{ فبدأ } أي فتسبب عن ذلك أنه بدأ المؤذن أو غيره ممن أمر بذلك { بأوعيتهم } .
ولما لم يكن - بين فتح أوعيتهم وفتح وعاء أخيه - فاصل يعد فاصلاً ، فكانت بداءته بأوعيتهم مستغرقة لما بينهما من الزمان ، لم يأت بجار ، فقال { قبل وعاء أخيه } أي أخي يوسف عليه الصلاة والسلام شقيقه ، إبعاداً عن التهمة { ثم } أي بعد تفتيش أوعيتهم والتأني في ذلك{[42275]} { استخرجها } أي أوجد إخراج السقاية{[42276]} التي تقدم أنه{[42277]} جعلها في وعاء أخيه { من وعاء أخيه } .
ولما كان هذا كيداً عظيماً في أخذ أخيه بحكمهم ، مع ما توثق منهم أبوهم ، عظمه تعالى بالإشارة إليه بأداة البعد والإسناد إليه فقال{[42278]} : { كذلك } أي مثل هذا الكيد العظيم { كدنا ليوسف } خاصة بأن علمناه إياه جزاء لهم على كيدهم بيوسف عليه الصلاة والسلام ، {[42279]} ولذلك صنعنا جميع الصنائع التي أعلت يوسف عليه الصلاة والسلام{[42280]} وألجأت إخوته الذين كادوه بما ظنوا أنه أبطل أمره إلى المجيء إليه إلى أن كان آخرها حكمهم على أنفسهم بما حكموا ، ثم علل ذلك بقوله : { ما كان } أو{[42281]} هو استئناف{[42282]} تفسير للكيد ، وأكد{[42283]} النفي باللام فقال : { ليأخذ أخاه } .
ولما كان الأخذ على جهات مختلفة ، قيده بقوله : { في دين الملك } يعني ملك مصر ، على حالة من الحالات ، لأن جزاء السارق عندهم غير هذا { إلا أن يشاء الله } أي الذي له الأمر كله ، ذلك بسبب يقيمه كهذا{[42284]} السبب الذي هو حكم السارق وأهله على أنفسهم ، فلا يكون حينئذ من الملك إلا تخليتهم{[42285]} وما حكموا به على نفوسهم .
ومادة " سرق " بتراكيبها الأربعة{[42286]} : سرق ، وسقر ، وقسر ، وقرس - تدور على الغلبة المحرقة والموجعة ، وتارة تكون بحر ، وتارة ببرد ، وتارة بغير ذلك ، وتلازمها القوة والضعف{[42287]} والكثرة والقلة والمخادعة ، فيأتي الخفاء{[42288]} والليل ، فمن مطلق الغلبة : القسر ، وهو الغلبة والقهر ، وقال ابن دريد : القسر{[42289]} : الأخذ بالغلبة والاضطهاد ، والقسورة{[42290]} : الأسد ، والعزيز{[42291]} كالقسور ، والرماة{[42292]} من الصيادين ، واحده قسور ، ونبات سهلي - كأنه يكثر فيه الصيد ، فتنتابه القساورة ، وقسور النبت{[42293]} : كثر ، و{[42294]} ركز الناس ، أي صوتهم الخفي{[42295]} وحسهم - لأن الصيادين يتخافتون ؛ والسقر لغة في الصقر - لطير{[42296]} يصيد ؛ وقسر : جبل السراة - كأنه موضع الصيد والقسر والغلبة ، والقيسري : الكثير{[42297]} - لأنه ملزوم للغلبة ، وضرب من الجعلان - كأنه سمي لمطلق الكثرة ولأذاه بما يعانيه من النجاسات ، والقيسري{[42298]} - أيضاً من الإبل : العظيم أو الصلب أو الضخم الشديد : وجمل قراسية - بالضم وتخفيف الياء : ضخم{[42299]} ، والقرس - بالكسر : صغار البعوض ؛ والقسورة أيضاً من الغلمان : الشاب القوي ، والرامي{[42300]} - لأنه أهل لأن يغلب ، والقسور أيضاً : الصياد مطلقاً ؛ ويلزمه المخادعة والاستخفاء ، ومنه القسورة : نصف الليل أو أوله أو معظمه - لأنه{[42301]} محل الاستخفاء والمقاهرة ؛ ومنه السرق ، وهو الأخذ في خفية ، وعبارة القزاز : في ختل{[42302]} وغفلة ، وسرق - كفرح : خفي ، والسوارق{[42303]} : الزوائد في فراش القفل{[42304]} - لغرابتها وخفاء أمرها ، أو لسلبها السرقة بمنعها{[42305]} السارق من فتح القفل ، والمسترق : المستمع مختفياً ، وانسرق عنهم : خنس ليذهب ، ويلزم المخادعة والاختفاء نوع ضعف ، ومنه : سرقت مفاصله - كفرح : ضعفت ، والمسترق : الناقص الضعيف الخلق ؛ وانسرق : فتر وضعف - إما منه وإما من السلب{[42306]} ، لأن من فتر أو ضعف يكف{[42307]} عن السرقة والأذى ؛ وقسور{[42308]} الرجل : أسن ، وكان منه القارس والقريس أي القديم{[42309]} ، ومسترق العنق : قصيرها - كأنه سرق منها شيء ، وهو يسارق النظر إليه ، أي