معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَقَفَّيۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ بِٱلرُّسُلِۖ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ ٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ فَفَرِيقٗا كَذَّبۡتُمۡ وَفَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ} (87)

قوله تعالى : { ولقد آتينا } . أعطينا .

قوله تعالى : { موسى الكتاب } . التوراة ، جملة واحدة .

قوله تعالى : { وقفينا } . وأتبعنا .

قوله تعالى : { من بعده بالرسل } . رسولا بعد رسول .

قوله تعالى : { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } . الدلالات الواضحات وهي ما ذكر الله في سورة آل عمران والمائدة وقيل : أراد الإنجيل .

قوله تعالى : { وأيدناه } . وقويناه .

قوله تعالى : { بروح القدس } . قرأ ابن كثير القدس بسكون الدال والآخرون بضمها ، وهما لغتان مثل : الرعب والرعب ، واختلفوا في روح القدس ، قال الربيع وغيره : أراد الروح الذي نفخ فيه ، والقدس هو الله أضافه إلى نفسه تكريماً وتخصيصاً أي التي نفخ فيه نحو : بيت الله ، وناقة الله ، كما قال : ( فنفخنا فيه من روحنا ) وروح منه وقيل : أراد بالقدس الطهارة ، يعني الروح الطاهرة ، سمى روحه قدساً ، لأنه لم تتضمنه أصلاب الفحول ، ولم تشتمل عليه أرحام الطوامث ، إنما كان أمراً من أمر الله تعالى ، قال قتادة والسدي والضحاك : روح القدس جبريل عليه السلام وقيل : وصف جبريل بالقدس أي بالطهارة لأنه لم يقترف ذنباً ، وقال الحسن : القدس هو الله وروحه جبريل قال الله تعالى : { قل نزله روح القدس من ربك بالحق } وتأييد عيسى بجبريل عليهما السلام أنه أمر أن يسير معه حيث سار حتى صعد به الله إلى السماء . وقيل : سمي جبريل عليه السلام روحاً للطافته ولمكانته من الوحي الذي هو سبب حياة القلوب ، وقال ابن عباس ، وسعيد بن جبير : روح القدس هو اسم الله تعالى الأعظم به كان يحيي الموتى ويرى الناس به العجائب ، وقيل : هو الإنجيل جعل له روحا كما جعل القرآن روحا لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه سبب لحياة القلوب وقال الله تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ) فلما سمع اليهود ذكر عيسى عليه السلام قالوا : يا محمد لا مثل عيسى كما تزعم عملت ، ولا كما يقص علينا من الأنبياء فعلت ، فأتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقا .

قوله تعالى : { أفكلما جاءكم } . يا معشر اليهود .

قوله تعالى : { رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم } . تكبرتم وتعظمتم عن الإيمان .

قوله تعالى : { ففريقاً } . طائفة .

قوله تعالى : { كذبتم } . مثل عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم .

قوله تعالى : { وفريقا تقتلون } . أي قتلتم مثل زكريا ويحيى وشعيا وسائر من قتلوا من أنبياء عليهم السلام .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَقَفَّيۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ بِٱلرُّسُلِۖ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ ٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ فَفَرِيقٗا كَذَّبۡتُمۡ وَفَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ} (87)

{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ }

يمتن تعالى على بني إسرائيل أن أرسل لهم كليمه موسى ، وآتاه التوراة ، ثم تابع من بعده بالرسل الذين يحكمون بالتوراة ، إلى أن ختم أنبياءهم بعيسى ابن مريم عليه السلام ، وآتاه من الآيات البينات ما يؤمن على مثله البشر ، { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } أي : قواه الله بروح القدس .

قال أكثر المفسرين : إنه جبريل عليه السلام ، وقيل : إنه الإيمان الذي يؤيد الله به عباده .

ثم مع هذه النعم التي لا يقدر قدرها ، لما أتوكم { بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ } عن الإيمان بهم ، { فَفَرِيقًا } منهم { كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } فقدمتم الهوى على الهدى ، وآثرتم الدنيا على الآخرة ، وفيها من التوبيخ والتشديد ما لا يخفى .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَقَفَّيۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ بِٱلرُّسُلِۖ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ ٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ فَفَرِيقٗا كَذَّبۡتُمۡ وَفَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ} (87)

ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بلون آخر من ألوان جناياتهم ، فقال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب وَقَفَّيْنَا . . . }

في هاتين الآيتين تذكير لبني إسرائيل بضرب من النعم التي أمدهم الله بها ثم قابلوها بالكفر والإِجرام .

