الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَقَفَّيۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ بِٱلرُّسُلِۖ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ ٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ فَفَرِيقٗا كَذَّبۡتُمۡ وَفَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ} (87)

قوله تعالى : { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ } . . التضعيفُ في " قَفَّيْنا " ليس للتعديةِ ، إذ لو كانَ كذلك لتعدَّى إلى اثنينِ لأنه قبلَ التضعيفِ يتعدَّى لواحدٍ ، نحو : قَفَوْت زيداً ، ولكنه ضُمِّن معنى " جِئْنا " كأنه قيل : وجئنا من بعده بالرسلِ . فإنْ قيل : يجوزُ أن يكونَ متعدِّياً لاثنين على معنى أنَّ الأولَ محذوفٌ والثاني " بالرسل " والباءُ فيه زائدةٌ تقريرُه : { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ } .

فالجوابُ أن كثرةَ مجيئِه في القرآن كذلك يُبْعِدُ هذا التقديرَ ، وسيأتي لذلك مزيدُ بيانٍ في المائدةِ إن شاء الله تعالى .

وقَفَّينا أصله : قَفَّوْنا ، ولكنْ لَمَّا وقعتِ الواوُ رابعةً قَلِبَتْ ياءً ، واشتقاقُه من قَفَوْتُه إذا اتَّبَعْتَ قَفاه ، ثم اتُّسع فيه ، فَاُطْلِقَ على كلِّ تابع ، وإن بَعُدَ زمانُ التابعِ من زمانِ المَتْبوع ، وقال أمية :

قالَتْ لأختٍ له قُصِّيه عن جُنُبٍ *** وكيفَ تَقْفُو ولا سَهْلٌ ولا جَبَلُ

والقَفا مُؤَخَّرُ العُنُق ، ويقال له : القافية أيضاً ، ومنه قافيةُ الشِّعْر ، لأنها تَتلُو بناءَ الكلام وآخرَه ، ومعنى قَفَّيْنا أي : أَتْبَعْنا كقولِه : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى } [ المؤمنون : 44 ] .

و{ مِن بَعْدِهِ } متعلِّقٌ به ، وكذلك " وهو جمعُ رسول بمعنى مُرْسَل ، وفُعُل غيرُ مَقيسٍ في فَعُول بمعنى مَفْعول ، وسكونُ العين لغةُ الحجازِ وبها قرأ يحيى والحسن ، والضمُّ لغةُ تميم ، وقد قرأَ السبعةُ بلغةِ تميم إلا أبا عمرو فيما أُضيف إلى " نا " أو " كم " أو " هم " فإنه قرأ بالسكونِ لتوالي الحركاتِ .

قوله : " عيسى " عَلَمٌ أعجمي فلذلك لم يَنْصَرِفْ ، وقد تكلَّم النحويون في وزنِه واشتقاقِه على تقدير كونِه عربيَّ الوضع ، فقال سيبويه : " وزنُه فِعْلى والياءُ فيه ملحقةٌ ببناتِ الأربعةِ كياءِ مِعْزَى " يَعْني بالياءِ الألفَ ، سَمَّاها ياء لكتابتِها بالياءِ . وقال الفارسي : " أَلفُه ليست للتأنيثِ كذِكْرى ، بدلالةِ صَرْفهم له في النكرةِ " . وقال عثمانُ بن سعيد الصَّيْرَفي : " وزنه فِعْلَل " فالألفُ عنده أصليةٌ بمعنى أنها منقلبةٌ عن أصل . ورَدَّ ذلك عليه ابنُ الباذِشِ بأنَّ الياءَ والواوَ لا يكونان أصلَيْن في بناتِ الأربعةِ ، فمَنْ قال إنَّ " عِيسى " مشتقٌّ من العَيْس وهو بياضٌ تخالطُه شُقْرةٌ كأبي البقاء وغيره ليس بمصيبٍ لأنَّ الأعجميَّ لا يَدْخُلُه اشتقاقٌُ ولا تصريفٌ . وقال الزمخشري : " وقيل : عيسى بالسُّريانية : أَيْسوع " .

