البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَبَدَأَ بِأَوۡعِيَتِهِمۡ قَبۡلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسۡتَخۡرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِۚ كَذَٰلِكَ كِدۡنَا لِيُوسُفَۖ مَا كَانَ لِيَأۡخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلۡمَلِكِ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ} (76)

الوعاء : الظرف الذي يحفظ فيه الشيء ، وتضم واوه ، ويجوز أن تبدل واوه همزة .

{ فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعآء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم .

قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكاناً والله أعلم بما تصفون } قيل : قال لهم من وكل بهم : لا بد من تفتيش أوعيتكم ، فانصرف بهم إلى يوسف ، فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء بنيامين لنفي التهمة ، وتمكين الحيلة ، وإبقاء ظهورها حتى بلغ وعاءه ، فقال : ما أظن هذا أخذ شيئاً فقالوا : والله ما تتركه حتى تنظر في رحله ، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا ، فاستخرجوه منه .

وقرأ الحسن من وعاء بضم الواو ، وجاء كذلك عن نافع .

وقرأ ابن جبير : من إعاء بإبدال الواو المكسورة همزة كما قالوا : إشاح وإسادة في وشاح ووسادة ، وذلك مطرد في لغة هذيل ، يبدلون من الواو المكسورة الواقعة أولاً همزة ، وأنث في قوله ثم استخرجها على معنى السقاية ، أو لكون الصواغ يذكر ويؤنث .

وقال أبو عبيد : يؤنث الصواع من حيث سمى سقاية ، ويذكر من حيث هو صاع ، وكان أبا عبيد لم يحفظ تأنيث الصواع .

وقيل : الضمير في قوله : ثم استخرجها عائد على السرقة ، كذلك أي مثل ذلك الكيد العظيم كدنا ليوسف يعني : علمناه إياه ، وأوحينا به إليه .

وقال الضحاك ، والسدي : كدنا صنعنا .

قال ابن عطية : وأضاف الله تعالى الكيد إلى ضميره ، لما أخرج القدر الذي أباح ليوسف أخذ أخيه مخرج ما هو في اعتياد الناس كيد .

وفسر ابن عباس في دين الملك بسلطانه ، وفسره قتادة بالقضاء والحكم انتهى .

وقال الزمخشري : ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك تفسير للكيد وبيان له ، لأنه كان في دين ملك مصر ، وما كان يحكم به في السارق أن يغرم مثلي ما أخذ إلا أن يلزم ويستعبد ، إلا أن يشاء الله ، إلا بمشيئته وإذنه .

وقال ابن عطية : والاستثناء حكاية حال التقدير : إلا أن يشاء الله ما وقع من هذه الحيلة انتهى .

والذي يظهر أنه استثناء منقطع أي : لكن بمشيئة الله أخذه في دين غير الملك ، وهو دين آل يعقوب : أنّ الاسترقاق جزاء السارق .

وقرأ الكوفيون ، وابن محيصن : نرفع بنون درجات منوناً من نشاء بالنون ، وباقي السبعة كذلك ، إلا أنهم أضافوا درجات .

وقرأ يعقوب بالياء في يرفع ، ويشاء أي : يرفع الله درجات من يشاء رفع درجاته .

وقرأ عيسى البصرة : نرفع بالنون درجات منوناً من يشاء بالياء .

قال صاحب اللوامح : وهذه قراءة مرغوب عنها تلاوة وجملة ، وإن لم يمكن إنكارها .

وقال ابن عطية : وقرأ الجمهور نرفع على ضمير المعظم وكذلك نشاء .

وقرأ الحسن وعيسى ويعقوب : بالياء أي : الله تعالى انتهى .

ومعناه في العلم كما رفعنا درجة يوسف فيه .

وعليم صفة مبالغة .

وقوله : ذي علم أي : عالم .

فالمعنى أن فوقه أرفع منه درجة في علمه ، وهذا معنى قول الحسن وقتادة وابن عباس .

وعن أن العليم هو الله عز وجل .

قيل : روى عنه أنه حدث بحديث عجيب ، فتعجب منه رجل ممن حضر فقال : الحمد لله ، وفوق كل ذي علم عليم ، فقال له ابن عباس : بئس ما قلت ، إنما العليم الله ، وهو فوق كل ذي علم .

وقرأ عبد الله : وفوق كل ذي عالم ، فخرجت على زيادة ذي ، أو على أن قوله عالم مصدر بمعنى علم كالباطل ، أو على أن التقدير : وفوق كل ذي شخص عالم .

روي أن أخوة يوسف عليه السلام لما رأوا إخراج الصواع من رحل أخيهم بنيامين قالوا : يا بنيامين ابن راحيل قبحك الله ، ولدت أمك أخوين لصين ، كيف سرقت هذه السقاية ؟ فرفع يديه إلى السماء وقال : والله ما فعلت ، فقالوا : فمن وضعها في رحلك ؟ قال : الذي وضع البضاعة في رحالكم .

وقال الزمخشري ما معناه : رموا بالسرقة تورية عما جرى مجرى السرقة من فعلهم بيوسف .

وإن كنتم كاذبين ، فرض لانتفاء براءتهم ، وفرض التكذيب لا يكون تكذيباً على أنه لو صرح به كما صرح بالتسريق لكان له وجه ، لأنهم قالوا : { وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب } والكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية كقوله : وخذ بيدك ضغثاً فيتخلص من جلدها ولا يحنث .

وقول ابراهيم عليه السلام : هي أختي لتسلم من يد الكافر .

وعلم الله في هذه الحيلة التي لقنها ليوسف مصالح عظيمة ، فجعلها سلماً وذريعة إليها ، فكانت حسنة جميلة انتهى .