فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَبَدَأَ بِأَوۡعِيَتِهِمۡ قَبۡلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسۡتَخۡرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِۚ كَذَٰلِكَ كِدۡنَا لِيُوسُفَۖ مَا كَانَ لِيَأۡخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلۡمَلِكِ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ} (76)

ثم لما ذكروا جزاء السارق أرادوا أن يفتشوا أمتعتهم حتى يتبين الأمر فأقبل يوسف عليه السلام على ذلك { فبدأ بأوعيتهم } يعني بتفتيش أوعية إخوته العشرة وقيل إن المنادي وأصحابه هم الذين تولوا تفتيشهم وهم الذين استخرجوا الصواع من رحل بنيامين { قبل } تفتيش { وعاء أخيه } بنيامين دفعا للتهمة ورفعا لما دبره من الحيلة .

{ ثم استخرجها } أي السقاية أو الصواع لأنه يذكر ويؤنث { من وعاء أخيه } فنكس إخوة يوسف عليه السلام رؤوسهم من الحياء ولاموا بنيامين فأخذوه وردوه إلى يوسف عليه السلام .

{ كذلك } أي مثل ذلك الكيد العجيب { كدنا } أي دبرنا قاله القتيبي أو أردنا قاله ابن الأنباري { ليوسف } يعني علمنا إياه وأوحينا إليه واللام زائدة وإليه نحا السيوطي .

وفي أبي السعود : ما يقتضي ان اللام للتعليل أي صنعنا له ودبرنا لأجله تحصيل غرضه من المقدمات التي رتبها من دس الصواع وما يتلوه والكيد مبدؤه السعي في الحيلة والخديعة ونهايته إلقاء المخدوع من حيث لا يشعر في أمر مكروه لا سبيل إلى دفعه وهو محمول في حق الله سبحانه على النهاية لا على البداية .

وقال ابن الأعرابي : الكيد التدبير بالباطل وبالحق ، وقيل الكيد جزاء الكيد يعني كما فعلوا بيوسف عليه السلام في الابتداء فعلنا بهم وقيل غير ذلك والأول أولى وفي الآية دليل على جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما صورته صورة الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف ذلك شرعا ثابتا .

{ ما كان } يوسف عليه السلام { ليأخذ أخاه } بنيامين { في دين الملك } أي ملك مصر وفي شريعته التي كان عليها بل كان دينه وقضاؤه أن يضرب السارق ويغرم ضعف ما سرقه دون الاستعباد سنة كما هو دين يعقوب وشريعته ، وحاصله أن يوسف ما كان يتمكن من إجراء حكم يعقوب على أخيه مع كونه مخالفا لدين الملك وشريعته لولا ما كاد الله ودبره وأراده حتى وجد السبيل إليه وهو ما أجراه على ألسن إخوته من قولهم إن جزاء السارق الاسترقاق فكان قولهم هذا هو بمشيئة الله وتدبيره .

وهذه الجملة تعليل لما صنعه الله من الكيد ليوسف عليه السلام أو تفسير له يعني أن ذلك الأمر كله كان إلهاما من أمر الله ليوسف عليه السلام وإخوته حتى جرى الأمر على وفق المراد وهو بمعنى قوله { إلا أن يشاء الله } أي إلا حال مشيئته وأذنه بذلك وإرادته له والاستثناء منقطع إذ الأخذ بدين الملك لا يشمل المراد به ، فالمعنى ولكن أخذه بشريعة يعقوب .

{ نرفع درجات من نشاء } بضروب العلوم والمعارف والعطايا والكرامات كما رفعنا درجة يوسف عليه السلام بذلك ، والآية على أن العلم أشرف المقامات وأعلى الدرجات لأن الله تعالى مدح يوسف عليه السلام ورفع درجته على إخوته بالعلم ، وقرئ درجات بالإضافة والتنوين وهما سبعيتان .

{ وفوق كل ذي علم } ممن رفعه الله بالعلم من المخلوقين { عليم } أرفع رتبة منه وأعلى درجة لا يبلغون مداه ولا يرتقون شأوه وقيل معنى ذلك أن فوق كل أهل العلم عليم إلى أن ينتهي العلم إلى الله وهو سبحانه فوق كل عالم .

عن سعيد ابن جبير قال : كنا عند ابن عباس فحدث بحديث ، فقال رجل عنده وفوق كل ذي علم عليم فقال ابن عباس : بئس ما قلت الله العليم الخبير وهو فوق كل عالم .

وعن محمد ابن كعب : سأل رجل عليا كرم الله وجهه عن مسألة فقال فيها فقال الرجل : ليس هكذا ولكن كذا وكذا فقال علي : أصبت وأخطأت وفوق كل ذي علم عليم .

وعن عكرمة قال : علم الله فوق كل عالم قال ابن الأنباري : يجب أن يتهم العالم نفسه ويستشعر التواضع لمواهب ربه ولا يطمع نفسه بالغلبة لأنه لا يخلو عالم عن عالم فوقه ، وفي الآية دليل على أن إخوة يوسف عليه السلام كانوا علماء . وكان يوسف عليه السلام أعلم منهم .