قوله تعالى : { فبدأ بأوعيتهم } ، لإزالة التهمة ، { قبل وعاء أخيه } ، فكان يفتش أوعيتهم واحدا واحدا . قال قتادة : ذكر لنا أنه كان لا يفتح متاعا ولا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تأثما مما قذفهم به حتى إذا لم يبق إلا رحل بنيامين ، قال : ما أظن هذا أخذه ، فقال إخوته : والله لا نترك حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك ولأنفسنا ، فلما فتحوا متاعه استخرجوه منه { ثم استخرجها من وعاء أخيه } ، وإنما أنث الكناية في قوله { ثم استخرجها } والصواع مذكر ، بدليل قوله : { ولمن جاء به حمل بعير } ، لأنه رد الكناية هاهنا إلى السقاية . وقيل : الصواع يذكر ويؤنث . فلما أخرج الصواع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم من الحياء ، وأقبلوا على بنيامين وقالوا : ما الذي صنعت فضحتنا وسودت وجوهنا يا بني راحيل ؟ ما يزال لنا منكم البلاء ، متى أخذت هذا الصواع ؟ فقال بنيامين : بل بنو راحيل لا يزال لهم منكم بلاء ذهبتم بأخي فأهلكتموه في البرية ، ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم ، فأخذوا بنيامين رقيقا . وقيل : إن ذلك الرجل أخذ برقبته ورده إلى يوسف كما يرد السراق . { كذلك كدنا ليوسف } ، والكيد هاهنا جزاء الكيد ، يعني : كما فعلوا في الابتداء بيوسف من الكيد فعلنا بهم . وقد قال يعقوب عليه السلام ليوسف : { فيكيدوا لك كيدا } ، فكدنا ليوسف في أمرهم . والكيد من الخلق : الحيلة ، ومن الله تعالى التدبير بالحق . وقيل : كدنا : ألهمنا . وقيل : دبرنا . وقيل : أردنا . ومعناه : صنعنا ليوسف حتى ضم أخاه إلى نفسه ، وحال بينه وبين إخوته . { ما كان ليأخذ أخاه } فيضمه إلى نفسه ، { في دين الملك } ، أي : في حكمه . قاله قتادة . وقال ابن عباس : في سلطانه . { إلا أن يشاء الله } ، يعني : إن يوسف لم يكن يتمكن من حبس أخيه في حكم الملك لولا ما كدنا له بلطفنا حتى وجد السبيل إلى ذلك ، وهو ما أجرى على ألسنة الإخوة أن جزاء السارق الاسترقاق ، فحصل مراد يوسف بمشيئة الله تعالى . { نرفع درجات من نشاء } ، بالعلم كما رفعنا درجة يوسف على إخوته . وقرأ يعقوب : يرفع ، و يشاء بالياء فيهما وإضافة درجات إلى من في هذه السورة . والوجه أن الفعل فيهما مسند إلى الله تعالى ، وقد تقدم ذكره في قوله : { إلا أن يشاء الله } أي : يرفع الله درجات من يشاء . وقرأ الباقون بالنون فيهما ، إلا أن الكوفيين قرؤوا : { درجات } بالتنوين ، ومن سواهم بالإضافة ، أي : نرفع به نحن ، والرافع أيضا هو الله تعالى . { وفوق كل ذي علم عليم } . قال ابن عباس : فوق كل ذي عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى . فالله تعالى فوق كل عالم .
{ فَبَدَأَ } المفتش { بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ } وذلك لتزول الريبة التي يظن أنها فعلت بالقصد ، فلما لم يجد في أوعيتهم شيئا { اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ } ولم يقل " وجدها ، أو سرقها أخوه " مراعاة للحقيقة الواقعة .
فحينئذ تم ليوسف ما أراد من بقاء أخيه عنده ، على وجه لا يشعر به إخوته ، قال تعالى : { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } أي : يسرنا له هذا الكيد ، الذي توصل به إلى أمر غير مذموم { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } لأنه ليس من دينه أن يتملك السارق ، وإنما له عندهم ، جزاء آخر ، فلو ردت الحكومة إلى دين الملك ، لم يتمكن يوسف من إبقاء أخيه عنده ، ولكنه جعل الحكم منهم ، ليتم له ما أراد .
قال تعالى : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } بالعلم النافع ، ومعرفة الطرق الموصلة إلى مقصدها ، كما رفعنا درجات يوسف ، { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } فكل عالم ، فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى عالم الغيب والشهادة .
وقوله - سبحانه - { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ استخرجها مِن وِعَآءِ أَخِيهِ } معطوف على كلام محذوف يفهم من المقام .
والتقدير : وبعد هذه المحاورة التي دارت بين إخوة يوسف وبين الذين اتهموهم بالسرقة أخبر الإخوة بتفتيش أمتعتهم للبحث عن الصواع بداخلها .
" فبدأ " المؤذن بتفتيش أوعيتهم ، قبل أن يفتش وعاء " بنيامين " فلم يجد شيئاً بداخل أوعيتهم .
فلما وصل إلى وعاء " بنيامين " وقام بتفتيشه وجد السقاية بداخله ، فاستخرجها منه على مشهد منهم جميعاً .
ويبدو أن هذا الحوار من أوله كان بمشهد ومرأى من يوسف - عليه السلام - وكان أيضاً بتدبير وتوجيه منه للمؤذن ومن معه ، فهو الذي أمر المؤذن بأن ينادى { أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } وهو الذي أشار عليه بأن يسألهم عن حكم السارق في شريعتهم ، وهو الذي أمره بأن يبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل أن يفتش وعاء شقيقه " بنيامين " دفعا للتهمة ، ونفيا للشبهة . . .
روي أنه لما بلغت النوبة إلى وعاء " بنيامين " لتفتيشه قال يوسف - عليه السلام - : ما أظن هذا أخذ شيئاً ؟ فقالوا : " والله لا تتركه حتى تنظر في رحله ، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا " .
ويطوي القرآن ما اعترى إخوة يوسف من دهشه وخزي ، بعد أن وجدت السقاية في رحل " بنيامين " وبعد أن أقسموا بالله على براءتهم من تهمة السرقة . . يطوي القرآن كل ذلك ، ليترك للعقول أن تتصوره . . .
ثم يعقب على ما حدث ببيان الحكمة التي من أجلها ألهم الله - تعالى - يوسف أن يفعل ما فعل من دس السقاية في رحل أخيه ، ومن سؤال إخوته عن جزاء السارق في شريعتهم فيقول { كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله . . . }
و " كدنا " من الكيد وأصله الاحتيال والمكر ، وهوصرف غيرك عما يريده بحيله ، وهو مذموم إن تحرى به الفاعل الشر والقبيح ، ومحمود إن تحرى به الفاعل الخير والجميل .
والمراد به هنا : النوع المحمود ، واللام في " ليوسف " للتعليل .
والمراد بدين الملك : شريعته التي يسير عليها في الحكم بين الناس .
والمعنى : مثل هذا التدبير الحكيم دبرنا من أجل يوسف ما يوصله إلى غرضه ومقصده ، وهو احتجاز أخيه بنيامين معه ، بأن ألهمناه بأن يضع السقاية في رحل أخيه ، وبأن يسأل إخوته عن حكم السارق في شريعتهم . . وما كان يوسف ليستطيع أن يحتجز أخاه معه ، لو نفذ شريعة ملك مصر ، لأن شريعته لا تجيز استرقاق السارق سنة كما هو الحال في شريعة يعقوب ، وإنما تعاقب السارق بضربه وتغريمه قيمة ما سرقه .
وما كان يوسف ليفعل كل ذلك التدبير الحكيم في حال من الأحوال ، إلا في حال مشيئة الله ومعونته وإذنه بذلك ، فهو - سبحانه - الذي ألهمه أن دس السقاية في رحل أخيه ، وهو - سبحانه - الذي ألهمه أن يسأل إخوته عن عقوبة السارق في شريعتهم حتى يطبقها على من يوجد صواع الملك في رحله منهم .
