قوله : { ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم } ، أي : أتبعنا على آثارهم ، أي : على آثار الذُّرية{[55493]} .
وقيل : على آثار نوح وإبراهيم برسلنا موسى وإلياس وداود ويونس ، وغيرهم ، { وقفّينا بعيسى ابن مريم } ، فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمّه .
{ وَآتَيْنَاهُ الإنجيل } : وهو الكتاب المنزل عليه وقد تقدم اشتقاقه في أول آل عمران .
وقراءة الحسن{[55494]} : بفتح الهمزة .
قال الزمخشري{[55495]} : أمره أهون من أمر البَرْطِيل والسَّكينة فيمن رواها بفتح «الفاء » ؛ لأن الكلمة أعجمية لا يلزم فيها حفظ أبنية العرب .
وقال ابن جنّي{[55496]} : قراءة الحسن - بفتح الهمزة - مثال مبالغة ، لا نظير له ؛ لأنه «أفعيل » وهو عندهم من نجلت الشيء إذا استخرجته لأنه يستخرج به الأحكام .
وقال ابن الخطيب : وغالب الظن أنه ما قرأه إلا عن سماع ؛ وله وجهان :
أحدهما : أنه شاذ ، كما حكي عن بعضهم في البَرْطِيل .
والثاني : أنه ظن الإنجيل أعجميًّا ، فحرف مثاله ؛ تنبيهاً على كونه أعجمياً .
قوله : { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه } على دينه يعني : الحواريين وأتباعهم{[55497]} { رَأْفَةً وَرَحْمَةً } .
قرأ الحسن{[55498]} : «رَآفة » بزنة «فَعَالة » .
قال مقاتل : المراد من الرَّأفة والرحمة : المودَّة فكان يوادّ بعضهم بعضاً كما وصف الله - تعالى - أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بقوله : { رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }{[55499]} [ الفتح : 29 ] .
وقيل : هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصَّفْحِ ، وترك إيذاء الناس وألان الله قلوبهم لذلك ، بخلاف اليهود الذين قستْ قلوبهم ، وحرّفوا الكلم عن مواضعه .
والرحمة : {[55500]} ] الشَّفقةُ .
وقيل : الرأفة تخفيف الكُل ، والرحمة تحمل الثقل .
وقيل : الرَّأفة : أشد من الرحمة وتم الكلام .
فصل في أن أفعال العبد خلق لله تعالى{[55501]}
دلت هذه الآية على أن فعل العبد خلق الله تعالى ؛ لأنه حكم بأن هذه مجعولة ، وحكم بأنهم ابتدعوا تلك الرهبانية .
قال القاضي{[55502]} : المراد بذلك أنه - تعالى - لطف بهم حتى قويت دواعيهم في الرَّهبانية التي هي تحمّل الكلفة الزائدة على ما يجب .
والجواب : أن هذا ترك للظاهر من غير دليل ، وإن سلمنا ذلك فهو يحصل مقصودنا ؛ لأن الحال الاستواء بمنع حصول الرُّجحان ؛ لأنَّ حصول الرجحان عند الاستواء ممتنع ، فعند المرجوحية أولى بأن يصير ممتنعاً ، وإذا امتنع المرجُوح وجب الراجح ضرورة أنه لا خروج عن طرفي النقيض .
قوله : { وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها } . في انتصابها وجهان{[55503]} :
أحدهما : أنها معطوفة على «رأفة ورحمة » .
و«جعل » إما بمعنى «خَلَق » ، وإما بمعنى «صيّر » ، و«ابتدعوها » على هذا صفة ل «رَهْبَانية » ، وإنما خصّت بذكر الابتداع ؛ لأن الرَّأفة والرحمة في القلب أمر غريزة لا تكسُّب للإنسان فيها ، بخلاف الرهبانية ، فإنها أفعال البدن ، وللإنسان فيها تكسُّب ، إلا أن أبا البقاء منع هذا الوجه ، بأن ما جعله الله لا يبتدعونه{[55504]} .
وجوابه : ما تقدم من أنه لما كانت مكتسبة صح ذلك منها .
وقال أيضاً : وقيل : هو معطوف عليها ، و«ابتدعوها » نعتٌ له ، والمعنى : فرض عليهم لزوم رهبانية ابتدعوها ، ولهذا قال : { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغاء رِضْوَانِ الله } .