قوله : " ابنَ مريم " عطفُ بيان أو بدلٌ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ صفةً إلا أنَّ الأولَ أَوْلَى لأنَّ " ابن مريم " جرى مَجْرَى العلم له . وللوصفِ بابن أحكامٌ تَخُصُّه سَتَأْتِي مبينةً إن شاء الله تعالى ، وتقدَّم اشتقاقُ " ابن " وأصلُه .

ومَرْيم أصلُه بالسريانية صفةٌ بمعنى الخادِم ثم سُمِّي به فلذلك لم ينصرِفْ ، وفي لسانِ العرب هي المرأةُ التي تُكْثِرُ مخالطَة الرجال كالزِّير من الرجال وهو الذي يُكْثِرُ مخالطَتَهُنَّ ، قال رؤبة :

قلتُ لِزِيرٍ لم تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وياءُ " { الزير " عن واو لأنه من زار يَزُور فَقُلِبَتِ للكسرة قبلَها كالرِّيح ، فصار لفظُ مريم مشتركاً بين اللسانينِ ، ووزنُه عند النحويين مَفْعَل لا فَعْيَل ، قال الزمخشري : " لأن فَعْيَلاً بفتح الفاء لم يَثْبُتْ في الأبينة كما ثَبَتَ في نحو : عِثْيَر وعِلْيَب " وقد أثبت بعضهم فَعْيَلاً وجَعَلَ منه نحو : " ضَمْيَد " اسمَ مكان و " مَدْيَن " على القولِ بأصالة ميمهِ و " ضَهْيَا " بالقصر وهي المرأةُ التي لا تَحِيضُ ، أو لا ثَدْيَ لها ، لأنها مشتقةٌ من ضاهَأَتْ أي شابَهَتْ ، لأنها شابَهَتِ الرجال في ذلك ، ويجوزُ مَدُّها قاله الزجاج . وقال ابن جني : " وأما ضَمْيدَ وعَثْيَر فمصنوعان " فلا دَلالة فيهما على ثبوت فَعْيَل ، وصحةُ الياءِ في مريم على خلافِ القياس ، إذ كان من حقِّها الإِعلالُ بنَقْلِ حركةِ الياء إلى الراءِ ثم قَلْبِ الياءِ ألفاً نحو : مَباع من البَيْع ، ولكنه شَذَّ مَزْيَد ومَدْيَن ، وقال أبو البقاء : " ومَرْيَم عَلَمٌ أعجمي ولو كان مشتقاً من رامَ يريم لكان مَرِيماً بسكونِ الياء ، وقد جاءَ في الأعلامِ بفتح الياء نحوَ مَزْيَد وهو على خلافِ القياس " .