والمراد بالكتاب الذي أعطاه الله لموسى التوراة ، فقد أنزلها عليه لهدايتهم ولكنهم حرفوها وبدلوها وخالفوا أوارمه وأولوها تأويلا سقيما .

ومعنى { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل } أردفنا وأرسلنا من عبد موسى رسلا كثيرين متتابعين ، لإِرشاد بني إسرائيل ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور .

يقال : قفا أثره يقفوه قفواً وقفواً ، إذا تبعه . وقفى على أثره بفلان إذا أتبعه إياه . وقفيته زيداً به : أتبعته إياه . واشتقاقه من : قفوته إذا أتبعت قفاه ، والقفا مؤخر العنق ، ثم أطلق على كل تابع ولو بعد الزمن بينه وبين متبوعه .

والرسل : جمع رسول بمعنى مرسل ، وقد أرسل الله - تعالى - رسلا بعد موسى - عليه السلام - : منهم : داود ، وسليمان ، وإلياس ، واليسع ، ويونس ، وزكريا ، ويحيى - عليهم الصلاة والسلام - .

فمن مظاهر نعم الله على بني إسرائيل ، أنه لم يكتف بإنزال الكتب لهدايتهم ، وإنما أرسل فيهم بجانب ذلك رسلا متعددين ، لكي يبشروهم وينذروهم ، ولكن بني إسرائيل قابلوا نعم الله بالجحود والكفران ، فقد حرفوا كتب الله ، وقتلوا بعض أنبيائه .

والمراد بالبينات في قوله : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات } الحجج والبراهين والآيات الدالة على صدقه وصحة نبوته ، فتشمل كل معجزة أعطاها الله لعيسى كإبراء الأكمة والأبرص ، وإحاء الموتى ، والإِخبار ببعض المغيبات ، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها عيسى - عليه السلام - .

وخص القرآن عيسى بالذكر لكونه صاحب كتاب هو الإِنجيل ، ولأن شرعه نسخ أحكاما من شريعة موسى - عليه السلام - .

وفي إضافة عيسى إلى أمه إبطال لما يزعمه اليهود من أن له أباً من البشر .

وقوله : { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس } أي : قويناه مأخوذ من الأَيْدِ وهو القوة .

وروح القدس هو جبريل - عليه السلام - ، قال - تعالى - :

{ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس مِن رَّبِّكَ بالحق . . . } والإِضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة ، أي : الروح المقدس . ووصف بالقدس لطهارته وبركته . وسمى روحاً لمشابهته الروح الحقيقي في أن كلا منهما مادة لحياة البشر . فجبريل من حيث ما يحمل من الرسالة الإِلهية تحيا به القلوب . والروح تحيا به الأجسام .

أي : أننا أعطينا عيسى بن مريم الحجج الدالة على صدقه في نبوته وقويناه على ذلك كله بوحينا الذي أوحيناه إليه عن طريق جبريل - عليه السلام - .

ثم وبخ الله اليهود على أفعالهم القبيحة فقال : { أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُكُمْ استكبرتم فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } .

أي : أفكلما جاءكم يا بني إسرائيل رسول بما لا تحبه أنفسكم الشريرة استكبرتم عن اتباعه والإِيمان به وأقبلتم على هؤلاء الرسل ففريقاً منهم كذبتم ، وفريقاً آخر منهم تقتلونه غير مكتفين بالتكذيب :

وتهوى : من هوى إذا أحب " والهوى يكون في الحق ويكون في الباطل كما في هذه الآية .

واستكبرتم : تكبرتم ، والتكبر ينشأ عن الأعجاب بالنفس الذي هو أثر الجهل بها . وهو من الصفات التي متى تمكنت في النفس أوردتها المهالك ، وساقتها إلى سوء المصير .

وقدم تكذيبهم للرسل على قتلهم إياهم ، لأن التكذيب أول ما يصدر عنهم من الشر .

وعبر في جانب القتل بالفعل المضارع فقال : { تَقْتُلُونَ } ولم يقل قتلتم كما قال كذبتم ، لأن الفعل المضارع كما هو المألوف في أساليب البلاغة . يستعمل في الأفعال الماضية التي بلغت من الفظاعة مبلغاً عظيماً . ووجهه أن المتكلم يعمد بذلك الفعل القبيح كقتل الأنبياء ، ويعبر عنه بالفعل المضارع الذي يدل بحسب وضه على الفعل الواقع في الحال . فكأنه أحضر صورة قتل الأنبياء أمام السامع ، وجعله ينظر إليها بعينه ، فيكون إنكاره لها أبلغ ، واستفظاعه لها أعظم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَقَفَّيۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ بِٱلرُّسُلِۖ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ ٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ فَفَرِيقٗا كَذَّبۡتُمۡ وَفَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ} (87)

75

ثم يمضي السياق يواجه بني إسرائيل بمواقفهم تجاه النبوات وتجاه الأنبياء . . أنبيائهم هم ، وما كان من سوء صنيعهم معهم كلما جاءوهم بالحق ، الذي لا يخضع للأهواء . .

( ولقد آتينا موسى الكتاب ، وقفينا من بعده بالرسل ؛ وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس . أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ، ففريقا كذبتم ، وفريقا تقتلون ؟ ) . .

ولقد كانت حجة بني إسرائيل في إعراضهم عن الإسلام ، وإبائهم الدخول فيه ، أن عندهم الكفاية من تعاليم أنبيائهم ، وأنهم ماضون على شريعتهم ووصاياهم . . فهنا يفضحهم القرآن ويكشف عن حقيقة موقفهم من أنبيائهم وشرائعهم ووصاياهم . ويثبت أنهم هم هم كلما واجهوا الحق ، الذي لا يخضع لأهوائهم .

وفيما تقدم واجههم بالكثير من مواقفهم مع نبيهم موسى - عليه السلام - وقد آتاه الله الكتاب . ويزيد هنا أن رسلهم توالت تترى ، يقفو بعضهم بعضا ؛ وكان آخرهم عيسى بن مريم . وقد آتاه الله المعجزات البينات ، وأيده بروح القدس جبريل - عليه السلام - فكيف كان استقبالهم لذلك الحشد من الرسل ولآخرهم عيسى عليه السلام ؟ كان هذا الذي يستنكره عليهم ؛ والذي لا يملكون هم إنكاره ، وكتبهم ذاتها تقرره وتشهد به :

( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم : ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ! ) ! .

ومحاولة إخضاع الهداة والشرائع للهوى الطارىء والنزوة المتقلبة . ظاهرة تبدو كلما فسدت الفطرة ، وانطمست فيها عدالة المنطق الإنساني ذاته . المنطق الذي يقتضي أن ترجع الشريعة إلى مصدر ثابت - غير المصدر الإنساني المتقلب - مصدر لا يميل مع الهوى ، ولا تغلبه النزوة . وأن يرجع الناس إلى ذلك الميزان الثابت الذي لا يتأرجح مع الرضى والغضب ، والصحة والمرض ، والنزوة والهوى ، لا أن يخضعوا الميزان ذاته للنزوة والهوى !

ولقد قص الله على المسلمين من أنباء بني إسرائيل في هذا ما يحذرهم من الوقوع في مثله ، حتى لا تسلب منهم الخلافة في الأرض والأمانة التي ناطها بهم الله ، فلما وقعوا في مثل ما وقع فيه بنو إسرائيل ، وطرحوا منهج الله وشريعته ، وحكموا أهواءهم وشهواتهم ، وقتلوا فريقا من الهداة وكذبوا فريقا . ضربهم الله بما ضرب به بني إسرائيل من قبل ، من الفرقة والضعف ، والذلة والهوان ، والشقاء والتعاسة . . إلا أن يستجيبوا لله ورسله ، وإلا أن يخضعوا أهواءهم لشريعته وكتابه ، وإلا أن يفوا بعهد الله معهم ومع أسلافهم ، وإلا أن يأخذوه بقوة ، ويذكروا ما فيه لعلهم يهتدون .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَقَفَّيۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ بِٱلرُّسُلِۖ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ ٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ فَفَرِيقٗا كَذَّبۡتُمۡ وَفَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ} (87)

