لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

{ ثم قفينا } أي اتبعنا { على آثارهم برسلنا } والمعنى بعثنا رسولاً بعد رسول إلى أن انتهت الرسالة إلى عيسى ابن مريم وهو قوله تعالى : { وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه } أي على دينه ، { رأفة ورحمة } يعني أنهم كانوا متوادين بعضهم لبعض ، { ورهبانية ابتدعوها } ليس هذا عطفاً على ما قبله والمعنى أنهم جاؤوا بها من قبل أنفسهم وهي ترهبهم في الجبال والكهوف والغيران والديرة فروا من الفتنة وحملوا أنفسهم المشاق في العبادة الزائدة وترك النكاح واستعمال الخشن في المطعم والمشرب والملبس مع التقلل من ذلك { ما كتبناها عليهم } أي ما فرضناها نحن عليهم { إلا ابتغاء رضوان الله } أي لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله { فما رعوها حق رعايتها } يعني أنهم يرعوا تلك الرهبانية حق رعايتها بل ضيعوها وضموا إليها التثليث والاتحاد وكفروا بدين عيسى ودخلوا في دين ملوكهم وأقام أناس منهم على دين عيسى حتى أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم فآمنوا به فذلك قوله تعالى : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } وهم الذين ثبتوا على الدين الصحيح ، { وكثير منهم فاسقون } وهم الذين تركوا الرهبانية وكفروا بدين عيسى صلى الله عليه وسلم وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن مسعود قال دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا ابن مسعود «اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرهن : فرقة وازت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى فأخذوهم وقتلوهم ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا أن يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى فساحوا في البلاد وترهبوا وهم الذين قال الله عز وجل فيهم ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم » قال صلى الله عليه وسلم «من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون » وعنه قال كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي «يا ابن أم عبد هل تدري من أين أخذت بنو إسرائيل الرهبانية ؟ قلت الله ورسوله أعلم قال ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بالمعاصي فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا إن ظهرنا لهؤلاء فتنونا ولم يبق أحد يدعو إليه تعالى فتعالوا لنتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا عيسى به - يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم - فتفرقوا في غيران الجبال وأحدثوا الرهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ثم تلا هذه الآية { ورهبانية ابتدعوها } إلى { فآتينا الذين آمنوا منهم } » أي من الذين ثبتوا عليها أجرهم ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم " يا ابن أم عبد أتدري ما رهبانية أمتي ؟ قلت الله ورسوله أعلم قال الهجرة والصلاة والجهاد والصوم والحج والعمرة والتكبير على التلاع " ، وروي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله " وعن ابن عباس قال " كانت ملوك بعد عيسى عليه الصلاة والسلام بدلوا التوراة والإنجيل وكان فيهم جماعة مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله فقيل لملوكهم لو جمعتم هؤلاء الذين شقوا عليكم فقتلتموهم أو دخلوا فيما نحن فيه فجمعهم ملكهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها فقالوا ما تريدون إلى ذلك دعونا نحن نكفيكم أنفسنا فقالت طائفة منهم ابنوا لنا اسطواناً ثم ارفعونا فيه ثم أعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نرد عليكم وطائفة قالت دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش فإن قدرتم علنيا في أرضكم فاقتلونا . وقالت طائفة منهم ابنوا لنا دوراً في الفيافي ونحتفر الآبار ونحترث البقول ولا نرد عليكم ولا نمر عليكم وليس أحد من القبائل إلا وله حميم فيهم قال ففعلوا ذلك فمضى أولئك على منهاج عيسى وخلف قوم من بعدهم ممن غيروا الكتاب فجعل الرجل يقول نكون في مكان فلان نتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم فذلك قول الله عز وجل : { ورهبانية ابتدعوها } يعني ابتدعها الصالحون فما رعوها حق رعايتها يعني الآخرين الذين جاؤوا من بعدهم { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } يعني الذين ابتدعوها { ابتغاء رضوان الله وكثير منهم فاسقون } وهم الذين جاؤوا من بعدهم فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا القليل انحط رجل من صومعته وجاء سائح من سياحته وصاحب دير من ديره فآمنوا به وصدقوه فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته } .