فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

{ ثُمَّ قَفَّيْنَا على ءاثارهم بِرُسُلِنَا } أي اتبعنا على آثار الذرية أو على آثار نوح وإبراهيم برسلنا الذين أرسلناهم إلى الأمم كموسى وإلياس وداود وسليمان وغيرهم { وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ } أي أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم ، وهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه { وآتيناه الإنجيل } وهو الكتاب الذي أنزله الله عليه ، وقد تقدّم ذكر اشتقاقه في سورة آل عمران .

قرأ الجمهور { الإِنجيل } بكسر الهمزة ، وقرأ الحسن بفتحها { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَافَةً وَرَحْمَةً } الذين اتبعوه هم الحواريون جعل الله في قلوبهم مودّة لبعضهم البعض ، ورحمة يتراحمون بها ، بخلاف اليهود فإنهم ليسوا كذلك ، وأصل الرأفة : اللين والرحمة : الشفقة ، وقيل الرأفة : أشدّ الرحمة { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا } انتصاب { رهبانية } على الاشتغال : أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها ، وليس بمعطوفة على ما قبلها ، وقيل : معطوفة على ما قبلها : أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عند أنفسهم . والأوّل أولى ، ورجحه أبو علي الفارسي وغيره ، وجملة : { مَا كتبناها عَلَيْهِمْ } صفة ثانية لرهبانية ، أو مستأنفة مقرّرة لكونها مبتدعة من جهة أنفسهم ، والمعنى : ما فرضناها عليهم ، والرهبانية بفتح الراء وضمها ، وقد قرئ بهما ، وهي بالفتح : الخوف من الرهب ، وبالضم منسوبة إلى الرهبان ، وذلك لأنهم غلوا في العبادة وحملوا على أنفسهم المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والمنكح ، وتعلقوا بالكهوف والصوامع ، لأن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي منهم نفر قليل فترهبوا وتبتلوا ، ذكر معناه الضحاك وقتادة وغيرهما { إِلاَّ ابتغاء رضوان الله } الاستثناء منقطع : أي ما كتبناها نحن عليهم رأساً ، ولكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله . وقال الزجاج : ما كتبناها عليهم معناه لم نكتب عليهم شيئًا البتة ، قال : ويكون { إِلاَّ ابتغاء رضوان الله } بدلاً من الهاء والألف في كتبناها ، والمعنى : ما كتبنا عليهم إلاّ ابتغاء رضوان الله { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أي لم يرعوا هذه الرهبانية التي ابتدعوها من جهة أنفسهم وبل صيعوها وكفروا بدين عيسى ، ودخلوا في دين الملوك الذين غيروا وبدّلوا وتركوا الترهب ، ولم يبق على دين عيسى إلاّ قليل منهم ، وهم المرادون بقوله : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } الذي يستحقونه بالإيمان ، وذلك لأنهم آمنوا بعيسى وثبتوا على دينه حتى آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون } : خارجون عن الإيمان بما أمروا أن يؤمنوا به ، ووجه الذمّ لهم على تقدير أن الاستثناء منقطع أنهم قد كانوا ألزموا أنفسهم الرهبانية معتقدين أنها طاعة وأن الله يرضاها ، فكان تركها وعدم رعايتها حق الرعاية يدل على عدم مبالاتهم بما يعتقدونه ديناً . وأما على القول بأن الاستثناء متصل ، وأن التقدير : ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلاّ ليبتغوا بها رضوان الله بعد أن وفقناهم لابتداعها فوجه الذم ظاهر .

/خ29