السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَقَفَّيۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ بِٱلرُّسُلِۖ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ ٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ فَفَرِيقٗا كَذَّبۡتُمۡ وَفَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ} (87)

{ ولقد آتينا } أي : أعطينا { موسى الكتاب } أي : التوراة جملة واحدة { وقفينا من بعده بالرسل } أي : أتبعناهم رسولاً في إثر رسول كقوله تعالى : { ثم أرسلنا رسلنا تترى } ( المؤمنون ، 44 ) يقال : قفاه إذا أتبعه إياه { وآتينا عيسى بن مريم البينات } أي : المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار بالمغيبات أو الإنجيل ، وعيسى بالعبرانية أيشوع ، ومريم بمعنى الخادم { وأيدناه } أي : قويناه { بروح القدس } قرأ ابن كثير بإسكان الدال حيث جاء ، والباقون بضمها ، وهذا من إضافة الموصوف إلى الصفة أي : الروح المقدسة وهو جبريل وصف به لطهارته وتأييده به أن أمر أن يسير معه حيث سار حتى يصعد به إلى السماء ، وقيل : روح عيسى عليه الصلاة والسلام ووصفها به لطهارته عن مس الشيطان أو لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث أي : الحيض ، وقيل : اسم الله الأعظم الذي كان يحيي به الموتى .

ولما سمعت اليهود ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام قالوا : يا محمد لا مثل عيسى كما تزعم عملت ولا كما تقص علينا من الأنبياء فعلت ، فأتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقاً فقال الله تعالى : { أفكلما جاءكم } يا معشر اليهود { رسول بما لا تهوى } أي : تحب { أنفسكم } من الحق ، وقوله تعالى : { استكبرتم } أي : تكبرتم عن اتباعه ، جواب كلما وهو محل الاستفهام والمراد به التوبيخ { ففريقاً } أي : طائفة { كذبتم } كموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، والفاء لسببية الاستكبار للتكذيب أو التفصيل { وفريقاً تقتلون } كزكريا ويحيى عليهما السلام .

فإن قيل : هلا قال : وفريقاً قتلتم ؟ أجيب : بأنه إنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استحضاراً لها في النفوس فإنّ الأمر فظيع ومراعاة للفواصل . قال الزمخشري : أو أن يراد وفريقاً تقتلونهم بعد أي : الآن ، لأنكم درتم حول قتل محمد لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة ، وقال صلى الله عليه وسلم عند موته : ( ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان قطعت أبهري ) .