والجملة الكريمة بيان لمظهر من مظاهر فضل الله - تعالى - على يوسف حيث ألهمه ما يوصله إلى مقصوده بأحكم أسلوب .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ } أى : مثل ذلك الكيد العجيب وهو إرشاد الإِخوة إلى الإِفتاء المذكور . . . دبرنا وصنفنا من أجل يوسف ما يحصل به غرضه . . .
وقوله { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك } أى في حكمه وقضائه والكلام استئناف وتعليل لذلك الكيد ، كأنه قيل : لماذا فعل ؟ فقيل : لأنه لم يكن ليأخذ أخاه جزاء وجود الصواع عنده في دين الملك في أمر السارق إلا بذلك الكيد ، لأن جزاء السارق في دينه أن يضاعف عليه الغرم . . . دون أن يسترق كما هو الحال في شريعة يعقوب .
وقوله { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } أى : لم يكن يوسف ليتمكن من أخذ أخيه في حال نم الأحوال ، إلا في حال مشيئته - تعالى - التي هي عبارة عن ذلك الكيد المذكور . . .
قالوا : وفى الآية دليل على جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما صورته صورة الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف ذلك شرعاً ثابتاً .
وقوله - سبحانه - { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } استئناف لبيان قدرة الله - تعالى - وسعة رحمته وعطائه .
أى : نرفع من نشاء رفعه من عبادنا إلى درجات عالية من العلوم والمعارف والعطايا والمواهب كما رفعنا درجات يوسف - عليه السلام - .
{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ } من أولئك المرفوعين { عليم } يزيد عنهم في علمهم وفى مكانتهم عند الله - تعالى - فهو - سبحانه - العليم بأحوال عباده ، وبمنازلهم عنده ، وبأعلاهم درجة ومكانة .
وقال - سبحانه - { نرفع } بصيغة الاستقبال وللأشعار بأن ذلك سنة من سننه الإِلهية التي لا تتخلف ولا تتبدل ، وأن عطاءه - سبحانه - لايناله إلا الذين تشملهم إرادته ومشيئته كما تقتضيه حكمته .
وجاءت كلمة { درجات } بالتنكير ، للإِشارة إلى عظمها وكثرتها .
كل هذا الحوار كان على منظر ومسمع من يوسف . فأمر بالتفتيش . وأرشدته حصافته إلى أن يبدأ برحالهم قبل رحل أخيه . كي لا يثير شبهة في نتيجة التفتيش :
( فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه ) !
ويدعنا السياق نتصور الدهشة بالمفاجأة العنيفة لأبناء يعقوب الموقنين ببراءتهم ، الحالفين ، المتحدين . . فلا يذكر شيئا عن هذا ، بل يتركه يتملاه الخيال على الصورة التي تكمل رسم المشهد بانفعالاته . . بينما يأخذ في التعقيب ببعض مرامي القصة ، ريثما يفيق النظارة وأبناء يعقوب مما هم فيه :
أي كذلك دبرنا له هذا التدبير الدقيق .
( ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ) . .
فلو حكم شريعة الملك ما تمكن من أخذ أخيه ، إنما كان يعاقب السارق على سرقته ، دون أن يستولي على أخيه كما استولى عليه بتحكيم إخوته لدينهم هم . وهذا هو تدبير الله الدي ألهم يوسف أسبابه . وهو كيد الله له . والكيد يطلق على التدبير في الخفاء للخير أو للشر سواء . وإن كان الشر قد غلب عليه . وظاهر الأمر هنا أنه شر يحل بأخيه وهو شر يحل بإخوته لإحراجهم أمام أبيه . وهو سوء - ولو مؤقتا - لأبيه . فلهذا اختار تسميته كيدا على إجمال اللفظ وبالإلماع إلى ظاهره . وهو من دقائق التعبير .
( ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ) . . ( إلا أن يشاء الله ) . .
فيدبر مثل هذا التدبير الذي رأيناه .
ويتضمن التعقيب الإشارة إلى ما ناله يوسف من رفعة :
وإلى ما ناله من علم ، مع التنبيه إلى أن علم الله هو الأعلى :
ولا بد أن نقف أمام التعبير القرآني الدقيق العميق :
( كذلك كدنا ليوسف . . ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك . . . ) . .
إن هذا النص يحدد مدلول كلمة " الدين " - في هذا الموضع - تحديدا دقيقا . . إنه يعني : نظام الملك وشرعه . . فإن نظام الملك وشرعه ما كان يجعل عقوبة السارق هو أخذه في جزاء سرقته . إنما هذا كان نظام يعقوب وشريعة دينه . وقد ارتضى إخوة يوسف تحكيم نظامهم هم وشريعتهم ؛ فطبقها يوسف عليهم عندما وجد صواع الملك في رحل أخيه . . وعبر القرآن الكريم عن النظام والشريعة بأنها " الدين " . .
هذا المدلول القرآني الواضح هو الذي يغيب في جاهلية القرن العشرين عن الناس جميعا . سواء منهم من يدعون أنفسهم مسلمين وغيرهم من الجاهلين !
إنهم يقصرون مدلول " الدين " على الاعتقاد والشعائر . . ويعدون كل من يعتقد في وحدانية الله وصدق رسوله ويؤمن بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ؛ ويؤدي الشعائر المكتوبة . . . داخلا في " دين الله " مهما تكن دينونته بالطاعة والخضوع وإقراره بالحاكمية لغير الله من الأرباب المتفرقة في
الأرض . . بينما النص القرآني هنا يحدد مدلول " دين الملك " بانه نظام الملك وشريعته . وكذلك " دين الله " فهو نظامه وشريعته . .
إن مدلول " دين الله " قد هزل وانكمش حتى صار لا يعني في تصور الجماهير الجاهلية إلا الاعتقاد والشعائر . . ولكنه لم يكن كذلك يوم جاء هذا الدين منذ آدم ونوح إلى محمد عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين .
لقد كان يعني دائما : الدينونة لله وحده ؛ بالتزام ما شرعه ، ورفض ما يشرعه غيره . وإفراده - سبحانه - بالألوهية في الأرض مثل إفراده بالألوهية في السماء ؛ وتقرير ربوبيته وحده للناس : أي حاكميته وشرعه وسلطانه وأمره . وكان مفرق الطريق دائما بين من هم في دين " الله " ومن هم في " دين الملك " أن الأولين يدينون لنظام الله وشرعه وحده ، وأن الآخرين يدينون لنظام الملك وشرعه . أو يشركون فيدينون لله في الاعتقاد والشعائر ، ويدينون لغير الله في النظام والشرائع !
وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة ، ومن بديهيات العقيدة الإسلامية تماما .
وبعض المترفقين بالناس اليوم يتلمسون لهم عذرا في أنهم يجهلون مدلول كلمة " دين الله " وهم من ثم لا يصرون ولا يحاولون تحكيم شريعة الله وحدها بوصفها هي " الدين " . وأن جهلهم هذا بمدلول الدين يعفيهم من أن يكونوا جاهليين مشركين !
وأنا لا أتصور كيف أن جهل الناس ابتداء بحقيقة هذا الدين يجعلهم في دائرة هذا الدين !
إن الاعتقاد بحقيقة فرع عن معرفتها . فإذا جهل الناس حقيقة عقيدة فكيف يكونون معتنقين لها ؟ وكيف يحسبون من أهلها وهم لا يعرفون ابتداء مدلولها ؟
إن هذا الجهل قد يعفيهم من حساب الآخرة ، أو يخفف عنهم العذاب فيها ؛ ويلقي بتبعاتهم وأوزارهم على كاهل من لا يعلمونهم حقيقة هذا الدين وهم يعرفونها . . ولكن هذه مسألة غيبية متروك أمرها لله ، والجدل في الجزاء الأخروي لأهل الجاهلية عامة ليس وراءه كبير طائل . وليس هو الذي يعنينا نحن البشر الذين ندعو إلى الإسلام في الأرض !