يطلب غفلته لينظر إليه ، وتسرق : سرق{[42310]} شيئاً فشيئاً ، وسُرَّق - كسكر - كان{[42311]} اسمه الحباب فابتاع من بدوي{[42312]} راحلتين ، ثم أجلسه على باب دار ليخرج إليه بثمنهما{[42313]} فخرج من الباب الآخر فهرب بهما ، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم سرقاً{[42314]} ، وكان لا يحب أن يسمى بغيره ، والسرق - محركاً : أجود الحرير أو الحرير{[42315]} الأبيض ، أو الحرير عامة ، فارسي معرب أصله سره{[42316]} ، قال القزاز : ومعناه : جيد ، لأنه أهل لأن يقصد بالسرقة لخفة محمله وكثرة تمنه ، والسرقين معرب سركين{[42317]} يمكن أن يكون من الضعف ، ولعل المعرب يكون خارجاً عن أصل المادة ، لأنه لا{[42318]} أصل له في العربية ؛ ومن الأذى بالحر السفر : حر الشمس وأذاه{[42319]} ، يقال : سقرته الشمس - بالسين والصاد - إذا آلمت دماغه ، ومنه اشتقاق سقر ، وهو اسم إحدى طبقات النار{[42320]} ، والسقر : القيادة على{[42321]} الحرم ، والسقر : ما يسيل من الرطب - من التسمية باسم{[42322]} السبب ، لأن الحر سببه ، والقوسرة : القوصرة - ويخففان - لأنه يوضع فيه التمر الذي قد{[42323]} يكون منه السقر{[42324]} ، والساقر{[42325]} : الكافر واللعان{[42326]} لغير المستحقين - لكثرة الأذى ، {[42327]} أو لاستحقاق الكون في سقر{[42328]} ، والساقور{[42329]} : الحر والحديدة يكوى{[42330]} بها الحمار ؛ ومن الأذى بالبرد : القرس - وهو البرد الشديد والبارد ، والقرس - ويحرك : أبرد الصقيع وأكثفه ، والقرس - بالتحريك : الجامد ، وأقرس العود جمد ماءه ، ومنه القريس - لسمك طبخ وترك حتى جمد ، وقرس الماء : جمد ، والبرد : اشتد كقرس{[42331]} كفرح ، وآل قراس ويقال : بنات{[42332]} قراس - كسحاب : أجبل باردة أو هضاب بناحية السراة ، وقرسنا الماء : بردناه .
إذا تقرر ذلك فتصحيح قول المؤذن " إنكم لسارقون " إن نظر إلى الغلبة في خفاء فلا شك أنهم متصفون بذلك لأخذهم{[42333]} يوسف من أبيه عليهما السلام على هذه الحالة ، وإن نظر إلى مطلق الأخذ{[42334]} في خفاء{[42335]} فيكون إطلاق{[42336]} ذلك عليهم مجازاً ، لأن معهم - في حال ندائه لهم وهم سائرون - شيئاً ليس هو لهم هم ذاهبون به في خفاء ، أي أنتم في هذه الحالة فاعلون فعل السارق ، ويقوي إرادة الأول قوله تعالى { لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } وقوله تعالى : { من وجدنا متاعنا عنده } كما سيأتي{[42337]} .
ولما كان يوسف عليه الصلاة والسلام إنما تمكن{[42338]} من ذلك بعلو درجته وتمكنه ورفعته ، بعد ما كان فيه عندهم من الصغار ، كان ذلك محل عجب ، فقال تعالى - التفاتاً إلى مقام التكلم تقوية{[42339]} للكلام بمقام الغيبة والتكلم ، وزاده إشعاراً بعظمة ، هذا الفعل بصوغه في مظهر العظمة منبهاً لمن قد يغفل : { نرفع } أي بما لنا من العظمة ، وكان الأصل : درجاته ، ولكنه عمم لأنه أدل على العظمة ، فكان أليق بمظهرها ، فقال منبهاً على أنه كان حصل ليوسف عليه الصلاة والسلام من الهضم ما ظن كما{[42340]} ظن أنه لا يرتفع بعده : { درجات من نشاء } أي بالعلم .
ولما كان سبب{[42341]} الرفعة هو الأعلمية بالأسباب ، وذلك أن{[42342]} الخلق لو اجتهدوا في خفض أحد فنصبوا{[42343]} له كل سبب علموه وقدروا عليه ، وأراد{[42344]} الله ضد ذلك ، لقيّض{[42345]} بعلمه سبباً واحداً إن شاء فأبطل جميع تلك الأسباب وقضى برفعته ، نبه تعالى على ذلك بقوله : { وفوق كل ذي علم } أي من الخلق { عليم } عظيم العلم ، لا تكتنه عظمة علمه العقول ، ولا تتخيلها الفهوم{[42346]} ، فهو يسبب{[42347]} من الأسباب ما تطيح له أسباب العلماء وتحير له ألباب العقلاء البصراء ، وهو الله تعالى - كما نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وسعيد بن جبير{[42348]} ، فالتنوين للتعظيم .