فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَقَفَّيۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ بِٱلرُّسُلِۖ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ ٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ فَفَرِيقٗا كَذَّبۡتُمۡ وَفَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ} (87)

{ ولقد آتينا موسى الكتاب } أي أعطيناه التوراة جملة واحدة مفصلة محكمة ، شروع في بيان بعض آخر من جناياتهم وتصديره بالجملة القسمية ، لإظهار كمال الاعتناء به { وقفينا من بعده بالرسل } أي أتبعنا ، والتقفية الإتباع والإرداف وهو أن يقفوا إثر الآخر مأخوذ من القفا وهو مؤخر العنق ، والمراد أن الله سبحانه أرسل على إثره رسلا جعلهم تابعين له وكانت الرسل من بعد موسى إلى زمن عيسى متواترة يظهر بعضهم في إثر بعض والشريعة واحدة ، وهم أنبياء بني إسرائيل المبعوثون من بعده كالشموئيل بن بابل وإلياس ومنشائل واليسع ويونس وزكرياء ويحيى وشعياء وحزقيل وداوود وسليمان وأرمياء وهو الخضر وعيسى ابن مريم ، فهؤلاء الرسل بعثهم الله وانتخبهم من أمة موسى وأخذ عليهم ميثاقا غليظا أن يؤدوا إلى أمتهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم وصفة أمته ، وكانوا يحكمون بشريعة موسى إلى أن بعث الله عيسى ، فجاءهم بشريعة جديدة وغير بعض أحكام التوراة فذلك قوله :

{ وآتينا عيسى ابن مريم البينات } أي الدلالات الواضحات ، وهي الأدلة التي ذكرها الله في آل عمران والمائدة ، وهي الآيات التي وضع على يديه من أحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وخلقه من الطين كهيئة الطير وإبراء الأسقام والإخبار بكثير من الغيوب ، وما ورد عليه من التوراة والانجيل الذي أحدث الله إليه ، وقيل هي الإنجيل ، واسم عيسى بالسريانية ايشوع ، ومريم بالسريانية بمعنى الخادم ثم سمي به فلذلك لم ينصرف ، وفي لسان العرب هي المرأة التي تكره مخالطة الرجال ، قال أبو السعود وهو بالعبرية من النساء كالزير من الرجال ، ووزنه مفعل إذا لم يثبت فعيل ، ذكر السيوطي في التحبير أن مدة ما بين موسى وعيسى ألف وتسعمائة سنة وخمس وعشرون سنة .

{ وأيدناه بروح القدس } التأييد التقوية ، وروح القدس من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الروح المقدسة والقدس الطهارة والمقدس المطهر قيل هو جبريل ، قال ابن مسعود أيد الله به عيسى ، وسمي جبريل روحا وأضيف إلى القدس لأنه كان بتكوين الله له من غير ولادة ، وقيل القدس هو الله عز وجل وروحه جبريل وقيل المراد بروح القدس الاسم الذي كان يحيي به عيسى الموتى واسم الله الأعظم ، وقيل المراد به الإنجيل ، وقيل المراد به الروح المنفوخ فيه أيده الله به لما فيه من القوة وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اللهم أيد حسان بروح القدس " وكان جبريل يسير مع عيسى حيث سافر فلم يفارقه حتى صعد به إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة .

{ أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم } أي بما لا يوافقها ويلائمها ، وأصل الهوى الميل إلى الشيء ، قال الجوهري وسمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار ، وبخهم الله سبحانه بهذا الكلام المعنون بهمزة التوبيخ { استكبرتم } عن إجابته احتقارا للرسل واستعبادا للرسالة ، والسين زيادة للمبالغة { ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون } الفاء للتفصيل ومن الفرق المكذبين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، ومن الفرق المقتولين يحيى وزكريا عليهما الصلاة والسلام وسائر من قتلوه .