إن الذي يعنينا هو تقرير حقيقة الدين الذي فيه الناس اليوم . . إنه ليس دين الله قطعا . فدين الله هو نظامه وشرعه وفق النصوص القرآنية الصريحة . فمن كان في نظام الله وشرعه فهو في " دين الله " . ومن كان في نظام الملك وشرعه فهو في " دين الملك " . ولا جدال في هذا .
والذين يجهلون مدلول الدين لا يمكن أن يكونوا معتقدين بهذا الدين . لأن الجهل هنا وارد على أصل حقيقة الدين الأساسية . والجاهل بحقيقة هذا الدين الأساسية لا يمكن عقلا وواقعا أن يكون معتقدا به . إذ الاعتقاد فرع عن الإدراك والمعرفة . . وهذه بديهية . .
وخير لنا من أن ندافع عن الناس - وهم في غير دين الله - ونتلمس لهم المعاذير ، ونحاول أن نكون أرحم بهم من الله الذي يقرر مدلول دينه وحدوده ! . .
خير لنا من هذا كله أن نشرع في تعريف الناس حقيقة مدلول " دين الله " ليدخلوا فيه . . أو يرفضوه . .
هذا خير لنا وللناس أيضا . . خير لنا لأنه يعفينا من تبعة ضلال هؤلاء الجاهلين بهذا الدين ، الذين ينشأ عن جهلهم به عدم اعتناقه في الحقيقة . . وخير للناس لأن مواجهتهم بحقيقة ما هم عليه - وأنهم في دين الملكلا في دين الله - قد تهزهم هزة تخرجهم من الجاهلية إلى الإسلام ، ومن دين الملك إلى دين الله !
كذلك فعل الرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - وكذلك ينبغي أن يفعل الدعاة إلى الله في مواجهة الجاهلية في كل زمان ومكان . .
لما اتهمهم أولئك الفتيان بالسرقة ، قال لهم إخوة يوسف : { تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ } أي : لقد تحققتم وعلمتم منذ{[15230]} عرفتمونا ، لأنهم{[15231]} شاهدوا منهم سيرة حسنة ، أنَّا ما جئنا للفساد في الأرض ، وما كنا سارقين ، أي : ليست سجايانا تقتضي هذه الصفة ، فقال{[15232]} لهم الفتيان : { فَمَا جَزَاؤُهُ } أي : السارق ، إن كان فيكم { إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ } أي : أي شيء يكون عقوبته إن وجدنا فيكم من أخذه{[15233]} ؟ { قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }
وهكذا كانت شريعة إبراهيم : أن السارق يدفع إلى المسروق منه . وهذا هو الذي أراد يوسف ، عليه السلام ؛ ولهذا بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ، أي فتشها قبله ، تورية ، { ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ } فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم وإلزاما لهم بما يعتقدونه ؛ ولهذا قال تعالى : { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه ، لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة .
وقوله : { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } أي : لم يكن له أخذه في حكم ملك مصر ، قاله الضحاك وغيره .
وإنما قيض الله له أن{[15234]} التزم له إخوته بما التزموه ، وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم ؛ ولهذا مدحه تعالى فقال : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } كما قال تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ المجادلة : 11 ] .
{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } قال الحسن البصري : ليس عالم إلا فوقه عالم ، حتى ينتهي إلى الله عز وجل . وكذا رَوَى عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن عبد الأعلى الثعلبي ، عن سعيد بن جبير قال كنا عند ابن عباس فتحدث بحديث عجيب ، فتعجب رجل فقال : الحمد لله فوق كل ذي علم عليم [ فقال ابن عباس : بئس ما قلت ، الله العليم ، وهو فوق كل عالم ]{[15235]} وكذا روى سماك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } قال : يكون هذا أعلم من هذا ، وهذا أعلم من هذا ، والله فوق كل عالم . وهكذا{[15236]} قال عكرمة .
وقال قتادة : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } حتى ينتهي العلم إلى الله ، منه بُدئ وتعلمت العلماء ، وإليه يعود ، وفي قراءة عبد الله " وَفَوْقَ كُلِّ عالم عليم " .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مّن نّشَآءُ وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ففتّش يوسف أوعيتهم ورحالهم طالبا بذلك صُواع الملك ، فبدأ في تفتيشه بأوعية إخوته من أبيه ، فجعل يفتشها وعاء وعاء قبل وعاء أخيه من أبيه وأمه ، فإنّه أخّر تفتيشه ، ثم فتش آخرها وعاء أخيه ، فاستخرج الصواع من وعاء أخيه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَبَدَأَ بأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أخِيهِ ذُكر لنا أنه كان لا ينظر في وعاء إلاّ استغفر الله تأثما مما قذفهم به ، حتى بقيَ أخوه ، وكان أصغر القوم ، قال : ما أرى هذا أخذ شيئا ، قالوا : بَلى فاسْتبرِه ، أَلاَ وقد علموا حيث وضعوا سقايتهم . ثم استخرجها من وعاء أخيه .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن مَعْمر ، عن قتاد ، قال : فاستخرجها من وعاء أخيه ، قال : كان كلما فتح متاعا استغفر تائبا مما صنع ، حتى بلغ متاع الغلام ، فقال : ما أظنّ هذا أخذ شيئا ، قالوا : بلى ، فاستبره .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : فَبَدأَ بأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وَعاءِ أخِيهِ فلما بقي رَحْلُ الغلام ، قال : ما كان هذا الغلام ليأخذه . قالوا : والله لا يترك حتى تنظر في رحله ، لنذهب وقد طابت نفسك فأدخل يده فاستخرجها من رحله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما قال الرسول لهم : ولِمَنْ جاءِ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وأنا بِهِ زَعِيمٌ قالوا : ما نعلمه فينا ولا معنا . قال : لستم ببارحين حتى أفتش أمتعتكم وأُعْذِر في طلبها منكم . فبدأ بأوعيتهم وعاء وعاء ، يفتشها وينظر ما فيها ، حتى مرّ على وعاء أخيه ففتشه ، فاستخرجها منه ، فأخذ برقبته ، فانصرف به إلى يوسف . يقول الله : كذلكَ كِدْنا لِيُوسُفَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : ذُكِر لنا أنه كان كلما بَحَث متاع رجل منهم استغفر ربه تأثما ، قد علم أين موضع الذي يطلب . حتى إذا بقي أخوه وعلم أن بغيته فيه ، قال : لا أرى هذا الغلام أخذه ، ولا أبالي أن لا أبحث متاعه قال إخوته : إنه أطيب لنفسك وأنفسنا أن تستبرىء متاعه أيضا . فلما فتح متاعه استخرج بغيته منه قال الله : كذلكَ كِدْنا ليُوسُفَ .
واختلف أهل العربية في الهاء والألف اللتين في قوله : ثُمّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أخِيهِ فقال بعض نحويّي البصرة : هي من ذكر «الصواع » ، قال : وأنّث وقد قال : ولِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ لأنه عنى الصّواع . قال : والصواع مذكر ، ومنهم من يؤنث الصواع ، وعني ههنا السقاية ، وهي مؤنثة . قال : وهما اسمان لواحد مثل الثوب والملحفة مذكر ومؤنث لشيء واحد .
وقال بعض نحويّي الكوفة في قوله : ثُمّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أخِيهِ ذهب إلى تأنيث السرقة ، قال : وإن يكن الصواع في معنى الصاع ، فلعل هذا التأنيث من ذلك . قال : وإن شئت جعلته لتأنيث السقاية . قال : والصواع ذَكر ، والصاع يؤنث ويذكر ، فمن أنثه قال : ثلاث أَصْوُع ، مثل ثلاث أَدْوُر ، ومن ذكره قال : أصواع ، مثل أبواب .
وقال آخر منهم : إنما أُنث الصواع حين أنث لأنه أريدت به السقاية وذُكّر حين ذكر ، لأنه أريد به الصواع . قال : وذلك مثل الخِوَان والمائدة ، وسِنان الرمح وعاليته ، وما أشبه ذلك من الشيء الذي يجتمع فيه اسمان : أحدهما مذكر ، والاَخر مؤنث .
