إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَقَفَّيۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ بِٱلرُّسُلِۖ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ ٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ فَفَرِيقٗا كَذَّبۡتُمۡ وَفَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ} (87)

{ وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب } شروعٌ في بيانِ بعضٍ آخرَ من جناياتهم ، وتصديرُه بالجملة القَسَمية لإظهار كمالِ الاعتناءِ به ، والمرادُ بالكتاب التوراة ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن التوراة لما نزلت جُملةً واحدة أمر الله تعالى موسى عليه السلام بحملها فلم يُطق ذلك فبعث الله بكل حرفٍ منها مَلَكاً فلم يطيقوا حملَها فخففها الله تعالى لموسى فحملها { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل } يقال : قفّاه به إذا أتبعه إياه ، أي أرسلناهم على أَثَرِه كقوله تعالى : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى } [ المؤمنون ، الآية 44 ] وهم يوشَعُ وأشمَويلُ وشمعونُ وداودُ وسليمانُ وشَعْيا وأرميا وعُزيرٌ وحزْقيل وإلياسُ واليسعُ ويونسُ وزكريا ويحيى وغيرُهم عليهم الصلاة والسلام { وآتَيْنَا عيسى بن مَرْيَمَ البينات } المعجزاتِ الواضحاتِ من إحياء الموتى وإبراءِ الأكمَهِ والأبرصِ والإخبارِ بالمغيّبات ، أو الإنجيلَ وعيسى بالسريانية إيشوُعُ ومعناه المبارك ومريم بمعنى الخادم وهو بالعبرية من النساء كالزير من الرجال وبه فُسر قولُ رؤبة : [ الرجز ]

قلتُ لزيرٍ لم تصِلْه مَرْيمُه *** ضليلِ أهواءِ الصِّبا تندّمُهْ{[68]}

ووزنه مِفْعل إذ لم يثبت فعيل { وأيدناه } وقرئ وآيدناه { بِرُوحِ القدس } بضم الدال وقرئ بسكونها أي بالروح المقدسة ، وهي روحُ عيسى عليه السلام كقولك : حاتمُ الجود ورجلُ صدقٍ وإنما وُصِفت بالقدْس لكرامته ، أو لأنه عليه السلام لم تضُمَّه الأصلابُ ولا أرحامُ الطوامِث ، وقيل : بجبريلَ عليه السلام وقيل : بالإنجيل كما قيل : في القرآن ( رُوحاً من أمرنا ) وقيل : باسم الله الأعظم الذي يُحيي الموتى بذكره ، وتخصيصُه من بين الرسل عليهم السلام بالذكر ووصفُه بما ذكر من إيتاء البينات والتأييدِ بروح القدسِ لما أن بِعْثتَهم كانت لتنفيذ أحكامِ التوراة وتقريرِها ، وأما عيسى عليه السلام فقد نُسخ بشرعه كثيرٌ من أحكامها ولحسم مادةِ اعتقادِهم الباطلِ في حقه عليه السلام ببيان حقّيتِه وإظهارِ كمالِ قُبح ما فعلوا به عليه السلام { أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ } من أولئك الرسل { بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم } من الحق الذي لا محيدَ عنه أي لا تحبُّه ، من هِويَ كفرح إذا أحب ، والتعبيرُ عنه بذلك للإيذان بأن مدارَ الردِّ والقبولِ عندهم هو المخالفةُ لأهواء أنفسِهم والموافقةُ لها لا شيءٍ آخرَ ، وتوسيطُ الهمزة بين الفاء وما تعلّقت به من الأفعال السابقةِ لتوبيخهم على تعقيبهم ذلك بهذا ، أو للتعجب من شأنهم ، ويجوز كونُ الفاء للعطف على مقدر يناسب المقام ، أي ألم تطيعوهم فكلما جاءكم رسولٌ منهم بما لا تهوى أنفسكم { استكبرتم } عن الاتباع له والإيمانِ بما جاء به من عند الله تعالى { فَفَرِيقًا } منهم { كَذَّبْتُمْ } من غير أن تتعرضوا لهم بشيءٍ آخرَ من المضارِّ ، والفاءُ للسببية أو للتعقيب { وَفَرِيقًا } آخرَ منهم { تَقْتُلُونَ } غيرَ مكتفين بتكذيبهم كزكريا ويحيى عليهما السلام ، وتقديمُ ( فريقاً ) في الموضعين للاهتمام وتشويق السامعِ إلى ما فعلوا بهم لا للقصر ، وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ في القتل لاستحضار صورتِه الهائلةِ ، أو للإيماء إلى أنهم بعْدُ على تلك النية ، حيث همُّوا بما لم ينالوه من جهته عليه السلام وسحَروه وسمُّوا له الشاةَ حتى قال صلى الله عليه وسلم : " ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان قطعت أبهري " .


[68]:ورد في المعجم المفصل "يندمه" بدل "تندمه" وهو لرؤبة في ديوانه ص 149 وتاج العروس 11/468 (زور) (ضلل)؛ ولسان العرب 4/336 (زور).