ينعت ، تبارك وتعالى ، بني إسرائيل بالعتو والعناد والمخالفة ، والاستكبار على الأنبياء ، وأنهم إنما يتبعون أهواءهم ، فذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب - وهو التوراة - فحرفوها وبدلوها ، وخالفوا أوامرها وأولوها . وأرسل الرسل والنبيين من بعده الذين يحكمون بشريعته ، كما قال تعالى : { إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ } الآية [ المائدة : 44 ] ، ولهذا قال : { وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ } قال السدي ، عن أبي مالك : أتبعنا . وقال غيره : أردفنا . والكل قريب ، كما قال تعالى : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا } [ المؤمنون : 44 ] حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم ، فجاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام ، ولهذا أعطاه الله من البينات ، وهي : المعجزات . قال ابن عباس : من إحياء الموتى ، وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرًا بإذن الله ، وإبرائه الأسقام ، وإخباره بالغيوب ، وتأييده بروح القدس ، وهو جبريل عليه السلام - ما يدلهم{[2124]} على صدقه فيما جاءهم به . فاشتد تكذيب بني إسرائيل له وحَسَدهم وعنادهم لمخالفة التوراة في البعض ، كما قال تعالى إخبارًا عن عيسى : { وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } الآية [ آل عمران : 50 ] . فكانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء عليهم السلام{[2125]} أسوأ المعاملة ، ففريقًا يكذبونه . وفريقًا يقتلونه ، وما ذاك إلا لأنهم كانوا يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم وبإلزامهم بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها ، فلهذا كان يشق ذلك عليهم ، فيكذبونهم ، وربما قتلوا بعضهم ؛ ولهذا قال تعالى : { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ }

والدليل على أن روح القدس هو جبريل ، كما نص عليه ابن مسعود في تفسير هذه الآية ، وتابعه على ذلك [ ابن عباس و ] {[2126]} محمد بن كعب القرظي ، وإسماعيل بن أبي خالد ، والسدي ، والربيع بن أنس ، وعطية العوفي ، وقتادة مع قوله تعالى : { نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ]{[2127]} } [ الشعراء : 193 - 195 ] ما قال البخاري : وقال ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن عروة ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع لحسان بن ثابت منْبرًا في المسجد ، فكان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك " {[2128]} . وهذا من البخاري تعليق{[2129]}

وقد رواه أبو داود في سننه ، عن لُوَين ، والترمذي ، عن علي بن حجر ، وإسماعيل بن موسى الفزاري ، ثلاثتهم عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه وهشام بن عروة ، كلاهما عن عروة ، عن عائشة به{[2130]} . وقال الترمذي : حسن صحيح ، وهو حديث أبي الزناد{[2131]} .

وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة : أن عمر مر بحسان ، وهو ينشد الشعر في المسجد{[2132]} فلحظ إليه ، فقال : قد كنت أنشد فيه ، وفيه من هو خير منك . ثم التفت إلى أبي هريرة ، فقال : أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أجب عني ، اللهم أيده بروح القدس " ؟ . فقال : اللَّهُمَّ نعم{[2133]} .

وفي بعض الروايات : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان : " أهجهم - أو : هاجهم - وجبريل معك " .

[ وفي شعر حسان قوله :

وجبريل رسول الله ينادي *** وروح القدس ليس به خفاء ]{[2134]}

وقال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي ، عن شهر بن حوشب الأشعري : أن نفرًا من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أخبرنا عن الروح . فقال : " أنشدكم بالله وبأيامه{[2135]} عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أنه جبريل ؟ وهو الذي يأتيني ؟ " قالوا : نعم{[2136]} .

[ وفي صحيح ابن حبان أظنه عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن روح القدس نفخ{[2137]} في روعي : إن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب " {[2138]} ]{[2139]} .