قوله : { وَأَيَّدْنَاهُ } معطوفٌ على قوله : { وَآتَيْنَا عِيسَى } . وقرأ الجمهور/ أيَّدْناه على فَعَّلْناه ، وقرأ مجاهد وابن محيصن ويروي عن أبي عمرو " آيَدْنَاه " على : أَفْعَلْناه ، والأصلُ في أَاْيَدَ بهمزتين ، ثانيتُهما ساكنةٌ فوجَبَ إبدالُ الثانيةِ ألفاً نحو : أَأْمَنَ وبابِه ، وصححت العينُ وهي الياءُ كما صَحَّتْ في " أَغْيَلَت " و " أَغْيَمَت " ، وهو تصحيحٌ شاذٌّ إلا في فِعْل التعجب نحو : ما أَبْيَنَ وأَطْوَل . وحُكي عن أبي زيد أن تصحيحَ " أَغْيَلَت " مقيسٌ . فإنْ قيل : لِم لا أُعِلَّ آيَدْناه كما أُعِلَّ نحو : أَبَعْناه حتى لا يَلْزَم حَمْلُه على الشاذ ؟ فالجواب أنه لو أُعِلَّ بأنْ أُلْقِيَتْ حركةُ العينِ على الفاءِ فيلتقي ساكنانِ العينُ واللامُ فتُحْذَفُ العَيْنُ لالتقاء الساكنين ، فتجتمعُ همزتان مفتوحتان فيجبُ قَلْبُ الثانيةِ واواً نحو " أَوادِم " ، فتتحرَّكُ الواوُ بعدَ فتحةٍ فتقلبُ أَلفاً فيصيرُ اللفظُ : أَادْناه ، لأدَّى ذلك إلى إعلالِ الفاءِ والعينِ ، فلمَّا كانَ إعلالُه يؤدِّي إلى ذلك رُفِضَ بخلاف أَبَعْناه وأَقَمْناه ، فإنه ليسَ فيه إلا إعلالُ العينِ فقط . قال أبو البقاء : " فإنْ قلتَ : فَلِمَ لَمْ تُحْذَفِ الياءُ التي هي عينٌ كما حُذِفَتْ من نحو : أَسَلْناه منْ سالَ يَسالُ ؟ قيل : لو فَعَلوا ذلك لتوالى إعلالان : أحدُهما قَلْبُ الهمزةِ الثانيةِ ألفاً ثم حَذْفُ الألفِ المبدلة من الياءِ لسكونِها وسكونِ الألفِ قبلَها ، فكان يصيرُ اللفظُ آدْناه فكانَتْ تُحْذَفُ الفاءُ والعينُ وليس " أسلناه " كذلك ، لأنَّ هناك حَذْفَ العينِ وحدَها .

وقال الزمخشري في المائدة : " آيَدْتُك على أَفْعَلْتُك " وقال ابن عطية : " على فاعَلْتُك " ثم قال : " ويَظْهَرُ أن الأصلَ في القراءتين : أَفْعَلْتُك ثم اختَلَفَ الإِعلالُ " . انتهى .

والذي يظهر أن " أيَّد " فَعَّل لمجيء مضارِعِه على يُؤَيِّدُ بالتشديدِ ، ولو كان أَيَّد بالتشديد بزنة أَفْعَلَ لكان مضارعُه يُؤْيِدُ كيُؤْمِنُ من آمَنَ ، وأمَّا آيَدَ يعني بالمَدِّ فيُحتاج في نَقْلِ مضارعه إلى سَماعٍ ، فإنْ سُمِعَ يُؤايِدُ كيُقاتِل فهو فاعَل ، فإنْ سُمع يُؤْيِدُ كيُكْرِمُ فآيد أَفْعَل ، ذكر ذلك جميعَه الشيخُ في المائدة . ثم قال : " إنه لم يَظْهر كلامُ ابن عطية في قوله : " اختلف الإِعلالُ " وهو صحيحٌ ، إلاَّ أنَّ قوله : الذي يظهر أن أيَّد في قراءةِ الجمهورِ فَعَّل لا أَفْعَل إلى أخرِه " فيه نظرٌ لأنه يُشْعِرُ بجوازِ شيءٍ آخَر وذلك متعذَّرٌ ، كيف يُتَوَهَّمُ أن أيَّدَ بالتشديدِ في قراءةِ الجمهورِ بزنة أَفْعَل ، هذا ما لا يَقَعْ .

والأَيْدُ : القوَّةُ ، قال عبد المطلب :

الحمدُ للهِ الأَعزِّ الأكرمِ *** أَيَّدَنا يومَ زُحوفِ الأشْرَمِ

والصحيحُ أن فَعَّل وأَفْعَل هنا بمعنى واحد وهو قَوَّيْناه . وقد فَرَّق بعضُهم بينهما فقال : " أمَّا المدُّ فمعناه القوةُ ، وأمَّا القصرُ فمعناه التأييدُ والنَّصْرُ " ، وهذا في الحقيقةِ ليس بفرقٍ ، وقد أبدلتِ العربُ في آيَدَ على أَفْعَل الياءَ جيماً فقالت : آجَدَهُ أي قوَّاه ، قال الزمخشري : " يقال : " الحمدُ لله الذي آجَدَني بعد ضَعْفٍ وأَوْجَدني بعد فَقْر " ، وهذا كما أَبْدلوا من يائِه جيماً فقالوا : لا أَفْعَل ذلك جَدَ الدهرِ أي : يدَ الدهر ، وهو إبدالٌ لا يَطَّرِدُ .

قوله : { بِرُوحِ الْقُدُسِ } متعلِّق بأيَّدْناه . وقرأ ابن كثير : " القُدْس " بإسكانِ الدال ، والباقون بضمِّها ، وهما لغتان : الضمُّ للحجاز ، والإِسكانُ لتميم ، وقد تقدَّم ذلك ، وقرأ أبو حَيْوة : " القُدُوس " بواوٍ ، وفيه لغةُ فتحِ القاف والدال ومعناه الطهارةُ أو البركةُ كما تقدَّم عند قولِه : " ونقدِّسُ لك " . والروح في الأصل : اسمٌ للجزءِ الذي تَحْصُلُ به الحياةُ في الحيوان قاله الراغب ، والمرادُ به جبريلُ عليه السلام لقولِ حَسَّان :

وجبريلٌ رسولُ الله فينا *** وروحُ القُدْسِ ليس له كِفَاءُ

سُمِّي بذلك لأنَّ بسببه حياةَ القلوب .

قوله : { أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ } الهمزةُ هنا للتوضيحِ والتقريعِ ، والفاءُ للعطفِ عَطَفَتْ هذه الجملةَ على ما قبلَها ، واعتُنِيَ بحرفِ الاستفهام فقُدِّمَ ، وقد مَرَّ تحقيقُ ذلك ، وأنَّ الزمخشري يُقَدِّر بين الهمزةِ وحرفِ العطْفِ جملةً ليَعْطِفَ عليها . وهذه الجملةُ يجوز أَنْ تكونَ معطوفةً على ما قبلها من غيرِ حَذْفِ شيء ، كأنه قال : ولقد آتَيْنا يا بني إسرائيلَ أنبياءَكم ما آتيناهُمْ فكلما جاءَكم رسُولٌ . ويجوز أَنْ يُقَدَّر قبلَها محذوفٌ أي : فَفَعَلْتُم ما فَعَلْتُم فكلما جاءَكم رسولٌ . وقد تقدَّم الكلام في " كلما " عند قولِه :

{ كُلَّمَا أَضَآءَ } [ البقرة : 20 ] . والناصبُ لها هنا { استكبرتم } ، و { رسول " فَعُول بمعنى مَفْعُول أي مُرْسَل ، وكونُ فَعُول بمعنى المَفْعُول قليلٌ ، جاء منه الرَّكُوب والحَلُّوب أي : المَرْكُوب والمَحْلُوب ، ويكون مصدراً بمعنى الرسالة قاله الزمخشري . وأنشد :

لقد كَذَبَ الواشون ما فُهْتُ عندَهم *** بِسِرٍّ ولا أَرْسَلْتُهُمْ برَسول

أي : برسالة ، ومنه عنده : { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 16 ] .

