَعَوْها حَقّ رِعايَتِها".
واختلف أهل التأويل في الذين لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها؛ فقال بعضهم: هم الذين ابتدعوها، لم يقوموا بها، ولكنهم بدّلوا وخالفوا دين الله الذي بعث به عيسى: فتنصّروا وتهوّدوا.
وقال آخرون: بل هم قوم جاؤوا من بعد الذين ابتدعوها فلم يرعوها حقّ رعايتها، لأنهم كانوا كفارا ولكنهم قالوا: نفعل كالذي كانوا يفعلون من ذلك أوّليا، فهم الذين وصف الله بأنهم لم يرعوها حق رعايتها...
عن قتادة "وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الّذِينَ اتّبَعُوه رأفَةً ورحْمَةً" فهاتان من الله، والرهبانية ابتدعها قوم من أنفسهم، ولم تُكتب عليهم، ولكن ابتغوا بذلك وأرادوا رضوان الله، فما رعوها حقّ رعايتها، ذُكر لنا أنهم رفضوا النساء، واتخذوا الصوامع...
حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا داود بن المحبر، قال: حدثنا الصعق بن حزن، قال: حدثنا عقيل الجعديّ، عن أبي إسحاق الهمدانيّ، عن سويد بن غفلة، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اخْتَلَفَ مَنْ كانَ قَبْلَنا على إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، نَجا مِنْهُمْ ثَلاثٌ وَهَلَكَ سائِرُهُمْ: فِرْقَةٌ مِنَ الثّلاثِ وَازَتِ المُلُوكَ وَقاتَلَتْهُمْ على دِينِ اللّهِ وَدِينِ عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلَتْهُمُ المُلُوكُ وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طاقَةٌ بِموَازَاة المُلُوكِ، فأقامُوا بَينَ ظَهْرَانيْ قَوْمِهِمْ يَدْعُونَهُمْ إلى دِينِ اللّهِ وَدِينِ عِيَسى ابن مَرْيَم صَلَوَاتُ اللّهُ عَلَيْهِ، فَقَتَلَتْهُمُ المُلُوكُ، وَنَشَرْتهُمْ بالمِناشِير وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طاقَةٌ بِمُوَازَاةِ المُلُوكِ، وَلا بالمُقام بَينَ ظَهْرَانِي قَوْمِهِمْ يَدْعُوَنَهُمْ إلى دِينِ اللّه وَدِينِ عِيسَى صَلَواتُ اللّهُ عَلَيْهِ، فَلَحِقُوا بالبَرَارِي والجِبالِ، فَتَرَهّبُوا فِيها» فَهُوَ قَوْلُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَرَهْبانِيّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ قال: «ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله» فَمَا رَعَوْها حَقّ رِعايَتِها قال: «ما رعاها الذين من بعدهم حقّ رعايتها» فآتَيْنا الّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ قال: «وهم الذين آمنوا بي، وصدّقوني». قال وكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ قال: «فهم الذين جحدوني وكذّبوني»...
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الذين وصفهم الله بأنهم لم يرعوا الرهبانية حقّ رعايتها، بعض الطوائف التي ابتدعتها، وذلك أن الله جلّ ثناؤه أخبر أنه آتى الذين آمنوا منهم أجرهم قال: فدلّ بذلك على أن منهم من قد رعاها حقّ رعايتها، فلو لم يكن منهم من كان كذلك لم يكن مستحقّ الأجر الذي قال جلّ ثناؤه: "فآتَيْنا الّذِينَ آمَنوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ" إلا أن الذين لم يرعوها حقّ رعايتها ممكن أن يكونوا كانوا على عهد الذين ابتدعوها، وممكن أن يكونوا كانوا بعدهم، لأن الذين هم من أبنائهم إذا لم يكونوا رعوها، فجائز في كلام العرب أن يقال: لم يرعها القوم على العموم. والمراد منهم البعض الحاضر، وقد مضى نظير ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب.
