البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

{ ثم قفينا } : أي اتبعنا وجعلناهم يقفون من تقدم ، { على آثارهم } : أي آثار الذرية ، { برسلنا } : وهم الرسل الذين جاءوا بعد الذرية ، { وقفينا بعيسى } : ذكره تشريفاً له ، ولانتشار أمته ، ونسبه لأمه على العادة في الإخبار عنه .

وتقدمت قراءة الحسن : الإنجيل ، بفتح الهمزة في أول سورة آل عمران .

قال أبو الفتح : وهو مثال لا نظير له .

انتهى ، وهي لفظة أعجمية ، فلا يلزم فيها أن تكون على أبنية كلم العرب .

وقال الزمخشري : أمره أهون من أمر البرطيل ، يعني أنه بفتح الباء وكأنه عربي ؛ وأما الإنجيل فأعجمي .

وقرىء : رآفة على وزن فعالة ، { وجعلنا } : يحتمل أن يكون المعنى وخلقنا ، كقوله : { وجعل الظلمات والنور } ويحتمل أن يكون بمعنى صيرنا ، فيكون { في قلوب } : في موضع المفعول الثاني لجعلنا .

{ ورهبانية } معطوف على ما قبله ، فهي داخلة في الجمل .

{ ابتدعوها } : جملة في موضع الصفة لرهبانية ، وخصت الرهبانية بالابتداع ، لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيها ، بخلاف الرهبانية ، فإنها أفعال بدن مع شيء في القلب ، ففيها موضع للتكسب .

قال قتادة : الرأفة والرحمة من الله ، والرهبانية هم ابتدعوها ؛ والرهبانية : رفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهنّ واتخاد الصوامع .

وجعل أبو علي الفارسي { ورهبانية } مقتطعة من العطف على ما قبلها من { رأفة ورحمة } ، فانتصب عنده { ورهبانية } على إضمار فعل يفسره ما بعده ، فهو من باب الاشتغال ، أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها .

واتبعه الزمخشري فقال : وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره : وابتدعوا رهبانية ابتدعوها ، يعني وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها .

انتهى ، وهذا إعراب المعتزلة ، وكان أبو عليّ معتزلياً .

وهم يقولون : ما كان مخلوقاً لله لا يكون مخلوقاً للعبد ، فالرأفة والرحمة من خلق الله ، والرهبانية من ابتداع الإنسان ، فهي مخلوقة له .

وهذا الإعراب الذي لهم ليس بجيد من جهة صناعة العربية ، لأن مثل هذا هو مما يجوز فيه الرفع بالابتداء ، ولا يجوز الابتداء هنا بقوله : { ورهبانية } ، لأنها نكرة لا مسوغ لها من المسوغات للابتداء بالنكرة .

وروي في ابتداعهم الرهبانية أنهم افترقوا ثلاث فرق : ففرقة قاتلت الملوك على الدين فغلبت وقتلت ؛ وفرقة قعدت في المدن يدعون إلى الدين ويبينونه ولم تقاتل ، فأخذها الملوك ينشرونهم بالمناشير فقتلوا ، وفرقة خرجت إلى الفيافي ، وبنت الصوامع والديارات ، وطلبت أن تسلم على أن تعتزل فتركت .

والرهبانية : الفعلة المنسوبة إلى الرهبان ، وهو الخائف بني فعلان من رهب ، كالخشيان من خشي .

وقرىء : ورهبانية بالضم .

قال الزمخشري : كأنها نسبة إلى الرهبان ، وهو جمع راهب ، كراكب وركبان . انتهى .

والأولى أن يكون منسوباً إلى رهبان وغير بضم الراء ، لأن النسب باب تغيير .

ولو كان منسوباً إلى رهبان الجمع لرد إلى مفرده ، فكان يقال : راهبية ، إلا إن كان قد صار كالعلم ، فإنه ينسب إليه على لفظه كالأنصار .

والظاهر أن { إلا ابتغاء رضوان } الله استثناء متصل من ما هو مفعول من أجله ، وصار المعنى : أنه تعالى كتبها عليهم ابتغاء مرضاته ، وهذا قول مجاهد ، ويكون كتب بمعنى قضى .

وقال قتادة وجماعة : المعنى : لم يفرضها عليهم ، ولكنهم فعلوا ذلك ابتغاء رضوان الله تعالى ، فالاستثناء على هذا منقطع ، أي لكن ابتدعوها لابتغاء رضوان الله تعالى .

والظاهر أن الضمير في { رعوها } عائد على ما عاد عليه في { ابتدعوها } ، وهو ضمير { الذين اتبعوه } ، أي لم يرعوها كما يجب على الناذر رعاية نذره ، لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه .

وقال نحوه ابن زيد ، قال : لم يدوموا على ذلك ، ولا وفوه حقه ، بل غيروا وبدلوا ، وعلى تقدير أن فيهم من رعى يكون المعنى : فما رعوها بأجمعهم .

وقال ابن عباس وغيره : الضمير للملوك الذين حاربوهم وأجلوهم .

وقال الضحاك وغيره : الضمير للأخلاف الذين جاءوا بعد المبتدعين لها .

{ فآتينا الذين آمنوا } : وهم أهل الرأفة والرحمة الذين اتبعوا عيسى عليه السلام .

{ وكثير منهم فاسقون } : وهم الذين لم يرعوها .