أقوال أخر :

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا منْجاب بن الحارث ، حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { بِرُوحِ الْقُدُسِ } قال : هو الاسم الأعظم الذي كان عيسى يُحيي به

الموتى . وقال ابن جرير : حُدثت عن المنجاب . فذكره . قال ابن أبي حاتم : وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك . [ ونقله القرطبي عن عبيد بن عمير - أيضا - قال : وهو الاسم الأعظم ]{[2140]} .

وقال ابن أبي نَجِيح : الروح هو حفظة على الملائكة .

وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس : القدس هو الرب تبارك وتعالى . وهو قول كعب . وقال السدي : القدس : البركة . وقال العوفي ، عن ابن عباس : القدس : الطهر .

[ وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن البصري أنهما قالا القدس : هو الله تعالى ، وروحه : جبريل ، فعلى هذا يكون القول الأول ]{[2141]} .

وقال ابن جرير : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب قال : قال ابن زيد{[2142]} في قوله تعالى : { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } قال : أيد الله عيسى بالإنجيل روحًا كما جعل القرآن روحًا ، كلاهما روح من الله ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] .

ثم قال ابن جرير : وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قولُ من قال : الروح في هذا الموضع جبريل ، لأن الله ، عز وجل ، أخبر أنه أيد عيسى به ، كما أخبر في قوله : { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ } الآية [ المائدة : 110 ] . فذكر أنه أيده به ، فلو كان الروح الذي أيده به هو الإنجيل ، لكان قوله :

{ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ } { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ } تكرير قول لا معنى له ، والله أعز أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به .

قلت : ومن الدليل على أنه جبريل ما تقدم في أول السياق ؛ ولله الحمد{[2143]} .

وقال الزمخشري { بِرُوحِ الْقُدُسِ } بالروح المقدسة ، كما يقول : حاتم الجود ورجل صدق ووصفها بالقدس كما قال : { وَرُوحٌ مِنْهُ } فوصفه بالاختصاص والتقريب تكرمة ، وقيل : لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث ، وقيل : بجبريل ، وقيل : بالإنجيل ، كما قال في القرآن : { رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] وقيل باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره ، وتضمن كلامه قولا آخر وهو أن المراد روح عيسى نفسه المقدسة المطهرة .

وقال الزمخشري في قوله : { فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } إنما لم يقل : وفريقًا قتلتم ؛ لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل - أيضًا - لأنهم حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسم والسحر ، وقد قال ، عليه السلام ، في مرض موته : " ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري " ، وهذا الحديث في صحيح البخاري وغيره{[2144]} .


[2124]:في جـ، ط، ب، أ، و: "يدلهم به".
[2125]:في جـ: "عليهم الصلاة والسلام".
[2126]:زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
[2127]:زيادة من جـ.
[2128]:في جـ، ط، ب، أ، و: "عن نبيه".
[2129]:وكذا عزاه المزي في تحفة الأشراف (12/10) للبخاري، وقال الحافظ ابن حجر في "النكت الظراف": "لم أر هذا الموضع في صحيح البخاري، وقد وصله أحمد والطبراني وصححه الحاكم".
[2130]:سنن أبي داود برقم (5015) وسنن الترمذي برقم (2846).
[2131]:في ط، ب، أ، و: "وهو حديث ابن أبي الزناد".
[2132]:في جـ: "وهو في المسجد ينشد".
[2133]:صحيح البخاري برقم (3212) وصحيح مسلم برقم (2485).
[2134]:زيادة من جـ، ط، ب، أ.
[2135]:في جـ، أ: "وبآياته".
[2136]:ورواه الطبري في تفسيره (2/320) من طريق سلمة عن ابن إسحاق به.
[2137]:في و: "نفث".
[2138]:ورواه البغوي في شرح السنة (14/304) من طريق أبي عبيد عن هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن زبيد اليامي، عمن أخبره، عن ابن مسعود به مرفوعًا.
[2139]:زيادة من جـ، ط، ب، و.
[2140]:زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
[2141]:زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
[2142]:في جـ: "قال ابن أبي زيد".
[2143]:في جـ، ط: "ولله الحمد والمنة".
[2144]:صحيح البخاري برقم (2617) وصحيح مسلم برقم (2190).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَقَفَّيۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ بِٱلرُّسُلِۖ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ ٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ فَفَرِيقٗا كَذَّبۡتُمۡ وَفَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ} (87)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ الْكِتَابَ وَقَفّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىَ أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } .

يعني بقوله جل ثناؤه : { آتَيْنَا مُوسَى الكِتابَ } : أنزلناه إليه . وقد بينا أن معنى الإيتاء : الإعطاء فيما مضى قبل ، والكتاب الذي آتاه الله موسى عليه السلام هو التوراة .

وأما قوله : { وَقَفّيْنا }فإنه يعني : وأرْدَفْنا وأتبعنا بعضهم خلف بعض ، كما يقفو الرجل الرجل إذا سار في أثره من ورائه . وأصله من القَفَا ، يقال منه : قفوت فلانا : إذا صرت خلف قفاه ، كما يقال دَبَرْته : إذا صرت في دبره . ويعني بقوله : { مِنْ بَعْدِهِ } : من بعد موسى . ويعني بالرّسُلِ الأنبياء ، وهم جمع رسول ، يقال : هو رسول وهم رسل ، كما يقال : هو صبور وهم قوم صُبُر ، وهو رجل شكور وهم قوم شُكُر .

وإنما يعني جل ثناؤه بقوله : { وَقَفّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بالرّسُلِ } أي : أتبعنا بعضهم بعضا على منهاج واحد وشريعة واحدة لأن كل من بعثه الله نبيّا بعد موسى صلى الله عليه وسلم إلى زمان عيسى ابن مريم ، فإنما بعثه يأمر بني إسرائيل بإقامة التوراة والعمل بما فيها والدعاء إلى ما فيها ، فلذلك قيل : وَقَفّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بالرّسُلِ يعني على منهاجه وشريعته ، والعمل بما كان يعمل به .

القول في تأويل قوله تعالى : { وآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيّنَاتِ } .

يعني بقوله : { وآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيّنَاتِ } أعطينا عيسى بن مريم . ويعني بالبينات التي آتاه الله إياها ما أظهر على يديه من الحجج والدلالة على نبوّته من إحياء الموتى وإبراء الأكْمةِ ونحو ذلك من الاَيات التي أبانت منزلته من الله ، ودلت على صدقه وصحة نبوّته . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، قال : حدثنا محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس : { وآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيّنَاتِ } أي الاَيات التي وضع على يديه من إحياء الموتى ، وخلقه من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله ، وإبراء الأسقام ، والخبر بكثير من الغيوب مما يدّخرون في بيوتهم ، وما ردّ عليهم من التوراة مع الإنجيل الذي أحدث الله إليه .

القول في تأويل قوله تعالى : { وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ } .

أما معنى قوله : { وأيّدْناهُ } فإنه قوّيناه فأعنّاه ، كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر ، عن الضحاك : { وأيّدْناهُ }يقول : نصرناه . يقال منه : أيدك الله : أي قوّاك ، وهو رجل ذو أيد وذو آدٍ ، يراد : ذو قوة . ومنه قول العجاج :

*** مِنْ أن تَبَدّلْتُ بِآدِي آدا ***

يعني بشبابي قوّة المشيب . ومنه قول الاَخر :

إنّ القِدَاحَ إذا اجْتَمَعْنَ فَرَامَهَا *** بالكَسْرِ ذُو جَلَدٍ وَبَطْشٍ أيّدِ

يعني بالأيّد القويّ . ثم اختلف في تأويل قوله : بِرُوحِ القُدُسِ .

فقال بعضهم : روح القدس الذي أخبر الله تعالى ذكره أنه أيد عيسى به هو جبريل عليه السلام . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ } قال : هو جبريل .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ } قال : هو جبريل عليه السلام .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ }قال : روح القدس : جبريل .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ } قال : أيد عيسى بجبريل وهو روح القدس .

وقال ابن حميد : حدثنا سلمة عن إسحاق ، قال : حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين المكي ، عن شهر بن حوشب الأشعري : أن نفرا من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أخبرنا عن الروح قال : «أَنْشُدُكُمْ بِاللّهِ وَبأيّامِهِ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هَلْ تَعْلَمُونَ أنّهُ جِبْرِيلُ ، وَهُوَ يأتيني ؟ » قالوا : نعم .

