غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَقَفَّيۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ بِٱلرُّسُلِۖ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ ٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ فَفَرِيقٗا كَذَّبۡتُمۡ وَفَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ} (87)

87

التفسير : لما ذكر سبحانه في آلاي المتقدمة صنيع اليهود في مخالفتهم أمره تعالى ومناقضة حالهم ، أكد ذلك في هذه الآي بذكر نعم أفاضها عليهم ثم إنهم قابلوها بالكفران ونقيض المقصود زيادة في تبكيتهم . أما الكتاب فهو التوراة آتاه الله تعالى إياه جملة واحدة . عن ابن عباس أنها لما نزلت أمر الله موسى بحملها فلم يطق ذلك ، فبعث الله لكل آية منها ملكاً فلم يطيقوا حملها ، فبعث الله لكل حرف منها ملكاً فلم يطيقوا حملها ، فخففها الله على موسى عليه السلام فحملها . القفو والتقفية الإتباع وهو من القفا كالتذنيب من الذنب أي أتبعنا على أثره رسلاً كثيرين وهم يوشع وأشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعيا وأرميا وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم . روي أن هؤلاء الرسل كانوا على شريعة واحدة إلى أيام عيسى عليه السلام فإنه جاء بشريعة مجددة ناسخة لأكثر شرع موسى ، وكان المقصود من بعثة هؤلاء تنفيذ الشريعة السالفة وإحياء بعض ما اندرس منها ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل " " إن الله سيبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة من يجدد لها دينها " فقيل عيسى بالسريانية أيشوع أي المبارك ، ومريم بمعنى الخادم . وقيل مريم بالعبرية من النساء كالزير من الرجال وهو الذي يحب محادثة النساء ومجالستهن ، سمي بذلك لكثرة زيارته لهن وبه فسر قول رؤبة :

قلت لزير لم تصله مريمه *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ووزن " مريم " عند أهل الصرف " مفعل " لأن فعيلاً بفتح الفاء لم يثبت في الأبنية كما ثبت نحو " عثير " للغبار " وعليب " اسم واد . البينات المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك ، أيدناه قويناه من الأيد القوة ، وبروح القدس الروح المقدس كما يقال حاتم الجود ورجل صدق أي بجبريل سمي بذلك لأنه سبب حياة الدين كما أن الروح سبب حياة البدن ، ولأنه الغالب عليه الروحانية ، ولأنه لم تضمه أصلاب الفحول ولا أرحام الأمهات ، وقيل بالإنجيل كما قال { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] لأن العلم سبب حياة القلوب ، وقيل : باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره ، عن ابن عباس وسعيد بن جبير . وقيل : الروح الذي نفخ فيه ، والقدس والقدوس هو الله ، وإضافة الروح إليه تشريف وتعظيم كما يقال " بيت الله " و " ناقة الله " . عن الربيع : وكون الروح ههنا جبريل أظهر لأن اختصاصه بعيسى أكثر لأنه الذي بشر مريم بولادتها وقد تولد عليه السلام من نفخة جبريل في أمه وهو الذي رباه في جميع الأحوال وكان يسير معه حيث سار وكان معه حين صعد إلى السماء .

قوله تعالى : { أفكلما } وسطت الهمزة بين الفاء وما تعلقت به من قوله : { ولقد آتينا } لإفادة التوبيخ والتعجيب من شأنهم ، ويجوز أن تكون الفاء للعطف على مقدر معناه أأعرضتم فكلما { جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم } الباء للتعدية أو بمعنى " مع " ، وذلك أنهم كانوا إذا أتاهم رسول بخلاف ما يهوون كذبوه وإن تهيأ لهم قتله قتلوه ترفعاً وترؤساً على عامتهم . وأخذ أموالهم بغير حق يوهمون عوامهم أنهم على الحق والنبي صلى الله عليه وسلم على الباطل ، ويحتجون على ذلك بالتحريف وسوء التأويل ، ومنهم من كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم عليه السلام { ففريقاً كذبتم } على التمام وما بقي منه غير مكذب { وفريقاً تقتلون } أي ما تيسر لكم قتله بعد على التمام لأنكم تحومون حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة . قال صلى الله عليه وسلم عند وفاته : " ما زالت أكلة خيبر تعادّني فهذا أوان قطعت أبهري " . والعداد اهتياج وجع اللديغ بعد كل سنة ، والأبهر عرق يخرج من القلب إذا انقطع مات صاحبه . ويجوز أن يراد الحال الماضية لأن الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب كقوله :

فأضر بها بلا دهش فخرت *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وفائدة تقديم المفعول به على الفعلين بعد رعاية الفاصلة في { يقتلون } بيان غاية عنادهم وفرط عتوهم حيث جعلوا الرسل فريقين : أحدهما مخصص بالتكذيب والآخر بالقتل ، كأن وصف الرسالة عندهم هو الذي اقتضى عندهم أحد هذين حتى خص المنعوت به دون سائر الناس بأحد الأمرين ، وهذا نهاية الجهالة حيث استقبلوا أشرف الأصناف لأكرم الأوصاف بغاية الاستخفاف .

/خ91