التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( 26 ) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( 27 ) } ( 26 – 27 ) .

تعليق على الآية :

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . } الخ

والآية التالية لها . وما فيهما من صور وتلقين وأهداف وتنويه بأخلاق النصارى عامة وما ورد في رهبانية النصارى والإسلام من أحاديث .

لم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيتين . والمتبادر أنهما جاءتا معقبتين على الآية السابقة لهما تعقيبا بيانيا تضمن تقرير كون الله – جريا على ما اقتضته حكمته من إرسال الرسل لهداية الناس وتوطيد الحق والعدل بينهم – قد أرسل نوحا وإبراهيم . وجعل في ذريتهما النبوة والكتاب . فاهتدى من اهتدى منهم وفسق عن أمر الله وانحراف عن جادة الحق كثيرون ، ثم أرسل على آثارهم ونهجهم من بعدهم رسلا كثيرون ، ثم أرسل على آثارهم ونهجهم من بعدهم رسلا كثيرين ، ثم أرسل عيسى ابن مريم وآتاه الإنجيل . وجعل في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة حتى إنهم فرضوا على أنفسهم ابتداعا شيئا لم يفرضه الله عليهم وهو الرهبانية والاعتزال للعبادة والتبتل والتعفف عن النساء ابتغاء رضوان الله تعالى وتزيدا في عبادته . ولكنهم لم يستمروا على رعايتها حق الرعاية . فمنهم من آمن وأخلص فآتاه الله أجره . وكثير منهم فسق عن أمر الله وانحراف عن جادة الحق أيضا .

وينطوي في البيان التعقيبي الذي استهدفته الآيات – كما تبادر لنا – تقرير واقع الأمر عند نزول الآيتين بالنسبة لأهل الكتاب وبخاصة النصارى منهم كما هو ظاهر .

ولقد أورد الطبري في سياق هذه الآيات حديثا أخرجه بطرقه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( اختلف من كان قبلنا على إحدى وسبعين فرقة ، نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم . وقد وازت فرقة من الثلاث الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى فقتلهم الملوك . وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ، فأقاموا بين ظهراني قومهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم صلوات الله عليه فقتلتهم الملوك ونشرتهم بالمناشير ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام بين ظهراني قومهم فترهبوا فيها فهو قول الله عز وجل : { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } قال : ما فعلوها { إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ } وهم الذين آمنوا بي وصدقوني . قال : { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } قال : فهم الذين جحدوني وكذبوني ) .

والحديث ليس من الصحاح . فإن صح جاء توضيحا للمقصود من الجملة الأخيرة في الآية الثانية وهم الذين آمنوا به وكفروا به فالأولون لهم أجرهم والآخرون فاسقون وهم الأكثر . وهذا كذلك متبادر من العبارة ولو لم يصح الحديث أيضا ؛ لأنها تقرر واقع النصارى عند نزول القرآن . ولا يمكن أن تنصرف عبارة : { الذين آمنوا } إلا إلى الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم . وإيمان فريق من النصارى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وما أنزل عليه حقيقة يقينية مؤيدة بنصوص قرآنية عديدة جاءت في سور سبق تفسيرها . ولقد كان عدد المؤمنين منهم في حياة النبي أقل من الجاحدين ، وكانت النصرانية سائدة في بلاد الشام ومصر . فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسله وكتبه إلى ملوكهم فلم يستجيبوا إليها ، وهذا وذاك مصداق ما جاء في الآية . والله تعالى أعلم .

وفي الحديث إن صح بالإضافة إلى ما فيه من أخبار متسقة مع المأثورات القديمة عن سير المسيحية ونزاعاتها وفرقها ، وما كان من اضطهاد ملوك الرومان للنصارى أولا ، ثم لمن خالف مذهبهم بعد أن اعتنقوا النصرانية ثانيا ، وما جرى من قتال بين الفرق النصرانية ( 1 ){[2134]} . تفسير لجملة : { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ } يفيد أن الله تعالى لم يفرض عليهم الرهبانية بدءا ، وإنما هم ابتدعوها وفرضوها على أنفسهم فأقرهم الله عليها ابتغاء رضوانه . وهذا ملموح من فحوى الآيات وروحها وبدلالة كلمة : { ابتدعوها } إن لم يصح الحديث .

ولقد أراد فريق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبتدعوا رهبانية في الإسلام ابتغاء رضوان الله تقليدا للرهبان والقسيسين من النصارى الذين أثنت عليهم آيات سورة المائدة ( 78 – 89 ) فاقتضت حكمة التنزيل أن لا تشجعهم على ذلك ؛ لئلا يقعوا فيما وقع فيه النصارى من قبلهم . ولينصرفوا إلى ما هو الأنفع والأجدى لنشر دين الله وتعاليمه والجهاد في سبيله مما انطوى خبره وتلقينه البليغ في الآيات المذكورة وفي الأحاديث النبوية الواردة في صددها والتي منها : ( لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله ) على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات المذكورة .

وذكر النصارى على الوجه الذي ورد وإن كان يتبادر أنه من قبيل الاستطراد المألوف في النظم القرآني فإن فيه على كل حال معنى التنويه المستحب بما كان عليه النصارى إجمالا من دماثة خلق ورقة قلب وتسامح وتواضع بالقياس إلى اليهود الذين وصف القرآن أخلاقهم بما وصفها من قسوة وغلظة وخبث وأنانية ودس وعداء شديد صريح للمسلمين . ولعل فيه كذلك إشارة تنويهية إلى تلك الفئة التي كانت تقيم في الصوامع والديارات التي كانت منثورة في براري العراق والفرات والشام ، والتي كان العرب يمرون بها في رحلاتهم غدوا ورواحا والتي كانوا قد فرغوا فيها للعبادة ، واعتزلوا شهوات الدنيا وأعراضها وشرورها وبهارجها . والله أعلم ( 1 ){[2135]} .

وجملة : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } بالنسبة لنوح وإبراهيم عليهما السلام قد تفيد أن الله عز وجل اختص ذريتهما بذلك . وإذا صح هذا يكون ذلك لأول مرة في القرآن ؛ لأنه لم يسبق مثله . ومما يرد على البال أن مما استهدفه توكيد دخول جميع الأنبياء والرسل في مشمول { ذريتهما } فيدخل في ذلك الأنبياء الذين لم يعرف أنهم من نسل إبراهيم مثل هود وصالح وشعيب ولوط وإدريس وغيرهم ممن لم يرد ذكرهم في القرآن ، وإنما أشير لهم إشارة عامة في جملة : { ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك } . في الآية ( 164 ) من سورة النساء وفي الآية ( 78 ) من سورة غافر التي احتوت جملة قريبة . ولعل مما استهدف بهذا التوكيد الرد على بني إسرائيل الذين كانوا يدعون أن جميع الأنبياء من جنسهم ويزهون ويتبجحون بذلك على ما شرحناه في سياق آيات سورة الجمعة وغيرها ، وعلى ما حكته روايات عديدة أوردناها في سياق ذلك . والله أعلم .


[2134]:انظر كتابنا تاريخ الجنس العربي ج 2 و ج 4 وتاريخ سورية للدبس مجلد 3 ج 3 ومجلد 3 ج 4.
[2135]:اقرأ بحث الديارات في حرف الدال في معجم البلدان لياقوت واقرأ الجزء الخامس من كتابنا تاريخ الجنس العربي أيضا.