وقال آخرون : الروح الذي أيد الله به عيسى هو الإنجيل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ }قال : أيد الله عيسى بالإنجيل روحا كما جعل القرآن روحا كلاهما روح الله ، كما قال الله : { وَكَذَلِكَ أوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحا مِنْ أمْرِنَا } .

وقال آخرون : هو الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى . ذكر من قال ذلك :

حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ } قال : هو الاسم الذي كان يحيي عيسى به الموتى .

وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قول من قال : الروح في هذا الموضع جبريل لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه أيد عيسى به ، كما أخبر في قوله : { إذْ قَالَ اللّهُ يا عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إذْ أيّدْتُكَ بِرُوحِ القُدْسِ تُكَلّمُ النّاسَ فِي المَهْدِ وكَهْلاً ، وإذْ عَلّمْتُكَ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ } . فلو كان الروح الذي أيده الله به هو الإنجيل لكان قوله : «إذ أيدتك بروح القدس وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل » تكرير قول لا معنى له . وذلك أنه على تأويل قول من قال : معنى : إذْ أيّدْتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ إنما هو : إذْ أيدتك بالإنجيل ، وإذْ علمتك الإنجيل وهو لا يكون به مؤيدا إلا وهو معلمه . فذلك تكرير كلام واحد من غير زيادة معنى في أحدهما على الاَخر ، وذلك خُلْفٌ من الكلام ، والله تعالى ذكره يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة .

وإذا كان ذلك كذلك فبيّنٌ فساد قول من زعم أن الروح في هذا موضع الإنجيل ، وإن كان جميع كتب الله التي أوحاها إلى رسله روحا منه لأنها تحيا بها القلوب الميتة ، وتنتعش بها النفوس الموليّة ، وتهتدي بها الأحلام الضالة . وإنما سمى الله تعالى جبريل روحا وأضافه إلى القدس لأنه كان بتكوين الله له روحا من عنده من غير ولادة والد ولده ، فسماه بذلك روحا ، وأضافه إلى القدس والقدس : هو الطهر كما سمي عيسى ابن مريم روحا لله من أجل تكوينه له روحا من عنده من غير ولادة والد ولده . وقد بينا فيما مضى من كتابنا هذا أن معنى التقديس : التطهير ، والقدس : الطهر من ذلك .

وقد اختلف أهل التأويل في معناه في هذا الموضع نحو اختلافهم في الموضع الذي ذكرناه .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : القدس : البركة .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، قال : القدس : هو الربّ تعالى ذكره .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ } قال : الله القدس ، وأيّد عيسى بروحه . قال : نَعْتُ الله القدس . وقرأ قول الله جل ثناؤه : { هُوَ اللّهُ الّذِي لا إلَهَ إِلاّ هُوَ المَلِكُ القُدّوسُ } قال : القدس والقُدّوس واحد .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال بن أسامة ، عن عطاء بن يسار ، قال : قال : نَعْتُ الله : القدس .

القول في تأويل قوله تعالى : { أفَكُلّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَرَيِقا كَذّبْتُمْ وَفَرِيقا تَقْتُلُونَ } .

يعني جل ثناؤه بقوله : { أفَكُلّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوَى أنْفُسَكُمْ } اليهود من بني إسرائيل .

حدثني بذلك محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد .

قال أبو جعفر : يقول الله جل ثناؤه لهم : يا معشر يهود بني إسرائيل ، لقد آتينا موسى التوراة ، وتابعنا من بعده بالرسل إليكم ، وآتينا عيسى ابن مريم البينات والحجج إذ بعثناه إليكم ، وقوّيناه بروح القدس . وأنتم كلما جاءكم رسول من رسلي بغير الذي تهواه نفوسكم استكبرتم عليهم تجبرا وبغْيا استكبارَ إمامكم إبليس فكذبتم بعضا منهم ، وقتلتم بعضا ، فهذا فعلكم أبدا برسلي . وقوله : أفَكُلّما إن كان خرج مخرج التقرير في الخطاب فهو بمعنى الخبر .