وقوله : كذلك كِدْنا لِيُوسُفَ يقول : هكذا صنعنا ليوسف حتى يُخَلّص أخاه لأبيه وأمه من إخوته لأبيه ، بإقرار منهم أن له أن يأخذه منهم ويحتبسه في يديه ويحول بينه وبينهم وذلك أنهم قالوا إذ قيل لهم ما جَزَاؤُهُ إنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ : جزاء من سرق الصواع أن من وجد ذلك في رحله فهو مُسْتَرَقّ به ، وذلك كان حكمهم في دينهم . فكاد الله ليوسف كما وصف لنا حتى أخَذ أخاهُ منهم ، فصار عنده بحكمهم وصنع الله له .
وقوله : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ يقول : ما كان يوسف ليأخذ أخاه في حكم ملك مصر وقضائه وطاعته منهم ، لأنه لم يكن من حكم ذلك الملك وقضائه أن يُسْترقّ أحد بالسرق ، فلم يكن ليوسف أخذ أخيه في حكم ملك أرضه إلاّ أن يشاء الله بكيده الذي كاده له ، حتى أَسْلَمَ مَنْ وُجد في وعائه الصّواع إخوتُه ورفقاؤه بحكمهم عليه وطابت أنفسهم بالتسليم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إلاّ فعلةً كادها الله له ، فاعتلّ بها يوسف .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كذلكَ كِدْنا لِيُوسُفَ كادها الله له ، فكانت علة ليوسف .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ قال : إلاّ فعلة كادها الله فاعتلّ بها يوسف .
قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : كذلكَ كِدْنا لِيُوسُفَ قال : صنعنا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : كذلكَ كِدْنا لِيُوسُفَ يقول : صنعنا ليوسف .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : كذلكَ كِدْنا لِيُوسُفَ يقول : صنعنا ليوسف .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ فقال بعضهم : ما كان ليأخذ أخاه في سلطان الملك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ يقول : في سلطان الملك .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ما كان لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ يقول : في سلْطان الملك .
وقال آخرون : معنى ذلك : في حكمه وقضائه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ يقول : ما كان ذلك في قضاء الملك أن يستعبد رجلاً بسرقة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فِي دِينِ المَلِكِ قال : لم يكن ذلك في دين الملك ، قال : حكمه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح محمد بن ليث المروزي ، عن رجل قد سماه ، عن عبد الله بن المبارك ، عن أبي مودود المدينيّ ، قال : سمعت محمد بن كعب القُرَظيّ يقول : قالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كذلكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ قال : دين الملك لا يؤخذ به من سرق أصلاً ، ولكن الله كاد لأخيه ، حتى تكلموا ما تكلموا به ، فأخذهم بقولهم ، وليس في قضاء الملك .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، قال : بلغه في قوله : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلكِ قال : كان حكم الملك أن من سرق ضوعف عليه الغُرم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ يقول : في حكم الملك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ : أي بظلم ، ولكن الله كاد ليوسف ليضمّ إليه أخاه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ قال : ليس في دين الملك أن يؤخذ السارق بسرقته . قال : وكان الحكم عند الأنبياء يعقوب وبنيه : أن يؤخذ السارق بسرقته عبدا يُسترقّ .
وهذه الأقوال وإن اختلفت ألفاظ قائليها في معنى دين الملك ، فمتقاربة المعاني ، لأن من أخذه في سلطان الملك عامله بعمله ، فيريناه أخذه إذا لم يغيره ، وذلك منه حكم عليه ، وحكمه عليه قضاؤه . وأصل الدّين : الطاعة ، وقد بيّنت ذلك في غير هذا الموضع بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ ولكن صَنَعنا له بأنهم قالوا : فَهُوَ جَزَاؤُهُ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ إلاّ بعلة كادها الله ، فاعتلّ بها يوسف .
وقوله : نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعضهم : «نَرْفَعُ دَرَجاتِ مَنْ نَشاءُ » بإضافة الدرجات إلى «مَنْ » بمعنى : نرفع منازل من نشاء ، رفع منازله ومراتبه في الدنيا بالعلم على غيره ، كما رفعنا مرتبة يوسف في ذلك ومنزلته في الدنيا على منازل إخوته ومراتبهم . وقرأ ذلك آخرون : نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بتنوين «الدرجات » ، بمعنى : نرفع من نشاء مراتب ودرجات في العلم على غيره ، كما رفعنا يوسف . فمَن على هذه القراءة نصب ، وعلى القراءة الأولى خفض . وقد بيّنا ذلك في سورة الأنعام .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قوله : نَرْفَعُ دَرَجاتِ مَنْ نَشاءُ يوسف وإخوته أُوتوا علما ، فرفعنا يوسف فوقهم في العلم .
وقوله : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَليمٌ يقول تعالى ذكره : وفوق كل عالم مَنْ هو أعلم منه حتى ينتهي ذلك إلى الله تعالى . وإنما عَنَى بذلك أن يوسف أعلم إخوته ، وأن فوق يوسف من هو أعلم من يوسف ، حتى ينتهي ذلك إلى الله تعالى .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر العَقْديّ ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الأعلى الثعلبيّ ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أنه حدّث بحديث ، فقال رجل عنده : وَفَوْقَ كُلّ ذِي علْمٍ عَليمٌ فقال ابن عباس : بئسما قلت ، إن الله هو عليم ، وهو فوق كلّ عالم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير ، قال : حدّث ابن عباس بحديث ، فقال رجل عنده : الحمد لله وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ فقال ابن عباس : العالم الله ، وهو فوق كلّ عالم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير ، قال : كنا عند ابن عباس ، فحدّث حديثا ، فتعجب رجل فقال : الحمد لله وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ فقال ابن عباس : بئسما قلت : الله العليم ، وهو فوق كل عالم .
حدثنا الحسن بن محمد وابن وكيع ، قالا : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن سالم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال : يكون هذا أعلم من هذا ، وهذا أعلم من هذا ، والله فوق كل عالم .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : أخبرنا أبو الأحوص ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال : الله الخبير العليم فوق كلّ عالم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبيد الله ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال : الله فوق كلّ عالم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب ، قال : سأل رجل عليا عن مسئلة ، فقال فيها ، فقال الرجل : ليس هكذا ولكن كذا وكذا ، قال عليّ : أصبت وأخطأت وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ .
حدثني يعقوب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن عُلَية ، عن خالد ، عن عكرمة ، في قوله : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال : علم الله فوق كلّ أحد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن نصر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال : الله عزّ وجلّ .
حدثنا ابن وكيع ، حدثنا يعلى بن عبيد ، عن سفيان ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال : الله أعلم من كلّ أحد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ابن شبرمة ، عن الحسن ، في قوله : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَليمٌ قال : ليس عالم إلاّ فوقه عالم حتى ينتهي العلم إلى الله .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عاصم ، قال : حدثنا جويرية ، عن بشير الهجيمي ، قال : سمعت الحسن قرأ هذه الآية يوما : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ، ثم وقف فقال : إنه والله ما أمسى على ظهر الأرض عالم إلاّ فوقه من هو أعلم منه ، حتى يعود العلم إلى الذي علمه .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عليّ ، عن جرير ، عن ابن شُبْرُمة ، عن الحسن : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال : فوق كل عالم عالم ، حتى ينتهي العلم إلى الله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَليمٌ حتى ينتهي العلم إلى الله ، منه بدىء ، وتعلمت العلماء ، وإليه يعود . في قراءة عبد الله : «وَفَوْقَ كُلّ عالِمٍ عَلِيمٌ » .
قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وكيف جاز ليوسف أن يجعل السقاية في رحل أخيه ثم يِسَرّق قوما أبرياء من السّرَق ، ويقول أيّتُها العِيرُ إنّكُمْ لَسارِقُونَ ؟ قيل : إن قوله : أيّتُها العِيرُ إنّكُمْ لَسارِقُونَ إنما هو خبر من الله عن مؤذّن أذّن به ، لا خبر عن يوسف . وجائز أن يكون المؤذّن أذن بذلكَ أنْ فَقَد الصواع ولا يعلم بصنيع يوسف . وجائز أن يكون كان أذن المؤذن بذلك عن أمر يوسف ، واستجاز الأمر بالنداء بذلك لعلمه بهم أنهم قد كانوا سرقوا سرقة في بعض الأحوال ، فأمر المؤذن أن يناديهم بوصفهم بالسّرَق ، ويوسف يعني ذلك السرق لا سرقهم الصواع . وقد قال بعض أهل التأويل : إن ذلك كان خطأ من فعل يوسف ، فعاقبه الله بإجابة القوم إياه : إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ وقد ذكرنا الرواية فيما مضى بذلك .
{ فبدأ بأوعيتهم } فبدأ المؤذن . وقيل يوسف لأنهم ردوا إلى مصر . { قبل وعاء أخيه } بنيامين نفيا للتهمة . { ثم استخرجها } أي السقاية أو الصواع لأنه يذكر ويؤنث . { من وعاء أخيه } وقرئ بضم الواو وبقلبها همزة . { كذلك } مثل ذلك الكيد . { كدنا ليوسف } بأن علمناه إياه وأوحينا به إليه . { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } ملك مصر لأن دينه الضرب وتغريم ضعف ما أخذ دون الاسترقاق وهو بيان للكيد . { إلا أن يشاء الله } أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك ، فالاستثناء من أعم الأحوال ويجوز أن يكون منقطعا أي لكن أخذه بمشيئة الله تعالى وإذنه . { نرفع درجات من نشاء } بالعلم كما رفعنا درجته . { وفوق كل ذي علم عليم } أرفع درجة منه ، واحتج به من زعم أنه تعالى عالم بذاته إذ لو كان ذا علم لكان فوقه من هو أعلم منه . والجواب أن المراد كل ذي علم من الخلق لأن الكلام فيهم ولأن العليم هو الله سبحانه وتعالى ، ومعناه الذي له العلم البالغ لغة ولأنه لا فرق بينه وبين قولنا فوق كل العلماء عليم وهو مخصوص .
{ بدأ } أي أمر يوسف عليه السلام بالبداءة بأوعية بقية إخوته قبلَ وعاء أخيه الشقيق .
وأوعية : جمع وعاء ، وهو الظرف ، . مشتق من الوعي وهو الحفظ . والابتداء بأوعية غير أخيه لإبعاد أن يكون الذي يُوجد في وعائه هو المقصود من أول الأمر . وتأنيث ضمير { استخرجها } للسقاية . وهذا التأنيث في تمام الرشاقة إذ كانت الحقيقة أنها سقاية جعلت صواعاً . فهو كردّ العجز على الصدر .
والقول في { كذلك كدنا ليوسف } كالقول في { كذلك نجزي الظالمين } [ سورة يوسف : 75 ] .
والكَيْد : فعل يتوصل بظاهره إلى مقصد خفي . والكيد : هنا هو إلهام يوسف عليه السلام لهذه الحيلة المحكمة في وضع الصواع وتفتيشه وإلهام إخوته إلى ذلك الحكم المُصْمَت .
وأسند الكيد إلى الله لأنه ملهمه فهو مسبّبه . وجعل الكيد لأجل يوسف عليه السلام لأنه لفائدته .
وجملة { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله } بيان للكيد باعتبار جميع ما فيه من وضع السقاية ومن حكم إخوته على أنفسهم بما يلائم مَرغوب يوسف عليه السلام من إبقاء أخيه عنده ، ولولا ذلك لمَا كانت شريعة القبط تخوله ذلك ، فقد قيل : إن شرعهم في جزاء السارق أن يؤخذ منه الشيء ويضرب ويغرم ضعفي المسروق أو ضعفي قيمته . وعن مجاهد { في دين الملك } أي حكمه وهو استرقاق السراق . وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية لقوله : { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } أي لولا حيلة وضع الصُّواع في متاع أخيه . ولعل ذلك كان حكماً شائعاً في كثير من الأمم ، ألا ترى إلى قولهم : { من وجد في رحله فهو جزاؤه } [ سورة يوسف : 75 ] كما تقدم ، أي أن ملك مصر كان عادلاً فلا يؤخذ أحد في بلاده بغير حق . ومثله ما كان في شرع الرومان من استرقاق المدين ، فتعين أن المراد بالدّين الشريعة لا مطلق السلطان .
ومعنى لام الجحود هنا نفي أن يكون في نفس الأمر سبب يخول يوسف عليه السلام أخذ أخيه عنده .
والاستثناء من عموم أسباب أخذ أخيه المنفية . وفي الكلام حرف جر محذوف قبل { أن } المصدرية ، وهو باء السببية التي يدل عليها نفي الأخذ ، أي أسبابه . فالتقدير : إلا بأن يشاء الله ، أي يُلهم تصوير حالته ويأذن ليوسف عليه السلام في عَمله باعتبار ما فيه من المصالح الجمة ليوسف وإخوته في الحال والاستقبال لهم ولذريتهم .
وجملة { نرفع درجات من نشاء } تذييل لقصة أخذ يوسف عليه السلام أخاه لأن فيها رفع درجة يوسف عليه السلام في الحال بالتدبير الحكيم من وقت مناجاته أخاه إلى وقت استخراج السقاية من رحله . ورفع درجة أخيه في الحال بإلحاقه ليوسف عليه السلام في العيش الرفيه والكمال بتلقي الحكمة من فيه .
ورفع درجات إخوته وأبيه في الاستقبال بسبب رفع درجة يوسف عليه السلام وحنوه عليهم . فالدرجات مستعارة لقوة الشرف من استعارة المحسوس للمعقول . وتقدم في قوله تعالى : { وللرجال عليهن درجة } في سورة البقرة ( 228 ) ، وقوله : { لهم درجات عند ربهم } في سورة الأنفال ( 4 ) .
وجملة وفوق كل ذي علم عليم } تذييل ثان لجملة { كذلك كدنا ليوسف } الآية .
وفيها شاهد لتفاوت الناس في العلم المؤذن بأن علم الذي خلق لهم العلم لا ينحصر مداه ، وأنه فوق كل نهاية من علم الناس .
والفوقية مجاز في شرف الحال ، لأن الشرف يشبّه بالارتفاع .
وعبر عن جنس المتفوق في العلم بوصف { عليم } باعتبار نسبته إلى من هو فوقه إلى أن يبلغ إلى العليم المطلق سبحانه .
وظاهر تنكير { عليم } أن يراد به الجنس فيعم كلّ موصوف بقوة العلم إلى أن ينتهي إلى علم الله تعالى . فعموم هذا الحكم بالنسبة إلى المخلوقات لا إشكال فيه . ويتعين تخصيص هذا العموم بالنسبة إلى الله تعالى بدليل العقل إذ ليس فوق الله عليم .
وقد يحمل التنكير على الوحدة ويكون المراد عليم واحد فيكون التنكير للوحدة والتعظيم ، وهو الله تعالى فلا يحتاج إلى التخصيص .
وقرأ الجمهور { درجات من نشاء } بإضافة { درجات } إلى { من نشاء } . وقرأه حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف بتنوين { درجاتٍ } على أنه تمييز لتعلق فعل { نرفع } بمفعوله وهو { من نشاء } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فبدأ} المنادي {بأوعيتهم}، فنظر فيها، فلم ير شيئا، {قبل وعاء أخيه}... {ثم استخرجها من وعاء أخيه}، يعني من متاع أخيه، وهو أخو يوسف لأبيه وأمه، {كذلك كدنا}، يعني هكذا صنعنا {ليوسف}، أن يأخذ أخاه خادما بسرقته في دين الملك، يعني في سلطان الملك، فذلك قوله: {ما كان ليأخذ أخاه}، يعني ليحبس أخاه، {في دين الملك}، يعني حكم الملك؛ لأن حكم الملك أن يغرم السارق ضعف ما سرق ثم يترك، {إلا أن يشاء الله} ذلك ليوسف، {نرفع درجات من نشاء}، يعني فضائل يوسف حين أخذ أخاه، ثم قال: {وفوق كل ذي علم عليم}، يقول الرب تعالى عالم، {وفوق كل ذي علم عليم} يقول: يوسف أعلم إخوته.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ففتّش يوسف أوعيتهم ورحالهم طالبا بذلك صُواع الملك، فبدأ في تفتيشه بأوعية إخوته من أبيه، فجعل يفتشها وعاء وعاء قبل وعاء أخيه من أبيه وأمه، فإنّه أخّر تفتيشه، ثم فتش آخرها وعاء أخيه، فاستخرج الصواع من وعاء أخيه...