قوله : { بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمْ } متعلِّق بقوله " جاءكم " ، و " جاء " يتعدى بنفسِه تارةً كَهذِه الآية ، وبحرفِ الجرِّ أُخْرى نحو : جِئْتُ إليه ، و " ما " موصولةٌ بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروط ، والتقديرُ : بما لا تهواه ، و " تهوى " مضارعُ هَوِي بكسر العين ولامُه من ياءٍ لأنَّ عينَه واوٌ ، وباب طَوَيْتُ وشَوَيْتُ أكثرُ من بابُ قوَّة وحُوَّة . ولا دليلَ في " هَوِيَ " لانكسار العين وهو مثل " شَقِي " من الشَّقاوة ، وقولُهم في تثنيةِ مصدرِه هَوَيان أدلُّ دليلٍ على ذلك ، ومعنى تَهْوَى : تُحِبُّ وتختار . وأصل الهَوَى : المَيْلُ ، سُمِّي بذلك لأنه يَهْوي بصاحبِه في النار ولذلك لا يُسْتعمل غالباً إلا فيما لا خَيْرَ فيه ، وقد يُستعمل فيما هو خيرٌ ، ففي الحديث الصحيح قولُ عمرَ في أُسارى بدر : " فَهَوِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما قالَ أبو بكر ولم يَهْوَ ما قلت . وعن عائشة رضي الله عنها : " واللهِ ما أَرى ربَّك إلا يُسارع في هَوَاك " وجمعُه أَهْواء ، قال تعالى : { بِأَهْوَائِهِم } [ الأنعام : 119 ] ولا تُجْمع على أَهْوِية وإنْ كان قد جاء : نَدَى وأَنْدِية قال الشاعر :

في ليلةٍ من جُمادى ذاتِ أَنْدِيَةٍ *** لا يُبْصِرُ الكلبُ في ظَلْمائها الطُّنُبا

وأمَّا " هَوَى يَهْوي " بفتحها في الماضي وكسرِها في المضارع فمعناهُ السقوطُ ، والهَوِيُّ بفتح الهاءُ ذهابٌ في انحدارِ ، والهُوِيُّ ذهابٌ في صعود ، وسيأتي تحقيقُ كلِّ ذلك ، وأسندَ الفعلَ إلى الأنفس دونَ المخاطبِ فلم يَقُلْ : " بما لا تَهْوون " تنبيهاً أنَّ النفسَ يُسْنَدُ إليها الفعلُ السَّيِّء غالباً نحو : { إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } [ يوسف : 53 ] { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ }

[ يوسف : 18 ] { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ } [ المائدة : 30 ] واستكبر بمعنى تَكَبَّرَ .

قوله : { فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ } الفاءُ عاطفةٌ جملةَ " كَذَّبْتم " على " استكبرتم " و " فريقاً " مفعولٌ مقدَّم قُدِّم لتتفقَ رؤوسَ الآي ، وكذا { وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } ، ولا بُدَّ من محذوفٍ أي : فريقاً منهم ، والمعنى أنه نشأ عن استكبارهم مبادرةُ فَرِيقٍ من الرسلِ بالتكذيب ومبادَرَةُ آخرين بالقتلِ ، وقَدَّم التكذيبَ لأنه/ أولُ ما يفعلونه من الشرِّ ولأنه مشتركٌ بين المقتولِ وغيره ، فإنَّ المقتولِين قد كذَّبوهم أيضاً ، وإنما لم يُصَرِّحْ به لأنه ذَكَرَ أقبحَ منه في الفعلِ . وجيء ب " تقتلون " مضارعاً : إمَّا لكونِه مستقبلاً لأنهم كانوا يَرُومون قَتْلَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، ولِما فيه من مناسبة رؤوسِ الآيِ والفواصِل ، وإمَّا أن يُرادَ به الحالُ الماضيةُ أن الأمرَ فظيعٌ فأُريد استحضارُه في النفوس وتصويرُه في القلوب . وأجازَ الراغب أَنْ يكونَ { فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ } معطوفاً على قوله " وأَيَّدْناه " ويكونُ " أفكلما " مع ما بعده فَصْلاً بينهما على سبيلِ الإِنكار ، والأظهرُ هو الأولُ ، وإنْ كان ما قاله محتملاً .