وقوله: "فآتَيْنا الّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أجْرَهُمْ" يقول تعالى ذكره: فأعطينا الذين آمنوا بالله ورسله من هؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية ثوابهم على ابتغائهم رضوان الله، وإيمانهم به وبرسوله في الاَخرة، وكثير منهم أهل معاص، وخروج عن طاعته والإيمان به...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {فما رعوها حق رعايتها} أخبر أنهم ابتدعوا شيئا لم يكتب عليهم، ثم ذكر أنهم لم يرعوه حق رعايته؛ ذمهم لتركهم الرعاية لما ابتدعوه؛ ففيه دلالة أن من افتتح قربة، لم تفرض عليه من صلة أو صوم أو نحو ذلك ثم لم يقم بوفائها وإتمامها لحقه ذم كما لحق هؤلاء.
{أجرهم وكثير منهم فاسقون} أي كافرون.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وفقناهم للتراحم والتعاطف بينهم. والرهبانية: ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين، مخلصين أنفسهم للعبادة...
{فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} كما يجب على الناذر رعاية نذره؛ لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{وَجَعَلْنَا في قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً}.. والرأفة في المشهور: الرحمة، لكن قال بعض الأفاضل: إنها إذا ذكرت معها يراد بالرأفة ما فيه درء الشر ورأب الصدع، وبالرحمة ما فيه جلب الخير ولذا ترى في الأغلب تقديم الرأفة على الرحمة وذلك لأن درء المفاسد أهم من جلب المصالح..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم.. أي على آثار السابقين من ذرية نوح وإبراهيم. فكانت الرسالة ممتدة واحدة على إثر واحدة حتى جاء عيسى ابن مريم. ويذكر هنا صفة بارزة من صفات الذين اتبعوا عيسى بن مريم: (وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة).. وهم الثمرة الطبيعية لدعوة المسيح -عليه السلام- وروحها السمحة وتطهرها الروحي، وشفافيتها الوضيئة والرأفة والرحمة ظاهرة واضحة في المؤمنين حقيقة برسالة عيسى عليه السلام، ممن أحسنوا اتباعه. وقد أشارت إليها آيات أخرى في القرآن الكريم، كما حفظ منها التاريخ صورا يرويها الرواة عن النجاشي وعن وفد نجران وعن أفراد ممن وفدوا على دار الإسلام بعد ظهوره راغبين في الإسلام، بحكم ما استقر في قلوبهم من الحق، مذ كانوا أتباع عيسى بن مريم بحق. كذلك يذكر النص هنا ظاهرة أخرى عرفت في تاريخ أتباع المسيح عيسى بن مريم: (ورهبانية ابتدعوها -ما كتبناها عليهم- إلا ابتغاء رضوان الله).. والراجح في تفسير الآية أن هذه الرهبانية التي عرفها تاريخ المسيحية كانت اختيارا من بعض أتباع عيسى عليه السلام، ابتدعوها من عند أنفسهم ابتغاء رضوان الله، وابتعادا عن أوضار الحياة، ولم يكتبها الله عليهم ابتداء. ولكنهم حين اختاروها وأوجبوها على أنفسهم صاروا مرتبطين أمام الله بأن يرعوا حقوقها، ويحافظوا على مقتضياتها من تطهر وترفع، وقناعة وعفة، وذكر وعبادة.. مما يحقق في أنفسهم حقيقة التجرد لله، التي قصدوا إليها بهذه الرهبانية التي ابتدعوها. ولكنها انتهت إلى أن تصبح في الغالب طقوسا وشعائر خالية من الروح، وأن يتخذها الكثيرون مظهرا عاريا من الحقيقة. فلا يصبر على تكاليفها إلا عدد منهم قليل: (فما رعوها حق رعايتها. فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم، وكثير منهم فاسقون)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ثم} للتراخي الرتبي لأن بعثه رسل الله الذين جاءوا بعد نوح وإبراهيم ومن سَبق من ذريتهما أعظمُ مما كان لدى ذرية إبراهيم قبل إرسال الرسل الذين قفّى الله بهم...