وقوله:"كذلك كِدْنا لِيُوسُفَ" يقول: هكذا صنعنا ليوسف حتى يُخَلّص أخاه لأبيه وأمه من إخوته لأبيه، بإقرار منهم أن له أن يأخذه منهم ويحتبسه في يديه ويحول بينه وبينهم، وذلك أنهم قالوا إذ قيل لهم "ما جَزَاؤُهُ إنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ": جزاء من سرق الصواع أن من وجد ذلك في رحله فهو مُسْتَرَقّ به، وذلك كان حكمهم في دينهم. فكاد الله ليوسف كما وصف لنا حتى أخَذ أخاهُ منهم، فصار عنده بحكمهم وصنع الله له.
وقوله: "ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ "يقول: ما كان يوسف ليأخذ أخاه في حكم ملك مصر وقضائه وطاعته منهم، لأنه لم يكن من حكم ذلك الملك وقضائه أن يُسْترقّ أحد بالسرق، فلم يكن ليوسف أخذ أخيه في حكم ملك أرضه إلاّ أن يشاء الله بكيده الذي كاده له، حتى أَسْلَمَ مَنْ وُجد في وعائه الصّواع إخوتُه ورفقاؤه بحكمهم عليه وطابت أنفسهم بالتسليم... عن مجاهد: "لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ" قال: إلاّ فعلة كادها الله فاعتلّ بها يوسف...
عن السديّ: "كذلكَ كِدْنا لِيُوسُفَ" يقول: صنعنا ليوسف...
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ"؛
فقال بعضهم: ما كان ليأخذ أخاه في سلطان الملك...
وقال آخرون: معنى ذلك: في حكمه وقضائه... ما كان ذلك في قضاء الملك أن يستعبد رجلاً بسرقة...
وهذه الأقوال وإن اختلفت ألفاظ قائليها في معنى "دين الملك"، فمتقاربة المعاني، لأن من أخذه في سلطان الملك عامله بعمله، فبرضاه أخذه إذًا لا بغيره، وذلك منه حكم عليه، وحكمه عليه قضاؤه.
وقوله: "إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ"... عن السديّ: "إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ" ولكن صَنَعنا له بأنهم قالوا: "فَهُوَ جَزَاؤُهُ"...
وقوله: "نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ" اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: «نَرْفَعُ دَرَجاتِ مَنْ نَشاءُ» بإضافة الدرجات إلى «مَنْ» بمعنى: نرفع منازل من نشاء، رفع منازله ومراتبه في الدنيا بالعلم على غيره، كما رفعنا مرتبة يوسف في ذلك ومنزلته في الدنيا على منازل إخوته ومراتبهم. وقرأ ذلك آخرون: "نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ" بتنوين «الدرجات»، بمعنى: نرفع من نشاء مراتب ودرجات في العلم على غيره، كما رفعنا يوسف...
وقوله: "وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَليمٌ" يقول تعالى ذكره: وفوق كل عالم مَنْ هو أعلم منه حتى ينتهي ذلك إلى الله تعالى. وإنما عَنَى بذلك أن يوسف أعلم إخوته، وأن فوق يوسف من هو أعلم من يوسف، حتى ينتهي ذلك إلى الله تعالى...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ) ظاهر هذا الكلام أن يكون يوسف هو الذي فتش أوعيتهم وطلب ذلك فيها حين نسب ذلك إليه بقوله: (قبل وعاء أخيه) لكنه نسب إليه لأنه بأمره، إذ الملوك لا يأتون ذلك بأنفسهم. وفيه أنه قد فصل بينه وبين بنيامين؛ سمى هذا أخاه، ولم يسم أولئك بقوله: (بأوعيتهم قبل وعاء أخيه) وهو يخرج على وجهين:
أحدهما: أنه قد ذكر هذا أنه أخوه حين قال له: (إني أنا أخوك) ولم يذكر أولئك، فسمى هذا أخا له ونسبه إليه بالأخوة لما كان ذكر له، ولم يسم أولئك لما لم يذكر لهم أنه أخوهم.
والثاني: أنه لم يكن لهذا ـ أعني بنيامين ـ في حق يوسف سوء صنيع ولا شريك، بل هو على الأخوة والصداقة التي كانت بينه وبينه. وأما أولئك؛ أعني غيره من الإخوة فقد كان منهم إليه ما كان من سوء صنيعهم وقبح فعالهم، فخرج ذلك مخرج التبري من الأخوة بسوء ما كان إليه. وهو كقوله لنوح عليه السلام حين قال: (رب إن ابني من أهلي): (يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) [هود: 45و46] نفى أن يكون من أهله بسوء عمله، وفعله غير صالح...
(كذلك كدنا ليوسف) هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: علمنا يوسف من أول الأمر إلى آخره ما يكيد ويحتال في إمساك أخيه عنده ومنعه عنهم؛ لئلا يخلو لهم وجه أبيهم بتغييب يوسف عن أبيه لأن أباهم قال: (حتى تؤتوني موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم) [الآية: 66] فلما بلغه ذلك الخبر تولى عنهم وهو قوله: (وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف) [الآية: 84]. هذا والله أعلم، جزاء كيدهم الذي كادوا بيوسف ليخلو لهم وجه أبيهم ليتولى عنهم أبوهم. هذا يشبه أن يكون.
والثاني: (كذلك كدنا ليوسف) أي علمناه أن كيف يفتش أوعيتهم لئلا يشعروا أنه عن علم استخرجها من وعاء أخيه لا عن جهل وظن؟ علمناه البداية في التفتيش لأوعيتهم لئلا يقع عندهم أنه عن علم ويقين يأخذه...
(إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك أو يجعل له حق الأخذ وحبسه وإن لم يكن ذلك في حكمه...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{فبدأ بأوعيتهم قبل وعاءِ أخيه} لتزول الريبة من قلوبهم لو بدئ بوعاء أخيه...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ}، الآية: [76]: دليل على جواز الحيلة في التوصل إلى المباح، وما فيه من العظة والصلاح، واستخراج الحقوق...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
وَالْكَيْدُ وَالْمَكْرُ هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يُخَالِفُ فِيهِ الْبَاطِنُ الظَّاهِرَ، وَالْقَوْلُ الَّذِي يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ؛ فَيَتَأَوَّلُهُ أَحَدُ الْمُتَخَاطِبَيْنِ عَلَى وَجْهٍ وَالْآخَرُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 73]
لما اتهمهم أولئك الفتيان بالسرقة، قال لهم إخوة يوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} أي: لقد تحققتم وعلمتم منذ عرفتمونا، لأنهم شاهدوا منهم سيرة حسنة، أنَّا ما جئنا للفساد في الأرض، وما كنا سارقين، أي: ليست سجايانا تقتضي هذه الصفة، فقال لهم الفتيان: {فَمَا جَزَاؤُهُ} أي: السارق، إن كان فيكم {إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} أي: أي شيء يكون عقوبته إن وجدنا فيكم من أخذه؟ {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} وهكذا كانت شريعة إبراهيم: أن السارق يدفع إلى المسروق منه. وهذا هو الذي أراد يوسف، عليه السلام؛ ولهذا بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، أي فتشها قبله، تورية، {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم وإلزاما لهم بما يعتقدونه؛ ولهذا قال تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه، لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة.
{مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} أي: لم يكن له أخذه في حكم ملك مصر، قاله الضحاك وغيره. وإنما قيض الله له أن التزم له إخوته بما التزموه، وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم؛ ولهذا مدحه تعالى فقال: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} كما قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].