والوجه الثاني : أنها منصوبة بفعل مقدر يفسره الظَّاهر .
وقال أبو علي{[55505]} : «ابتدعوها رهبانية » ، وتكون المسألة من باب الاشتغال ، وإليه نحا الفارسي والزمخشري{[55506]} ، وأبو البقاء{[55507]} وجماعة .
إلاَّ أن هذا يقال : إنه إعراب المعتزلة{[55508]} ، وذلك أنهم يقولون : ما كان من فعل الإنسان فهو مخلوق له ، فالرأفة والرحمة لما كانت من فعل الله نسب خلقهما إليه ، والرهبانية لمَّا لم تكن من فعل الله - تعالى - بل من فعل العبد يستقلّ بفعلها نسب ابتداعها إليه .
ورد عليهم أبو حيَّان{[55509]} هذا الإعراب من حيث الصناعة ، وذلك أن من حق الاسم المشتغل عنه ألاَّ يصلح للرفع بالابتداء ، و«رَهْبَانية » نكرة لا مسوغ للابتداء بها ، فلا يصلح نصبها على الاشتغال .
قال شهاب الدين{[55510]} : وفيه نظر لأنا لا نسلم أولاً اشتراط ذلك ، ويدل عليه قراءة من قرأ : { سُورَةً أَنزَلْنَاهَا } [ النور : 1 ] بالنصب على الاشتغال ، كما تقدم تحقيقه ، ولئن سلمنا ذلك فثمَّ مسوغ وهو العطف ، ومن ذلك قول الشَّاعر : [ البسيط ]
عِنْدِي اصْطِبَارٌ وشَكْوَى عِنْدَ قَاتلتِي *** فَهَلْ بأعْجَبَ مِنْ هَذَا امْرُؤٌ سَمِعَا{[55511]} ؟
تَغَشَّى ونَجْمٌ قَدْ أضَاءَ فَمُذْ بَدَا *** مُحَيَّاكِ ، أخْفَى ضَوْءُهُ كُلَّ شَارِقِ{[55512]}
و«الرَّهْبَانية » : منسوبة إلى «الرَّهْبَان » ، وهو «فَعْلاَن » من رهب ، كقولهم : الخَشْيَان من خشي ، وقد تقدم معنى هذه المادة في سورة «المائدة » .
وقرئ{[55513]} بضم الراء .
قال الزمخشري{[55514]} : كأنها نسبة إلى «الرُّهْبَان » ، وهو جمع : راهب ، ك «راكب ، ورُكْبان » .
قال أبو حيان{[55515]} : والأولى أن يكون منسوباً إلى «رَهْبَان » - يعني بالفتح - وغيِّر ؛ لأنَّ النَّسب باب تغيير ، ولو كان منسوباً ل «رُهْبَان » الجمع لردّ إلى مفرده إلاَّ إن قد صار كالعلم ، فإنه ينسب إليه ك «الأنصار » .
فصل في المراد بالرهبانية{[55516]}
والمراد من الرهبانية : ترهُّبُهم في الجبال فارِّين من الفتنة في الدين متحملين كلفاً زائدة على العبادات التي كانت واجبة عليهم من الخلوة ، واللِّباس الخَشِن ، والاعتزال عن النساء ، والتعبُّد في الغيرانِ والكهوف .
روى ابن عباس أن في أيام الفترةِ بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - غيَّر الملوك التوراة والإنجيل ، فراح نفرٌ ، وبقي نفر قليل ، فترهبوا وتبتلوا{[55517]} .
قال الضحاك : إن ملوكاً بعد عيسى - عليه الصلاة والسلام - ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة ، فأنكرها عليهم من كان بقيَ على منهاج عيسى فقتلوهم ، فقال قوم بقوا بعدهم : نحن إذا نهيناهم قتلونا ، فليس يسعُنَا المقام بينهم ، فاعتزلوا الناس واتخذوا الصَّوامع{[55518]} .
وقال قتادة : الرهبانية التي ابتدعوها رفضُ النساء ، واتخاذ الصَّوامع{[55519]} .