والآثار: جمع الأثر، وهو ما يتركه السائر من مواقع رجليه في الأرض... {على آثارهم} عائد إلى نوح وإبراهيم وذريتهما الذين كانت فيهم النبوءة والكتاب، فأما الذين كانت فيهم النبوءة فكثيرون، وأما الذين كان فيهم الكتاب فمثل بني إسرائيل.و (على) للاستعلاء. وأصل (قفى على أثره)...بمعنى بعده بقليل أو متصلاً شأنه بشأن سابقه...
.ومعنى جَعْل الرأفة والرحمة في قلوب الذين اتّبعوه أن تعاليم الإنجيل الذي آتاه الله عيسى أمرتهم بالتخلق بالرأفة والرحمة فعملوا بها، أو إن ارتياضهم بسيرة عيسى عليه السلام أرسخَ ذلك في قلوبهم وذلك بجعل الله تعالى لأنه أمرهم به ويسّره عليهم،ذلك أن عيسى بُعث لتهذيب نفوس اليهود واقتلاع القسوة من قلوبهم التي تخلقوا بها في أجيال طويلة...
{كتبناها} فالمعنى: لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله، أي أن يبتغوا رضوان الله بكل عمل لا خصوص الرهبانية التي ابتدعوها، أي أن الله لم يكلفهم بها بعينها.
{إلا ابتغاء رضوان الله} يجوز أن يكون نفياً لتكليف الله بها ولو في عموم ما يشملها، أي ليست مما يشمله الأمر برضوان الله تعالى وهم ظنوا أنهم يرضون الله بها. ويجوز أن يكون نفياً لبعض أحوال كتابة التكاليف عليهم وهي كتابة الأمر بها بعينها فتكون الرهبانية مما يبتغَى به رضوان الله، أي كتبوها على أنفسهم تحقيقاً لما فيه رضوان الله...
{فما رعوها حق رعايتها} وفيه إشعار بأن ما يكتبه الله على العباد من التكاليف لا يشق على الناس العمل به. والرعي: الحفظ، أي ما حفظوها حق حفظها... فإذا وقع التقصير في التزامها في بعض الأزمان أو التفريط في بعض الأنواع فقد انتفى حق حفظها. و {حق رعايتها} من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي رعايتها الحق. وحق الشيء: هو وقوعه على أكمل أحوال نوعه، وهو منصوب على المفعول المطلق المبين للنوع.والمعنى: ما حفظوا شؤون الرهبانية حفظاً كاملاً فمصبّ النفي هو القيد بوصف {حق رعايتها}. وهذا الانتفاء له مراتب كثيرة، والكلام مسوق مساق اللوم على تقصيرهم فيما التزموه أو نذروه، وذلك تقهقر عن مراتب الكمال وإنما ينبغي للمتقي أن يكون مزداداً من الكمال...
{وكثير منهم فاسقون}، أي وكثير من الذين التزموا دينه خارجون عن الإِيمان، فالمراد بالفسق ما يشمل الكفر وما دونه مثل الذين بدلوا الكتاب واستخفوا بشرائعه...
... ثم يصف أتباعه {وَجَعَلْنَا في قُلُوبِ الذينَ اتّبَعُوهُ رَأْفَةً..} الرأفة هي التي تزيل الآلام والشقاء {وَرَحْمَة..} والرحمة أنْ تعطي بالزيادة والإحسان.
{وَرَهْبَانيَّة ابْتَدَعُوها..} الرهبانية هي المبالغة في التعبد، وقد بالغ أتباع عيسى في التعبد، فانقطعوا في الصوامع وحرموا أنفسهم من النساء، وقد وردت الرهبانية في كتاب ألّفوه سنة 1935، هذا الكتاب تكلم عن وادي النطرون وعنوان الكتاب: وادي النطرون ورهبانه، وقالوا: إن الرهبانية وُجدت من بعد عيسى بمائة وخمسين سنة...