الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

وقوله سبحانه : { وقَفَّيْنَا } معناه : جئنا بهم بعد الأولِينَ ، وهو مأخوذ من القفا ، أي : جيء بالثاني في قَفَا الأَوَّلِ ، فيجيء الأول بين يدي الثاني ، وقد تقدم بيانه .

وقوله سبحانه : { وَجَعَلْنَا في قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً } : الجعل في هذه الآية بمعنى الخلق .

وقوله : { ابتدعوها } : صفة لرهبانية ، وخَصَّها بِأَنَّها ابْتُدِعَتْ ؛ لأََنَّ الرأفة والرحمةَ في القلب ، لا تَكَسُّبَ للإنسان فيها ، وَأَمَّا الرهبانيةُ فهي أفعال بدن مع شيء في القلب ، ففيها موضعٌ لِلتَّكَسُّبِ ، ونحو هذا عن قتادة ، والمراد بالرأفة والرحمة حُبُّ بعضهم في بعض وتوادُّهُم ، والمراد بالرهبانية : رَفْضُ النساء ، واتخاذ الصوامع والديارات ، والتفردُ للعبادات ، وهذا هو ابتداعهم ، ولم يَفْرِضِ اللَّه ذلك عليهم ، لكنهم فعلوا ذلك ؛ ابتغاءَ رضوان اللَّه ؛ هذا تأويل جماعة ، وقرأ ابن مسعود : ( مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ لَكِنِ ابتدعوها ) وقال مجاهد : المعنى : كتبناها عليهم ابتغاءَ رضوان اللَّه ، فالاستثناء على هذا مُتَّصِلٌ ، واخْتُلِفَ في الضمير الذي في قوله : { فَمَا رَعَوْهَا } مَنِ المراد به ؟ فقال ابن زيد وغيره : هو عائد على الذين ابتدعوا الرهبانِيَّة ، وفي هذا التأويل لزومُ الإتمام لِكُلِّ مَنْ بدأ بتطوُّعٍ ونَفْلٍ ، وأَنَّهُ يلزمُه أَنْ يرعاه حَقَّ رعيه ، وقال الضَّحَّاكُ وغيره : الضمير للأخلاف الذين جاءوا بعد المبتدعين لها ، ورُوِّينَا في «كتاب الترمذيِّ » عن كثير بن عبد اللَّه المُزَنِيِّ ، عن أبيه ، عن جدِّه : " أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لبِلال بن الحارث : اعْلَمْ ، قَالَ : مَا أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : اعْلَمْ يَا بِلاَلُ ! قَالَ : مَا أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَنَّهُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي ، فَإنَّ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلَ مَنْ عَمِلَ بِهَا ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً ، وَمَنِ ابتدع بِدْعَةَ ضَلاَلَةٍ ، لاَ يَرْضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهَا كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ عَمِلَ بِهَا ، لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِ النَّاسِ شَيْئاً " قال أبو عيسى : هذا حديث حسن ، انتهى .