اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

قوله : { ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم } ، أي : أتبعنا على آثارهم ، أي : على آثار الذُّرية{[55493]} .

وقيل : على آثار نوح وإبراهيم برسلنا موسى وإلياس وداود ويونس ، وغيرهم ، { وقفّينا بعيسى ابن مريم } ، فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمّه .

{ وَآتَيْنَاهُ الإنجيل } : وهو الكتاب المنزل عليه وقد تقدم اشتقاقه في أول آل عمران .

وقراءة الحسن{[55494]} : بفتح الهمزة .

قال الزمخشري{[55495]} : أمره أهون من أمر البَرْطِيل والسَّكينة فيمن رواها بفتح «الفاء » ؛ لأن الكلمة أعجمية لا يلزم فيها حفظ أبنية العرب .

وقال ابن جنّي{[55496]} : قراءة الحسن - بفتح الهمزة - مثال مبالغة ، لا نظير له ؛ لأنه «أفعيل » وهو عندهم من نجلت الشيء إذا استخرجته لأنه يستخرج به الأحكام .

وقال ابن الخطيب : وغالب الظن أنه ما قرأه إلا عن سماع ؛ وله وجهان :

أحدهما : أنه شاذ ، كما حكي عن بعضهم في البَرْطِيل .

والثاني : أنه ظن الإنجيل أعجميًّا ، فحرف مثاله ؛ تنبيهاً على كونه أعجمياً .

قوله : { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه } على دينه يعني : الحواريين وأتباعهم{[55497]} { رَأْفَةً وَرَحْمَةً } .

قرأ الحسن{[55498]} : «رَآفة » بزنة «فَعَالة » .

قال مقاتل : المراد من الرَّأفة والرحمة : المودَّة فكان يوادّ بعضهم بعضاً كما وصف الله - تعالى - أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بقوله : { رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }{[55499]} [ الفتح : 29 ] .

وقيل : هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصَّفْحِ ، وترك إيذاء الناس وألان الله قلوبهم لذلك ، بخلاف اليهود الذين قستْ قلوبهم ، وحرّفوا الكلم عن مواضعه .

والرَّأفة : [ اللِّين .

والرحمة : {[55500]} ] الشَّفقةُ .

وقيل : الرأفة تخفيف الكُل ، والرحمة تحمل الثقل .

وقيل : الرَّأفة : أشد من الرحمة وتم الكلام .

فصل في أن أفعال العبد خلق لله تعالى{[55501]}

دلت هذه الآية على أن فعل العبد خلق الله تعالى ؛ لأنه حكم بأن هذه مجعولة ، وحكم بأنهم ابتدعوا تلك الرهبانية .

قال القاضي{[55502]} : المراد بذلك أنه - تعالى - لطف بهم حتى قويت دواعيهم في الرَّهبانية التي هي تحمّل الكلفة الزائدة على ما يجب .

والجواب : أن هذا ترك للظاهر من غير دليل ، وإن سلمنا ذلك فهو يحصل مقصودنا ؛ لأن الحال الاستواء بمنع حصول الرُّجحان ؛ لأنَّ حصول الرجحان عند الاستواء ممتنع ، فعند المرجوحية أولى بأن يصير ممتنعاً ، وإذا امتنع المرجُوح وجب الراجح ضرورة أنه لا خروج عن طرفي النقيض .

قوله : { وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها } . في انتصابها وجهان{[55503]} :

أحدهما : أنها معطوفة على «رأفة ورحمة » .

و«جعل » إما بمعنى «خَلَق » ، وإما بمعنى «صيّر » ، و«ابتدعوها » على هذا صفة ل «رَهْبَانية » ، وإنما خصّت بذكر الابتداع ؛ لأن الرَّأفة والرحمة في القلب أمر غريزة لا تكسُّب للإنسان فيها ، بخلاف الرهبانية ، فإنها أفعال البدن ، وللإنسان فيها تكسُّب ، إلا أن أبا البقاء منع هذا الوجه ، بأن ما جعله الله لا يبتدعونه{[55504]} .

وجوابه : ما تقدم من أنه لما كانت مكتسبة صح ذلك منها .

وقال أيضاً : وقيل : هو معطوف عليها ، و«ابتدعوها » نعتٌ له ، والمعنى : فرض عليهم لزوم رهبانية ابتدعوها ، ولهذا قال : { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغاء رِضْوَانِ الله } .

والوجه الثاني : أنها منصوبة بفعل مقدر يفسره الظَّاهر .

وقال أبو علي{[55505]} : «ابتدعوها رهبانية » ، وتكون المسألة من باب الاشتغال ، وإليه نحا الفارسي والزمخشري{[55506]} ، وأبو البقاء{[55507]} وجماعة .

إلاَّ أن هذا يقال : إنه إعراب المعتزلة{[55508]} ، وذلك أنهم يقولون : ما كان من فعل الإنسان فهو مخلوق له ، فالرأفة والرحمة لما كانت من فعل الله نسب خلقهما إليه ، والرهبانية لمَّا لم تكن من فعل الله - تعالى - بل من فعل العبد يستقلّ بفعلها نسب ابتداعها إليه .