وفي خبر مرفوع : هي لحوقهم بالبرارِي والجبال .
قوله تعالى : { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } .
صفة ل «رهبانية » ، ويجوز أن يكون استئناف إخبار بذلك{[55520]} .
قال ابن زيد : معناه ما فرضناها عليهم ، ولا أمرناهم بها{[55521]} .
وقوله : { إِلاَّ ابتغاء رِضْوَانِ الله } . فيه أوجه{[55522]} :
أحدها : أنه استثناء متصل مما هو مفعول من أجله ، والمعنى : ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا ابتغاء مرضات الله ، فيكون «كتب » بمعنى «قضى » ، فصار المعنى : كتبناها عليهم ابتغاء مرضات الله ، وهذا قول مجاهد .
قال الزمخشري{[55523]} ولم يذكر غيره : «أي : ولكنهم ابتدعوها » .
وإلى هذا ذهب قتادة وجماعة ، قالوا : معناه لم يفرضها عليهم ، ولكنهم ابتدعوها .
الثالث : أنه بدل من الضمير المنصوب في «كَتَبْنَاها » قاله مكي{[55524]} .
وهو مشكل ، كيف يكون بدلاً وليس هو الأول لا بعضه ، ولا مشتملاً عليه .
وقد يقال : إنه بدل اشتمال ؛ لأن الرهبانية الخالصة المرعية حق الرعاية قد يكون فيها ابتغاء رضوان الله ، ويصير نظير قولك : الجارية ما أحببتها إلا أدبها فأدبها بدل من الضمير في «أحببتها » بدل اشتمال ، وهذا نهاية التمحُّل لصحة هذا القول .
والضمير المرفوع في «رَعَوْهَا » عائد على من تقدم .
والمعنى : أنهم لم يدوموا كلهم على رعايتها ، وإن كان قد وجد هذا في بعضهم .
وقيل : يعود على الملوك الذين حاربوهم .
وقيل على أخلافهم و«حقَّ » نصبه على المصدر .
قال القرطبي{[55525]} فيها : وقيل : «إلاَّ ابتغاء » استثناء منقطع ، والتقدير : «ما كتبناها عليهم ، ولكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله » .
{ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } .
أي : ما قاموا بها حقَّ القيام ، بل ضمُّوا إليها التثليث والاتحاد{[55526]} ، وأقام الناس منهم على دين عيسى - عليه الصلاة والسلام - حتى أدركوا نبينا محمداً - عليه الصلاة والسلام - فآمنوا به ، فهو قوله تعالى : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، وكثير منهم فاسقون } .
وقيل{[55527]} : إنّا ما كتبنا عليهم تلك الرهبانية إلاَّ ليتوسلوا بها إلى مرضاة الله تعالى ، ثم إنهم أتوا بتلك الأفعال لغير هذا الوجه ، وهو طلب الدنيا والرِّياسة والسُّمعة .
وقيل : معناه أنا كتبناها عليهم فتركوها ، فيكون ذلك ذمًّا لهم لتركهم الواجب .
وقيل : إن الذين لم يرعوها حق رعايتها هم الذين أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا به .
فصل فيمن أحدث بدعة{[55528]}
دلت هذه الآية أن كل محدثة بدعة ، فينبغي لمن ابتدع خيراً أن يدوم عليه ، ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية .
وعن أبي أمامة الباهلي واسمه صديُّ بن عجلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «أحْدَثْتُم قيامَ رمضانَ ولمْ يُكتَبْ عليْكمْ ، إنَّما كُتِبَ عليْكُمُ الصِّيامُ ، فدُومُوا على القِيامِ إذْ فعلتُمُوهُ ولا تَتْرُكُوهُ ، فإنَّ ناساً مِنْ بَنِي إسْرائِيلَ ابْتدَعُوا بِدَعاً ولَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عليهم ابتغَوْا بِهَا رضْوانَ اللَّهِ فَما رَعَوْهَا حَقَّ رعايتِهَا فَعَاتَبَهُم الله عليها بِترْكِهَا » ، فقال : { وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها }{[55529]} الآية .
فصل{[55530]}
دلّت الآية على العزلة عن الناس وذلك مَنْدُوبٌ إليه عند فساد الزمان ، وتغير الأحوال والإخوان .