{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} قال الحسن البصري: ليس عالم إلا فوقه عالم، حتى ينتهي إلى الله عز وجل. وكذا رَوَى عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن عبد الأعلى الثعلبي، عن سعيد بن جبير قال كنا عند ابن عباس فتحدث بحديث عجيب، فتعجب رجل فقال: الحمد لله فوق كل ذي علم عليم [فقال ابن عباس: بئس ما قلت، الله العليم، وهو فوق كل عالم] وكذا روى سماك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} قال: يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا، والله فوق كل عالم. وهكذا قال عكرمة. وقال قتادة: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} حتى ينتهي العلم إلى الله، منه بُدئ وتعلمت العلماء، وإليه يعود، وفي قراءة عبد الله "وَفَوْقَ كُلِّ عالم عليم"...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان يوسف عليه الصلاة والسلام إنما تمكن من ذلك بعلو درجته وتمكنه ورفعته، بعد ما كان فيه عندهم من الصغار، كان ذلك محل عجب، فقال تعالى -التفاتاً إلى مقام التكلم تقوية للكلام بمقام الغيبة والتكلم، وزاده إشعاراً بعظمة هذا الفعل بصوغه في مظهر العظمة منبهاً لمن قد يغفل: {نرفع} أي بما لنا من العظمة، وكان الأصل: درجاته، ولكنه عمم لأنه أدل على العظمة، فكان أليق بمظهرها، فقال منبهاً على أنه كان حصل ليوسف عليه الصلاة والسلام من الهضم ما ظن أنه لا يرتفع بعده: {درجات من نشاء} أي بالعلم. ولما كان سبب الرفعة هو الأعلمية بالأسباب، وذلك أن الخلق لو اجتهدوا في خفض أحد فنصبوا له كل سبب علموه وقدروا عليه، وأراد الله ضد ذلك، لقيّض بعلمه سبباً واحداً إن شاء فأبطل جميع تلك الأسباب وقضى برفعته، نبه تعالى على ذلك بقوله: {وفوق كل ذي علم} أي من الخلق {عليم} عظيم العلم، لا تكتنه عظمة علمه العقول، ولا تتخيلها الفهوم، فهو يسبب من الأسباب ما تطيح له أسباب العلماء وتحير له ألباب العقلاء البصراء، وهو الله تعالى...
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
... ولما كان الكيد يشعر بالحيلة والخديعة، وهو في حق الله تعالى محال حمل على الغاية، ونهايته هنا إلقاء الإنسان من حيث لا يشعر في أمر مكروه لا سبيل له إلى دفعه، فالكيد في حق الله تعالى محال على هذا المعنى، وقيل: المراد بالكيد هاهنا إنّ أخوة يوسف سعوا في إبطال أمره، والله تعالى نصره وقوّاه وأعلى أمره وقوله تعالى: {ما كان}، أي: يوسف {ليأخذ أخاه في دين الملك}، أي: حكمه بيان للكيد؛ لأنّ جزاءه كان عنده الضرب وتغريم مثلي ما أخذ لا أنه يستعبد، وقوله تعالى: {إلا أن يشاء الله} فيه وجهان:
أحدهما: أنه استثناء منقطع تقديره: ولكن بمشيئة الله أخذه في دين الملك، وهو دين آل يعقوب عليه السلام إنّ الاسترقاق جزاء السارق.
والثاني: أنه مفرغ من الأحوال العامّة والتقدير ما كان ليأخذه في كل حال إلا في حال التباسه بمشيئة الله، أي إذنه في ذلك. ولما كان يوسف عليه السلام إنما تمكن من ذلك بعلو درجته وتمكنه ورفعته بعدما كان فيه عندهم من الصغار كان ذلك محل عجب فقال تعالى التفاتاً إلى مقام التكلم: {نرفع درجات من نشاء}، أي: بالعلم كما رفعنا درجته...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
... {كذلك} نُصب على المصدرية والكافُ مقحمةٌ للدَلالة على فخامة المشارِ إليه وكذا ما في ذلك من معنى البُعد أي مثلَ ذلك الكيدِ العجيبِ وهو عبارةٌ عن إرشاد الإخوةِ إلى الإفتاء المذكورِ بإجرائه على ألسنتهم وبحملهم عليه بواسطة المستفتين من حيث لم يحتسبوا فمعنى قوله عز وجل: {كِدْنَا لِيُوسُفَ} صنعنا له ودبّرنا لأجل تحصيل غرضِه من المقدمات التي رتبها من دس الصُواعِ وما يتلوه... وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ في دِينِ الملك} استئنافٌ وتعليلٌ لذلك الكيدِ وصُنعه لا تفسيرٌ وبيانٌ له كما قيل، كأنه قيل: لماذا فعل ذلك؟ فقيل: لأنه لم يكن ليأخذ أخاه بما فعله في دين الملِكِ في أمر السارق... إلا به لأن جزاءَ السارقِ في دينه إنما كان ضربَه وتغريمَه ضعفَ ما أخذ دون الاسترقاق والاستعباد كما هو شريعةُ يعقوبَ عليه السلام فلم يكن يتمكن بما صنعه من أخذ أخيه بالسرقة التي نسبها إليه حال من الأحوال {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} أي إلا حالَ مشيئتِه التي هي عبارةٌ عن إرادته لذلك الكيدِ أو إلا حالَ مشيئتِه للأخذ بذلك الوجهِ... وعلى هذا ينبغي أن يحمل القصرُ في تفسير من فسر قوله تعالى: {كِدْنَا لِيُوسُفَ} بقوله: علّمناه إياه وأوحينا به إليه أي مثلَ ذلك التعليم المستتبعِ لما شرح مرتباً علّمناه دون بعض من ذلك فقط الخ... {نَرْفَعُ درجات} أي رتباً كثيرةً عاليةً من العلم... قوله تعالى: {من نَّشَاء} أي نشاء رفعَه حسبما تقتضيه الحكمةُ وتستدعيه المصلحةُ كما رفعنا يوسف، وإيثارُ صيغة الاستقبالِ للإشعار بأن ذلك سنةٌ مستمرةٌ غيرُ مختصةٍ بهذه المادة والجملةُ مستأنفةٌ لا محل لها من الإعراب {وَفَوْقَ كُلّ ذي عِلْمٍ} من أولئك المرفوعين {عَلِيمٌ} لا ينالون شأوَه... فقوله تعالى: {نَرْفَعُ درجات} إلى قوله تعالى: {عَلِيمٌ} توضيحٌ لذلك على معنى أن الرفع المذكورَ لا يوجب تمامَ مرامِه إذ ليس ذلك بحيث لا يعزُب عن علمه شيءٌ بل إنما نرفع كلَّ من نرفع حسب استعدادِه، وفوق كلِّ واحدٍ منهم عليمٌ لا يقادر علمُه ولا يكتنه كنهُه يَرفع كلاًّ منهم إلى ما يليق به من معارج العلمِ ومدارجِه وقد رَفع يوسفَ إلى ما يليق به من الدرجات العاليةِ وعلم أن ما حواه دائرةُ علمِه لا يفي بمرامه فأرشد إخوتَه إلى الإفتاء المذكورِ فكان ما كان... والتعرضُ لوصف العلم لتعيين جهةِ الفوقية، وفي صيغة المبالغةِ مع التنكير والالتفاتِ إلى الغَيبة من الدلالة على فخامة شأنِه عز وعلا وجلالةِ مقدارِ علمِه المحيطِ ما لا يخفى...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
... فدبر تعالى ما حكم به إخوة يوسف على السارق، لإيصال يوسف إلى أربه، رحمة منه وفضلا. وفيه إعلام بأن يوسف ما كان يتجاوز قانون الملك، وإلا، لاستبد بما شاء، وهذا من فور فطنته، وكمال حكمته. ويستدل به على جواز تسمية قوانين ملل الكفر (دينا) لها والآيات في ذلك كثيرة. وقوله تعالى: {إلا أن يشاء الله} يعنى: أن ذلك الأمر كان بمشيئة الله وتدبيره، لأن ذلك كله كان إلهاما من الله ليوسف وإخوته، حتى جرى الأمر وفق المراد. {نرفع درجات من نشاء} أي بالعلم، كما رفعنا يوسف. وفي إيثار صيغة الاستقبال إشعار بأن ذلك سنة إلهية مستمرة، غير مختصة بهذه المادة. {وفوق كل ذي علم} أي من أولئك المرفوعين {عليم} أي فوقه أرفع درجة منه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
كل هذا الحوار كان على منظر ومسمع من يوسف. فأمر بالتفتيش. وأرشدته حصافته إلى أن يبدأ برحالهم قبل رحل أخيه. كي لا يثير شبهة في نتيجة التفتيش:
(فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه)!
