الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{ثُمَّ قَفَّيۡنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيۡنَا بِعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡإِنجِيلَۖ وَجَعَلۡنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ رِضۡوَٰنِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَايَتِهَاۖ فَـَٔاتَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (27)

قوله تعالى : { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه } الآية .

أخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإِيمان وابن عساكر من طرق عن ابن مسعود قال : «قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عبد الله : قلت : لبيك يا رسول الله ثلاث مرات ، قال : هل تدري أي عرا الإِيمان أوثق ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : أوثق عرا الإِيمان الولاية في الله بالحب فيه والبغض فيه ، قال : هل تدري أي الناس أفضل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : أفضل الناس عملاً إذا تفقهوا في الدين ، يا عبد الله هل تدري أي الناس أعلم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس ، وإن كان مقصراً بالعمل ، وإن كان يزحف على استه ، واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فِرْقةً نجا منها ثلاث وهلك سائرها فُرْقَةً ، وزت الملوك وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم حتى قتلوا ، وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام معهم ، فساحوا في الجبال ، وترهبوا فيها وهم الذين قال الله : { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } الذين آمنوا بي وصدقوني { وكثير منهم فاسقون } الذين كفروا بي وجحدوني » .

وأخرج النسائي والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال : كانت ملوك بعد عيسى بدلت التوراة والإِنجيل ، فكان منهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإِنجيل فقيل لملوكهم : ما نجد شيئاً أشد من شتم يشتمنا هؤلاء إنهم يقرؤون { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } [ المائدة : 44 ] { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } [ المائدة : 45 ] { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } [ المائدة : 47 ] مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم فادعهم فليقرؤوا كما نقرأ وليؤمنوا كما آمنا ، فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإِنجيل إلا ما بدلوا منها ، فقالوا : ما تريدون إلى ذلك ؟ دعونا ، فقالت طائفة منهم : ابنوا لنا اسطوانة ثم ارفعونا إليها ، ثم أعطونا شيئاً ترفع به طعامنا وشرابنا ، ولا ترد عليكم ، وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونأكل مما تأكل منه الوحوش ونشرب مما تشرب فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا وقالت طائفة : ابنوا لنا ديوراً في الفيافي ونحتفر الآبار ونحرث البقول ، فلا نَرِد عليكم ولا نمر بكم ، وليس أحد من القبائل إلا له حميم فيهم ، ففعلوا ذلك فأنزل الله { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها } قال : والآخرون ممن تعبد من أهل الشرك وفني من قد فني منهم قالوا : نتعبد كما تعبد فلان ، ونسيح كما ساح فلان ونتخذ ديوراً كما اتخذ فلان ، وهم على شركهم لا علم لهم بإِيمان الذين اقتدوا بهم ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يبق منهم إلا القليل انحط صاحب الصومعة من صومعته ، وجاء السائح من سياحته وصاحب الدير من ديره ، فآمنوا به وصدقوه ، فقال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته } أجرين بإيمانهم بعيسى ونصب أنفسهم والتوراة والإِنجيل ، وبإيمانهم بمحمد وتصديقهم { ويجعل لكم نوراً تمشون به } القرآن واتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم .

وأخرج أبو يعلى عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات { رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم } » .

وأخرج البيهقي في الشعب عن سهل بن أبي أمامة بن سهل بن جبير عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا تشددوا على أنفسكم فإنما هلك من كان قبلكم بتشديدهم على أنفسهم وستجدون بقاياهم في الصوامع والديارات » .

وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه وابن نصر عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : إن الله كتب عليكم صيام شهر رمضان ولم يكتب عليكم قيامه ، وإنما القيام شيء ابتدعتموه فدوموا عليه ولا تتركوه ، فإن ناساً من بني إسرائيل ابتدعوا بدعة فعابهم الله بتركها وتلا هذه الآية { ورهبانية ابتدعوها } .

وأخرج أحمد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وأبو يعلى والبيهقي في الشعب عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله » .

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله : { ورهبانية ابتدعوها } قال : ذكر لنا أنهم رفضوا النساء واتخذوا الصوامع .