ورد عليهم أبو حيَّان{[55509]} هذا الإعراب من حيث الصناعة ، وذلك أن من حق الاسم المشتغل عنه ألاَّ يصلح للرفع بالابتداء ، و«رَهْبَانية » نكرة لا مسوغ للابتداء بها ، فلا يصلح نصبها على الاشتغال .

قال شهاب الدين{[55510]} : وفيه نظر لأنا لا نسلم أولاً اشتراط ذلك ، ويدل عليه قراءة من قرأ : { سُورَةً أَنزَلْنَاهَا } [ النور : 1 ] بالنصب على الاشتغال ، كما تقدم تحقيقه ، ولئن سلمنا ذلك فثمَّ مسوغ وهو العطف ، ومن ذلك قول الشَّاعر : [ البسيط ]

عِنْدِي اصْطِبَارٌ وشَكْوَى عِنْدَ قَاتلتِي *** فَهَلْ بأعْجَبَ مِنْ هَذَا امْرُؤٌ سَمِعَا{[55511]} ؟

وقول الآخر : [ الطويل ]

تَغَشَّى ونَجْمٌ قَدْ أضَاءَ فَمُذْ بَدَا *** مُحَيَّاكِ ، أخْفَى ضَوْءُهُ كُلَّ شَارِقِ{[55512]}

ذكر ذلك ابن مالك .

و«الرَّهْبَانية » : منسوبة إلى «الرَّهْبَان » ، وهو «فَعْلاَن » من رهب ، كقولهم : الخَشْيَان من خشي ، وقد تقدم معنى هذه المادة في سورة «المائدة » .

وقرئ{[55513]} بضم الراء .

قال الزمخشري{[55514]} : كأنها نسبة إلى «الرُّهْبَان » ، وهو جمع : راهب ، ك «راكب ، ورُكْبان » .

قال أبو حيان{[55515]} : والأولى أن يكون منسوباً إلى «رَهْبَان » - يعني بالفتح - وغيِّر ؛ لأنَّ النَّسب باب تغيير ، ولو كان منسوباً ل «رُهْبَان » الجمع لردّ إلى مفرده إلاَّ إن قد صار كالعلم ، فإنه ينسب إليه ك «الأنصار » .

فصل في المراد بالرهبانية{[55516]}

والمراد من الرهبانية : ترهُّبُهم في الجبال فارِّين من الفتنة في الدين متحملين كلفاً زائدة على العبادات التي كانت واجبة عليهم من الخلوة ، واللِّباس الخَشِن ، والاعتزال عن النساء ، والتعبُّد في الغيرانِ والكهوف .

روى ابن عباس أن في أيام الفترةِ بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - غيَّر الملوك التوراة والإنجيل ، فراح نفرٌ ، وبقي نفر قليل ، فترهبوا وتبتلوا{[55517]} .

قال الضحاك : إن ملوكاً بعد عيسى - عليه الصلاة والسلام - ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة ، فأنكرها عليهم من كان بقيَ على منهاج عيسى فقتلوهم ، فقال قوم بقوا بعدهم : نحن إذا نهيناهم قتلونا ، فليس يسعُنَا المقام بينهم ، فاعتزلوا الناس واتخذوا الصَّوامع{[55518]} .

وقال قتادة : الرهبانية التي ابتدعوها رفضُ النساء ، واتخاذ الصَّوامع{[55519]} .

وفي خبر مرفوع : هي لحوقهم بالبرارِي والجبال .

قوله تعالى : { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } .

صفة ل «رهبانية » ، ويجوز أن يكون استئناف إخبار بذلك{[55520]} .

قال ابن زيد : معناه ما فرضناها عليهم ، ولا أمرناهم بها{[55521]} .

وقوله : { إِلاَّ ابتغاء رِضْوَانِ الله } . فيه أوجه{[55522]} :

أحدها : أنه استثناء متصل مما هو مفعول من أجله ، والمعنى : ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا ابتغاء مرضات الله ، فيكون «كتب » بمعنى «قضى » ، فصار المعنى : كتبناها عليهم ابتغاء مرضات الله ، وهذا قول مجاهد .

والثاني : أنه منقطع .

قال الزمخشري{[55523]} ولم يذكر غيره : «أي : ولكنهم ابتدعوها » .

وإلى هذا ذهب قتادة وجماعة ، قالوا : معناه لم يفرضها عليهم ، ولكنهم ابتدعوها .

الثالث : أنه بدل من الضمير المنصوب في «كَتَبْنَاها » قاله مكي{[55524]} .

وهو مشكل ، كيف يكون بدلاً وليس هو الأول لا بعضه ، ولا مشتملاً عليه .

وقد يقال : إنه بدل اشتمال ؛ لأن الرهبانية الخالصة المرعية حق الرعاية قد يكون فيها ابتغاء رضوان الله ، ويصير نظير قولك : الجارية ما أحببتها إلا أدبها فأدبها بدل من الضمير في «أحببتها » بدل اشتمال ، وهذا نهاية التمحُّل لصحة هذا القول .

والضمير المرفوع في «رَعَوْهَا » عائد على من تقدم .

والمعنى : أنهم لم يدوموا كلهم على رعايتها ، وإن كان قد وجد هذا في بعضهم .

وقيل : يعود على الملوك الذين حاربوهم .

وقيل على أخلافهم و«حقَّ » نصبه على المصدر .

قال القرطبي{[55525]} فيها : وقيل : «إلاَّ ابتغاء » استثناء منقطع ، والتقدير : «ما كتبناها عليهم ، ولكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله » .

{ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } .

أي : ما قاموا بها حقَّ القيام ، بل ضمُّوا إليها التثليث والاتحاد{[55526]} ، وأقام الناس منهم على دين عيسى - عليه الصلاة والسلام - حتى أدركوا نبينا محمداً - عليه الصلاة والسلام - فآمنوا به ، فهو قوله تعالى : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، وكثير منهم فاسقون } .

وقيل{[55527]} : إنّا ما كتبنا عليهم تلك الرهبانية إلاَّ ليتوسلوا بها إلى مرضاة الله تعالى ، ثم إنهم أتوا بتلك الأفعال لغير هذا الوجه ، وهو طلب الدنيا والرِّياسة والسُّمعة .

وقيل : معناه أنا كتبناها عليهم فتركوها ، فيكون ذلك ذمًّا لهم لتركهم الواجب .

وقيل : إن الذين لم يرعوها حق رعايتها هم الذين أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا به .

فصل فيمن أحدث بدعة{[55528]}

دلت هذه الآية أن كل محدثة بدعة ، فينبغي لمن ابتدع خيراً أن يدوم عليه ، ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية .

وعن أبي أمامة الباهلي واسمه صديُّ بن عجلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «أحْدَثْتُم قيامَ رمضانَ ولمْ يُكتَبْ عليْكمْ ، إنَّما كُتِبَ عليْكُمُ الصِّيامُ ، فدُومُوا على القِيامِ إذْ فعلتُمُوهُ ولا تَتْرُكُوهُ ، فإنَّ ناساً مِنْ بَنِي إسْرائِيلَ ابْتدَعُوا بِدَعاً ولَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عليهم ابتغَوْا بِهَا رضْوانَ اللَّهِ فَما رَعَوْهَا حَقَّ رعايتِهَا فَعَاتَبَهُم الله عليها بِترْكِهَا » ، فقال : { وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها }{[55529]} الآية .

فصل{[55530]}

دلّت الآية على العزلة عن الناس وذلك مَنْدُوبٌ إليه عند فساد الزمان ، وتغير الأحوال والإخوان .


[55493]:ينظر: القرطبي 17/170.
[55494]:ينظر: الكشاف 4/481، والمحرر الوجيز 5/270، والبحر المحيط 8/226، والدر المصون 6/281.
[55495]:الكشاف 4/481.
[55496]:ينظر: المحتسب 2/313، والفخر الرازي 29/213.
[55497]:ينظر: القرطبي 17/170.
[55498]:ينظر: البحر المحيط 8/226، والرازي 29/213، والدر المصون 6/281.
[55499]:ذكره الرازي في "تفسيره" (29/213).
[55500]:سقط من أ.
[55501]:ينظر: الرازي 29/213.
[55502]:ينظر: الرازي (29/213).
[55503]:ينظر: الدر المصون 6/281.
[55504]:ينظر: الإملاء 2/1211.
[55505]:ينظر: الدر المصون 6/281.
[55506]:ينظر: الكشاف 4/482.
[55507]:ينظر: الإملاء 2/1211.
[55508]:ينظر: المحرر الوجيز 5/270، والبحر المحيط 8/226، والدر المصون 6/281.
[55509]:ينظر: البحر المحيط 8/226.
[55510]:الدر المصون 6/281.
[55511]:تقدم.
[55512]:تقدم.
[55513]:ينظر: الكشاف 4/481، والفخر الرازي 29/213، والبحر المحيط 8/227، والدر المصون 6/281.
[55514]:الكشاف 4/481.
[55515]:البحر المحيط 8/227.
[55516]:ينظر: الفخر الرازي 29/214.
[55517]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/690) عن ابن عباس بمعناه وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/259) وزاد نسبته إلى النسائي والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" وابن المنذر وابن مردويه.
[55518]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (17/170) عن الضحاك.
[55519]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/690) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/260) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
[55520]:ينظر: الدر المصون 6/282.
[55521]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/690) عن ابن زيد.
[55522]:السابق.
[55523]:الكشاف 4/482.
[55524]:ينظر: المشكل 2/720.
[55525]:الجامع لأحكام القرآن 17/170.
[55526]:التفسير الكبير 29/214.
[55527]:السابق.
[55528]:ينظر: القرطبي 17/171.
[55529]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/692) من حديث أبي أمامة. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/259) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن مردويه وابن نصر.
[55530]:ينظر: تفسير القرطبي (17/172).