ويدعنا السياق نتصور الدهشة بالمفاجأة العنيفة لأبناء يعقوب الموقنين ببراءتهم، الحالفين، المتحدين.. فلا يذكر شيئا عن هذا، بل يتركه يتملاه الخيال على الصورة التي تكمل رسم المشهد بانفعالاته.. بينما يأخذ في التعقيب ببعض مرامي القصة، ريثما يفيق النظارة وأبناء يعقوب مما هم فيه:
أي كذلك دبرنا له هذا التدبير الدقيق.
(ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك)..
فلو حكم شريعة الملك ما تمكن من أخذ أخيه، إنما كان يعاقب السارق على سرقته، دون أن يستولي على أخيه كما استولى عليه بتحكيم إخوته لدينهم هم. وهذا هو تدبير الله الدي ألهم يوسف أسبابه. وهو كيد الله له. والكيد يطلق على التدبير في الخفاء للخير أو للشر سواء. وإن كان الشر قد غلب عليه. وظاهر الأمر هنا أنه شر يحل بأخيه وهو شر يحل بإخوته لإحراجهم أمام أبيه. وهو سوء -ولو مؤقتا- لأبيه. فلهذا اختار تسميته كيدا على إجمال اللفظ وبالإلماع إلى ظاهره. وهو من دقائق التعبير.
(ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك).. (إلا أن يشاء الله)..
فيدبر مثل هذا التدبير الذي رأيناه.
ويتضمن التعقيب الإشارة إلى ما ناله يوسف من رفعة:
وإلى ما ناله من علم، مع التنبيه إلى أن علم الله هو الأعلى:
ولا بد أن نقف أمام التعبير القرآني الدقيق العميق:
(كذلك كدنا ليوسف.. ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك...)..
إن هذا النص يحدد مدلول كلمة "الدين "-في هذا الموضع- تحديدا دقيقا.. إنه يعني: نظام الملك وشرعه.. فإن نظام الملك وشرعه ما كان يجعل عقوبة السارق هو أخذه في جزاء سرقته. إنما هذا كان نظام يعقوب وشريعة دينه. وقد ارتضى إخوة يوسف تحكيم نظامهم هم وشريعتهم؛ فطبقها يوسف عليهم عندما وجد صواع الملك في رحل أخيه.. وعبر القرآن الكريم عن النظام والشريعة بأنها "الدين"..
هذا المدلول القرآني الواضح هو الذي يغيب في جاهلية القرن العشرين عن الناس جميعا. سواء منهم من يدعون أنفسهم مسلمين وغيرهم من الجاهلين!
إنهم يقصرون مدلول" الدين "على الاعتقاد والشعائر.. ويعدون كل من يعتقد في وحدانية الله وصدق رسوله ويؤمن بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره؛ ويؤدي الشعائر المكتوبة... داخلا في" دين الله "مهما تكن دينونته بالطاعة والخضوع وإقراره بالحاكمية لغير الله من الأرباب المتفرقة في
الأرض.. بينما النص القرآني هنا يحدد مدلول" دين الملك "بانه نظام الملك وشريعته. وكذلك" دين الله "فهو نظامه وشريعته..
إن مدلول" دين الله "قد هزل وانكمش حتى صار لا يعني في تصور الجماهير الجاهلية إلا الاعتقاد والشعائر.. ولكنه لم يكن كذلك يوم جاء هذا الدين منذ آدم ونوح إلى محمد عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين.
لقد كان يعني دائما: الدينونة لله وحده؛ بالتزام ما شرعه، ورفض ما يشرعه غيره. وإفراده -سبحانه- بالألوهية في الأرض مثل إفراده بالألوهية في السماء؛ وتقرير ربوبيته وحده للناس: أي حاكميته وشرعه وسلطانه وأمره. وكان مفرق الطريق دائما بين من هم في دين" الله "ومن هم في" دين الملك "أن الأولين يدينون لنظام الله وشرعه وحده، وأن الآخرين يدينون لنظام الملك وشرعه. أو يشركون فيدينون لله في الاعتقاد والشعائر، ويدينون لغير الله في النظام والشرائع!
وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة، ومن بديهيات العقيدة الإسلامية تماما.
وبعض المترفقين بالناس اليوم يتلمسون لهم عذرا في أنهم يجهلون مدلول كلمة" دين الله "وهم من ثم لا يصرون ولا يحاولون تحكيم شريعة الله وحدها بوصفها هي" الدين". وأن جهلهم هذا بمدلول الدين يعفيهم من أن يكونوا جاهليين مشركين!
وأنا لا أتصور كيف أن جهل الناس ابتداء بحقيقة هذا الدين يجعلهم في دائرة هذا الدين!
إن الاعتقاد بحقيقة فرع عن معرفتها. فإذا جهل الناس حقيقة عقيدة فكيف يكونون معتنقين لها؟ وكيف يحسبون من أهلها وهم لا يعرفون ابتداء مدلولها؟
إن هذا الجهل قد يعفيهم من حساب الآخرة، أو يخفف عنهم العذاب فيها؛ ويلقي بتبعاتهم وأوزارهم على كاهل من لا يعلمونهم حقيقة هذا الدين وهم يعرفونها.. ولكن هذه مسألة غيبية متروك أمرها لله، والجدل في الجزاء الأخروي لأهل الجاهلية عامة ليس وراءه كبير طائل. وليس هو الذي يعنينا نحن البشر الذين ندعو إلى الإسلام في الأرض!
إن الذي يعنينا هو تقرير حقيقة الدين الذي فيه الناس اليوم.. إنه ليس دين الله قطعا. فدين الله هو نظامه وشرعه وفق النصوص القرآنية الصريحة. فمن كان في نظام الله وشرعه فهو في "دين الله". ومن كان في نظام الملك وشرعه فهو في" دين الملك". ولا جدال في هذا.
والذين يجهلون مدلول الدين لا يمكن أن يكونوا معتقدين بهذا الدين. لأن الجهل هنا وارد على أصل حقيقة الدين الأساسية. والجاهل بحقيقة هذا الدين الأساسية لا يمكن عقلا وواقعا أن يكون معتقدا به. إذ الاعتقاد فرع عن الإدراك والمعرفة.. وهذه بديهية..
وخير لنا من أن ندافع عن الناس -وهم في غير دين الله- ونتلمس لهم المعاذير، ونحاول أن نكون أرحم بهم من الله الذي يقرر مدلول دينه وحدوده!..
خير لنا من هذا كله أن نشرع في تعريف الناس حقيقة مدلول "دين الله" ليدخلوا فيه.. أو يرفضوه..
هذا خير لنا وللناس أيضا.. خير لنا لأنه يعفينا من تبعة ضلال هؤلاء الجاهلين بهذا الدين، الذين ينشأ عن جهلهم به عدم اعتناقه في الحقيقة.. وخير للناس لأن مواجهتهم بحقيقة ما هم عليه -وأنهم في دين الملكلا في دين الله- قد تهزهم هزة تخرجهم من الجاهلية إلى الإسلام، ومن دين الملك إلى دين الله!
كذلك فعل الرسل -عليهم صلوات الله وسلامه- وكذلك ينبغي أن يفعل الدعاة إلى الله في مواجهة الجاهلية في كل زمان ومكان..