الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{فَبَدَأَ بِأَوۡعِيَتِهِمۡ قَبۡلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسۡتَخۡرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِۚ كَذَٰلِكَ كِدۡنَا لِيُوسُفَۖ مَا كَانَ لِيَأۡخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلۡمَلِكِ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ} (76)

{ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ } لإزالة التهمة { قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ } وكان فتّش أمتعتهم واحداً واحداً ، قال قتادة : ذكر لنا أنّه كان لا يفتح متاعاً ولا ينظر في وعاء إلاّ استغفر الله تأثّماً ممّا قذفهم به ، حتى إذا لم يبق إلاّ الغلام ، قال : ما أظنّ هذا أخذ شيئاً ، فقال أخوته : والله لا نتحرّك حتى تنظر في رحله ، فإنّه أطيب من نفسك وأنفسنا ، فلمّا فتحوا متاعه استخرجوه منه فذلك قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ } وإنّما أتت الكناية في قوله استخرجها والصواع مذكر ، وقد قال الله تعالى : { وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ } لأنّ ردّه إلى السقاية كقوله :

{ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ } [ المؤمنون : 11 ] ، ثمّ قال :

{ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 11 ] ردّها إلى الجنّة وقوله :

{ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ } [ النساء : 8 ] ، ثمّ قال :

{ فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ } [ النساء : 8 ] ، أي من الميراث .

وقيل : ردّ الكناية إلى السرقة .

وقيل : إنّما أنّثها لأنّ الصواع يُذكر ويُؤنّث فمن أنّثه قال : ثلاث أصوع مثل أدود ومن ذكّره قال : ثلاثة أصواع مثل ثلاثة أثواب .

{ كَذلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } يعني كما فعلوا في الابتداء بيوسف فعلنا بهم لأنّ الله تعالى حكى عن يعقوب أنّه قال ليوسف { فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً } فالكيد جزاء الكيد ، قال ابن عباس : كذلك كِدنا أي صنعنا ، ربيع : ألهمنا ، ابن الأنباري : أردنا .

ومعنى الآية : كذلك صنعنا ليوسف حتى ضمّ أخاه إلى نفسه وفصل بينه وبين إخوته بعلّة كادها الله له فاعتلّ بها يوسف ، { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ } إليه ويضمّه إلى نفسه { فِي دِينِ الْمَلِكِ } في حكمه وقضائه ، قاله قتادة .

وقال ابن عباس : في سلطان الملك ، وأصل الدين : الطاعة ، وكان حكم الملك في السارق أن يسترقّ ويُغرّم ضعف ما سرق للمسروق منه ، وقال الضحّاك : كان الملك إذا أُتي بسارق كشف عن فرجتيه وسمل عينيه ، إلاّ أن يشاء الله ، يعني أنّ يوسف لم يكن ليتمكّن من أخذ أخيه بنيامين من أخوته وحبسه عنده في حكم الملك لولا ما كِدنا له بلطفنا حتى وجد السبيل إلى ذلك وهو ما أجراه على ألسنة إخوته أنّ جزاء السارق الاسترقاق فأقرّوا به وأبدوا من تسليم الأخ إليه ، وكان ذلك مُراد يوسف ( عليه السلام ) .

{ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ } بالحكم كما رفعنا يوسف على إخوته .

{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } قال ابن عباس : يكون هذا أعلم من هذا ، وهذا أعلم من هذا ، والله فوق كلّ عالم ، قال قتادة والحسن : والله ما من عالم على ظهر الأرض إلاّ فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى الله الذي علّمه ومنه بدأ وإليه يعود ، وفي قراءة عبدالله : وفوق كلّ عالم عليم .

وعن محمّد بن كعب القرضي أنّ علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه قضى بقضية فقال رجل من ناحية المسجد : يا أمير المؤمنين ليس القضاء كما قضيت ، قال فكيف هو ؟ قال : كذا وكذا قال : صدقت وأخطأت ، وفوق كلّ ذي علم عليم .

قالوا : فلمّا أخرج الصواع من رحل بنيامين نكَّس إخوته رؤوسهم من الحياء وأقبلوا على بنيامين وقالوا : يا بنيامين أي شيء الذي صنعت ، فضحتنا وسوّدت وجوهنا ، يا بني راحيل ما يزال لنا منكم بلاء ، متى أخذت الصواع ؟ .

فقال بنيامين : بل بنو راحيل الذين لا يزال لهم منكم بلاء ، ذهبتم بأخي فأهلكتموه بالبريّة ، وضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم .