قوله تعالى : { وكذلك بعثناهم } أي : كما أنمناهم في الكهف وحفظنا أجسادهم من البلى على طول الزمان ، فكذلك بعثناهم من النومة التي تشبه الموت { ليتساءلوا بينهم } ليسأل بعضهم بعضاً ، واللام فيه لام العاقبة ، لأنهم لم يبعثوا للسؤال . { قال قائل منهم } : وهو رئيسهم مكسلمينا ، { كم لبثتم } في نومكم ؟ وذلك أنهم استنكروا طول نومهم . ويقال : إنهم راعهم ما فاتهم من الصلاة فقالوا ذلك . { قالوا لبثنا يوما } وذلك أنهم دخلوا الكهف غدوة فقالوا فانتبهوا حين انتبهوا عشية ، فقالوا : لبثنا يوماً ، ثم نظروا وقد بقيت من الشمس بقية ، فقالوا : { أو بعض يوم } ، فلما نظروا إلى طول شعورهم وأظفارهم علموا أنهم لبثوا أكثر من يوم . { قالوا ربكم أعلم بما لبثتم } ، وقيل : إن رئيسهم مكسلمينا لما سمع الاختلاف بينهم قال : دعوا الاختلاف ربكم أعلم بما لبثتم ، { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه } يعني تمليخا . قرأ أبو عمرو ، و حمزة ، وأبو بكر : بورقكم ساكنة الراء والباقون بكسرهما ، ومعناهما واحد ، وهي الفضة مضروبةً كانت أو غير مضروبة . { إلى المدينة } قيل : هي طرسوس وكان اسمها في الجاهلية أفسوس فسموها في الإسلام طرسوس . { فلينظر أيها أزكى طعاماً } أي : أحل طعاماً حتى لا يكون من غصب أو سبب حرام ، وقيل : أمروه أن يطلب ذبيحة مؤمن ولا يكون من ذبيحة من يذبح لغير الله وكان فيهم مؤمنون يخفون إيمانهم ، وقال الضحاك : أطيب طعاماً . وقال مقاتل بن حيان : أجود طعاماً . وقال عكرمة أكثر ، وأصل الزكاة الزيادة . وقيل : أرخص طعاماً . { فليأتكم برزق منه } أي : قوت وطعام تأكلونه ، { وليتلطف } ، وليترفق في الطريق وفي المدينة وليكن في ستر وكتمان{ ولا يشعرن } ولا يعلمن { بكم أحداً } من الناس .
{ 19-20 } { وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا }
يقول تعالى : { وكذلك بعثناهم } أي : من نومهم الطويل { ليتساءلوا بينهم } أي : ليتباحثوا للوقوف على الحقيقة من مدة لبثهم .
{ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } وهذا مبني على ظن القائل ، وكأنهم وقع عندهم اشتباه . في طول مدتهم ، فلهذا { قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } فردوا العلم إلى المحيط علمه بكل شيء ، جملة وتفصيلا ، ولعل الله تعالى -بعد ذلك- أطلعهم على مدة لبثهم ، لأنه بعثهم ليتساءلوا بينهم ، وأخبر أنهم تساءلوا ، وتكلموا بمبلغ ما عندهم ، وصار آخر أمرهم ، الاشتباه ، فلا بد أن يكون قد أخبرهم يقينا ، علمنا ذلك من حكمته في بعثهم ، وأنه لا يفعل ذلك عبثا . ومن رحمته بمن طلب علم الحقيقة في الأمور المطلوب علمها ، وسعى لذلك ما أمكنه ، فإن الله يوضح له ذلك ، وبما ذكر فيما بعده من قوله . { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا } فلولا أنه حصل العلم بحالهم ، لم يكونوا دليلا على ما ذكر ، ثم إنهم لما تساءلوا بينهم ، وجرى منهم ما أخبر الله به ، أرسلوا أحدهم بورقهم ، أي : بالدراهم ، التي كانت معهم ، ليشتري لهم طعاما يأكلونه ، من المدينة التي خرجوا منها ، وأمروه أن يتخير من الطعام أزكاه ، أي : أطيبه وألذه ، وأن يتلطف في ذهابه وشرائه وإيابه ، وأن يختفي في ذلك ، ويخفي حال إخوانه ، ولا يشعرن بهم أحدا . وذكروا المحذور من اطلاع غيرهم عليهم ، وظهورهم عليهم ، أنهم بين أمرين ، إما الرجم بالحجارة ، فيقتلونهم أشنع قتلة ، لحنقهم عليهم وعلى دينهم ، وإما أن يفتنوهم عن دينهم ، ويردوهم في ملتم ، وفي هذه الحال ، لا يفلحون أبدا ، بل يحشرون في دينهم ودنياهم وأخراهم ، وقد دلت هاتان الآيتان ، على عدة فوائد .
منها : الحث على العلم ، وعلى المباحثة فيه ، لكون الله بعثهم لأجل ذلك .
ومنها : الأدب فيمن اشتبه عليه العلم ، أن يرده إلى عالمه ، وأن يقف عند حده .
ومنها : صحة الوكالة في البيع والشراء ، وصحة الشركة في ذلك .
ومنها : جواز أكل الطيبات ، والمطاعم اللذيذة ، إذا لم تخرج إلى حد الإسراف المنهي عنه لقوله { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ } وخصوصا إذا كان الإنسان لا يلائمه إلا ذلك ولعل هذا عمدة كثير من المفسرين ، القائلين بأن هؤلاء أولاد ملوك لكونهم أمروه بأزكى الأطعمة ، التي جرت عادة الأغنياء الكبار بتناولها .
ومنها : الحث على التحرز ، والاستخفاء ، والبعد عن مواقع الفتن في الدين ، واستعمال الكتمان في ذلك على الإنسان وعلى إخوانه في الدين .
ومنها : شدة رغبة هؤلاء الفتية في الدين ، وفرارهم من كل فتنة ، في دينهم وتركهم أوطانهم في الله .
وقوله - سبحانه - : { وكذلك بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ } ، بيان للعلة التى من أجلها بعث أصحاب الكهف من نومهم الطويل .
أى : وكما أنمناهم تلك المدة الطويلة ، بعثناهم من نومهم بعدها ، ليسأل بعضهم بعضا ، وكأنهم قد أحسوا بأن نومهم قد طال .
والاقتصار على التساؤل الذى حصل الإِيقاظ من أجله ، لا ينفى أن يكون هناك أسباب أخرى غيره حصل من أجلها إيقاظهم ، وإنما أفرده - سبحانه - بالذكر لاستتباعه لسائر الآثار الأخرى .
ثم حكى - سبحانه - بعض تساؤلهم فقال : { قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ } أى : كم مكثتم مستغرقين فى النوم فى هذا الكهف .
فأجابه بعضهم بقوله : { لبثنا يوماً } لظنهم أن الشمس قد غربت ، فلما رأوها لم تغرب بعد قالوا : { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } أى : مكثنا نائمين بعض ساعات اليوم .
ويصح أن تكون أو للشك . أى قال بعضهم فى الرد على سؤال السائل كم لبثتم ، لبثنا فى النوم يوما أو بعض يوم ، لأننا لا ندرى على الحقيقة كم مكثنا نائمين .
ثم حكى القرآن أن بعضهم رد عِلْمَ مقدار مدة نومهم على جهة اليقين إلى الله - تعالى - فقال : { قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } أى : ربكم وحده هو العليم بمقدار الزمن الذى قضيتموه نائمين فى هذا الكهف .
قال الآلوسى : وهذا رد منهم على الأولين ، على أحسن ما يكون من مراعاة حسن الأدب ، وبه كما قيل يتحقق التحزب إلى الحزبين المعهودين فيما سبق فى قوله - تعالى - { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ } وقال بعضهم : وقد استدل ابن عباس على أن عدد الفتية سبعة بهذه الآية ، لأنه قد قال فى الآية : قال قائل منهم ، وهذا واحد ، وقالوا فى جوابه : لبثنا يوما ، أو بعض يوم وهو جمع وأقله ثلاثة ، ثم قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم ، وهذا قول جمع آخرين فصاروا سبعة .
ثم بين - سبحانه - ما قالوه بعد أن تركوا الحديث فى مسألة الزمن الذى قضوه نائمين فى الكهف فقال - تعالى - : { فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أزكى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } .
أى : كفوا عن الحديث فى مسألة المدة التى نمتموها ، فعلمها عند الله ، وابعثوا أحدكم { بورقكم } . أى : بدراهمكم المضروبة من الفضة ، { إلى المدينة } التى يوجد بها الطعام الذى نحن فى حاجة إليه ، والتى هى أقرب مكان إلى الكهف .
قالوا : والمراد بها مدينتهم التى كانوا يسكنونها قبل أن يلجأوا إلى الكهف فراراً بدينهم .
{ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أزكى طَعَاماً } أى : ومتى وصل إلى المدينة ، فليتفقد أسواقها ، وليتخير أى أطعمتها أحل وأطهر وأجود وأكثر بركة .
{ فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ } أى : فليأتكم بما يسد جوعكم من ذلك الأزكى طعاما ، فيكون الضمير فى " منه " للطعام الأزكى .
ويصح أن يكون للدراهم المضروبة المعبر عنها { بورقكم } ، أى : فليأتكم بدلا منها بطعام تأكلونه ، وليتلطف ، أى : وليتكلف اللطف فى الاستخفاء ، والدقة فى استعمال الحيل حال دخوله وخروجه من المدينة ، حتى لا يعرفه أحد من أهلها .
{ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } أى : ولا يفعلن فعلا يؤدى إلى معرفة أحد من أهل المدينة بنا .
وفجأة تدب فيهم الحياة . فلننظر ولنسمع :
( وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم . قال قائل منهم : كم لبثتم ? قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم . قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم ، فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة ، فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا . إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ، ولن تفلحوا إذن أبدا ) . .
إن السياق يحتفظ بالمفاجأة في عرض القصة ، فيعرض هذا المشهد ، والفتية يستيقظون وهم لا يعرفون كم لبثوا منذ أن أدركهم النعاس . . إنهم يفركون أعينهم ، ويلتفت أحدهم إلى الآخرين فيسأل : كم لبثتم ? كما يسأل من يستيقظ من نوم طويل . ولا بد أنه كان يحس بآثار نوم طويل . ( قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم ) !
ثم رأوا أن يتركوا هذه المسألة التي لا طائل وراء البحث فيها ، ويدعو أمرها لله - شأن المؤمن في كل ما يعرض له مما يجهله - وأن يأخذوا في شأن عملي . فهم جائعون . ولديهم نقود فضية خرجوا بها من المدينة : ( قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم ، فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة ، فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه ) . . أي فليختر أطيب طعام في المدينة فليأتكم بشيء منه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هََذِهِ إِلَىَ الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيّهَآ أَزْكَىَ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مّنْهُ وَلْيَتَلَطّفْ وَلاَ يُشْعِرَنّ بِكُمْ أَحَداً * إِنّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوَاْ إِذاً أَبَداً } .
يقول تعالى ذكره : كما أرقدنا هؤلاء الفتية في الكهف ، فحفظناهم من وصول واصل إليهم ، وعين ناظر أن ينظر إليهم ، وحفظنا أجسامهم من البلاء على طول الزمان ، وثيابهم من العفن على مرّ الأيام بقدرتنا فكذلك بعثناهم من رقدتهم ، وأيقظناهم من نومهم ، لنعرّفهم عظيم سلطاننا ، وعجيب فعلنا في خلقنا ، وليزدادوا بصيرة في أمرهم الذي هم عليه من براءتهم من عبادة الاَلهة ، وإخلاصهم لعبادة الله وحده لا شريك له ، إذا تبيّنوا طول الزمان عليهم ، وهم بهيئتهم حين رقدوا . وقوله : لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ يقول : ليسأل بعضهم بعضا قالَ قائلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ يقول عزّ ذكره : فتساءلوا فقال قائل منهم لأصحابه : كَمْ لبثْتمْ وذلك أنهم استنكروا من أنفسهم طول رقدتهم قالُوا لَبِثْنا يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ يقول : فأجابه الاَخرون فقالوا : لَبِثْنا يوما أو بعض يوم . ظنا منهم أن ذلك كذلك كان ، فقال الاَخرون : رَبّكُمْ أعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فسلّموا العلم إلى الله .
وقوله : فابْعَثُوا أحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلى المَدِينَةِ يعني مدينتهم التي خرجوا منها هِرابا ، التي تسمى أفسوس فَلْيَنْظُرْ أيّها أزْكَى طَعاما فَلْيأَتِكُمْ بِرزْقٍ مِنْهُ ذكر أنهم هبوا من رقدتهم جياعا ، فلذلك طلبوا الطعام . ذكر من قال ذلك ، وذكر السبب الذي من أجله ذكر أنهم بعثوا من رقدتهم حين بعثوا منها :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرني إسماعيل بن بشروس ، أنه سمع وهب بن منبه يقول : إنهم غبروا ، يعني الفتية من أصحاب الكهف بعد ما بنى عليهم باب الكهف زمانا بعد زمان ، ثم إن راعيا أدركه المطر عند الكهف ، فقال : لو فتحت هذا الكهف وأدخلت غنمي من المطر ، فلم يزل يعالجه حتى فتح ما أدخله فيه ، وردّ إليهم أرواحهم في أجسامهم من الغد حين أصبحوا ، فبعثوا أحدهم بورق يشتري طعاما فلما أتى باب مدينتهم ، رأى شيئا يُنكره ، حتى دخل على رجل فقال : بعني بهذه الدراهم طعاما ، فقال : ومن أين لك هذه الدراهم ؟ قال : خرجت أنا وأصحاب لي أمس ، فآوانا الليل ، ثم أصبحوا ، فأرسلوني ، فقال : هذه الدراهم كانت على عهد مُلك فلان ، فأنيّ لك بها ؟ فرفعه إلى الملك ، وكان ملكا صالحا ، فقال : من أين لك هذه الوَرق ؟ قال : خرجت أنا وأصحاب لي أمس ، حتى أدركَنا الليل في كهف كذا وكذا ، ثم أمروني أن أشتري لهم طعاما قال : وأين أصحابك ؟ قال : في الكهف قال : فانطلقوا معه حتى أتوا باب الكهف ، فقال : دعوني أدخل على أصحابي قبلكم فلما رأوه ، ودنا منهم ضُرِب على أذنه وآذانهم ، فجعلوا كلما دخل رجل أرعب ، فلم يقدروا على أن يدخلوا عليهم ، فبنوا عندهم كنيسة ، اتخذوها مسجدا يصلون فيه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن عكرمة ، قال : كان أصحاب الكهف أبناء ملوك الروم ، رزقهم الله الإسلام ، فتعوّذوا بدينهم ، واعتزلوا قومهم ، حتى انتهوا إلى الكهف ، فضَرَب الله على سمعهم ، فلبثوا دهرا طويلاً ، حتى هَلكت أمتهم ، وجاءت أمّة مسلمة ، وكان ملكهم مسلما ، فاختلفوا في الروح والجسد ، فقال قائل : يبعث الروح والجسد جميعا وقال قائل : يُبعث الروح ، فأما الجسد فتأكله الأرض ، فلا يكون شيئا فشقّ على ملكهم اختلافهم ، فانطلق فلبس المُسُوح ، وجلس على الرّماد ، ثم دعا الله تعالى فقال : أي ربّ ، قد ترى اختلاف هؤلاء ، فابعث لهم آية تبين لهم ، فبعث الله أصحاب الكهف ، فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاما ، فدخل السوق ، فجعل يُنكر الوجوه ، ويعرف الطرق ، ويرى الإيمان بالمدينة ظاهرا ، فانطلق وهو مستخف حتى أتى رجلاً يشتري منه طعاما فلما نظر الرجل إلى الوَرِق أنكرها ، قال : حسبت أنه قال : كأنها أخفاف الرّبَع ، يعني الإبل الصغار ، فقال له الفتى : أليس ملككم فلانا ؟ قال : بل ملكنا فلان فلم يزل ذلك بينهما حتى رفعه إلى الملك ، فسأله ، فأخبره الفتى خبر أصحابه ، فبعث الملك في الناس ، فجمعهم ، فقال : إنكم قد اختلفتم في الروح والجسد ، وإن الله قد بعث لكم آية ، فهذا رجل من قوم فلان ، يعني ملكهم الذي مضى ، فقال الفتى : انطلقوا بي إلى أصحابي فركب الملك ، وركب معه الناس حتى انتهوا إلى الكهف فقال الفتى دعوني أدخل إلى أصحابي ، فلما أبصرهم ضُرِب على أذنه وعلى آذانهم فلما استبطؤوه دخل الملك ، ودخل الناس معه ، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئا ، غير أنها لا أرواح فيها ، فقال الملك : هذه آية بعثها الله لكم . قال قتادة : وعن ابن عباس ، كان قد غزا مع حبيب بن مسلمة ، فمرّوا بالكهف ، فإذا فيه عظام ، فقال رجل : هذه عظام أصحاب الكهف ، فقال ابن عباس : لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلاث مئة سنة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق فيما ذكر من حديث أصحاب الكهف ، قال : ثم ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له تيذوسيس فلما ملك بقي ملكه ثمانيا وستين سنة ، فتحزّب الناس في مُلكه ، فكانوا أحزابا ، فمنهم من يؤمن بالله ، ويعلم أنّ الساعة حقّ ، ومنهم من يكذّب ، فكبر ذلك على الملك الصالح تيذوسيس ، وبكى إلى الله وتضرّع إليه ، وحزن حزنا شديدا لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحقّ ويقولون : لا حياة إلا الحياة الدنيا ، وإنما تُبعث النفوس ، ولا تُبعث الأجساد ، ونسُوا ما في الكتاب فجعل تيذوسيس يرسل إلى من يظنّ فيه خيرا ، وأنهم أئمة في الحقّ ، فجعلوا يكذّبون بالساعة ، حتى كادوا أن يُحوّلوا الناس عن الحقّ ومِلة الحَواريين فلما رأى ذلك الملك الصالح تيذوسيس ، دخل بيته فأغلقه عليه ، ولبس مِسْحا وجعل تحته رمادا ، ثم جلس عليه ، فدأب ذلك ليله ونهاره زمانا يتضرّع إلى الله ، ويبكي إليه مما يرى فيه الناس ثم إن الرحمن الرحيم الذي يكره هلكة العباد ، أراد أن يَظْهر على الفتية أصحاب الكهف ، ويبين للناس شأنهم ، ويجعلهم آية لهم ، وحجة عليهم ، ليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن يستجيب لعبده الصالح تيذوسيس ، ويتمّ نعمته عليه ، فلا ينزع منه مُلكه ، ولا الإيمان الذي أعطاه ، وأن يعبد الله لا يشرك به شيئا ، وأن يجمع من كان تبدّد من المؤمنين ، فألقى الله في نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي به الكهف ، وكان الجبل بنجلوس الذي فيه الكهف لذلك الرجل ، وكان اسم ذلك الرجل أولياس ، أن يهدم البنيان الذي على فم الكهف ، فيبنى به حظيرة لغنمه ، فاستأجر عاملين ، فجعلا ينزعان تلك الحجارة ، ويبنيان بها تلك الحظيرة ، حتى نزعا ما على فم الكهف ، حتى فتحا عنهم باب الكهف ، وحجبهم الله من الناس بالرعب فيزعمون أن أشجع من يريد أن ينظر إليهم غاية ما يمكنه أن يدخل من باب الكهف ، ثم يتقدّم حتى يرى كلبهم دونهم إلى باب الكهف نائما فلما نزعا الحجارة ، وفتحا عليهم باب الكهف ، أذن الله ذو القدرة والعظمة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهري الكهف ، فجلسوا فرحين مُسْفِرة وجوههم طيّبة أنفُسهم ، فسلّم بعضهم على بعض ، حتى كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون لها إذا أصبحوا من ليلتهم التي يبيتون فيها . ثم قاموا إلى الصلاة فصلّوا ، كالذي كانوا يفعلون ، لا يرَون ، ولا يُرَى في وجوههم ، ولا أبشارهم ، ولا ألوانهم شيء يُنكرونه كهيئتهم حين رقدوا بعشيّ أمس ، وهم يرون أن ملكهم دقينوس الجبار في طلبهم والتماسهم .
فلما قضوا صلاتهم كما كانوا يفعلون ، قالوا ليمليخا ، وكان هو صاحب نفقتهم ، الذي كان يبتاع لهم طعامهم وشرابهم من المدينة ، وجاءهم بالخبر أن دقينوس يلتمسنهم ، ويسأل عنهم : أنبئنا يا أخي ما الذي قال الناس في شأننا عشيّ أمسى عند هذا الجبار ؟ وهم يظنون أنهم رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون ، وقد خُيّل إليهم أنهم قد ناموا كأطول ما كانوا ينامون في الليلة التي أصبحوا فيها ، حتى تساءلوا بينهم ، فقال بعضهم لبعض : كَمْ لَبِثْتُمْ نياما ؟ قالُوا لَبِثْنا يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبّكُمْ أعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ وكل ذلك في أنفسهم يسير . فقال لهم يمليخا : افتُقِدْتم والتمستم بالمدينة ، وهو يريد أن يُؤْتَى بكم اليوم ، فتَذْبحُون للطواغيت ، أو يقتُلُكم ، فما شاء الله بعد ذلك . فقال لهم مكسلمينا : يا إخوتاه اعلموا أنكم ملاَقوْن ، فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم عدوّ الله ، ولا تُنكروا الحياة التي لا تبيد بعد إيمانكم بالله ، والحياة من بعد الموت ثم قالوا ليمليخا : انطلق إلى المدينة فتسمّع ما يقال لنا بها اليوم ، وما الذي نُذكر به عند دقينوس ، وتلطّف ، ولا يشعَرنّ بنا أحد ، وابتع لنا طعاما فأتنا به ، فإنه قد آن لك ، وزدنا على الطعام الذي قد جئتنا به ، فإنه قد كان قليلاً ، فقد أصبحنا جياعا ففعل يمليخا كما كان يفعل ، ووضع ثيابه ، وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها ، وأخذ وَرِقا من نفقتهم التي كانت معهم ، التي ضُربت بطابَع دقينوس الملك ، فانطلق يمليخا خارجا فلما مرّ بباب الكهف ، رأى الحجارة منزوعة عن باب الكهف ، فعجب منها ، ثم مرّ فلم يبال بها ، حتى أتى المدينة مستخفيا يصدّ عن الطريق تخوّفا أن يراه أحد من أهلها ، فيعرفه ، فيذهب به إلى دقينوس ، ولا يشعر العبد الصالح أن دقينوس وأهل زمانه قد هَلكوا قبل ذلك بثلاث مئة وتسع سنين ، أو ما شاء الله من ذلك إذ كان ما بين أن ناموا إلى أن استيقظوا ثلاث مئة وتسع سنين . فلما رأى يمليخا باب المدينة رفع بصره ، فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان ، إذا كان ظاهرا فيها فلما رآها عجب وجعل ينظر مستخفيا إليها فنظر يمينا وشمالاً ، فتعجب بينه وبين نفسه ، ثم ترك ذلك الباب ، فتحوّل إلى باب آخر من أبوابها ، فنظر فرأى من ذلك ما يحيط بالمدينة كلها ، ورأى على كلّ باب مثل ذلك فجعل يخيل إليه أن المدينة ليس بالمدينة التي كان يعرف ، ورأى ناسا كثيرين محدثين لم يكن يراهم قبل ذلك ، فجعل يمشي ويعجب ويخيل إليه أنه حيران ثم رجع إلى الباب الذي أتى منه ، فجعل يعجب بينه وبين نفسه ويقول : يا ليت شعري ، أما هذه عشية أمس ، فكان المسلمون يخفون هذه العلامة ويستخفون بها ، وأما اليوم فإنها ظاهرة لعليّ حالم ؟ ثم يرى أنه ليس بنائم فأخذ كساءه فجعله على رأسه ، ثم دخل المدينة ، فجعل يمشي بين ظهري سوقها ، فيسمع أناسا كثيرا يحلفون باسم عيسى ابن مريم ، فزاده فرقا ، ورأى أنه حيران ، فقام مُسندا ظهره إلى جدار من جُدُر المدينة ويقول في نفسه : والله ما أدري ما هذا أما عشية أمس فليس على الأرض إنسان يذكر عيسى ابن مريم إلا قُتل وأما الغداة فأسمعهم ، وكلّ إنسان يذكرأمر عيسى لا يخاف ثم قال في نفسه : لعلّ هذه ليست بالمدينة التي أعرف أسمع كلام أهلها ولا أعرف أحدا منهم ، والله ما أعلم مدينة قرب مدينتنا فقام كالحيران لا يتوجه وجها ثم لقي فتى من أهل المدينة ، فقال له : ما اسم هذه المدينة يا فتى ؟ قال : اسمها أفسوس ، فقال في نفسه : لعلّ بي مسا ، أو بي أمر أذهب عقلي ؟ والله يحقّ لي أن أسرع الخروج منها قبل أن أخزى فيها أو يصيبني شرّ فأهلك . هذا الذي يحدّث به يمليخا أصحابه حين تبين لهم ما به .
ثم إنه أفاق فقال : والله لو عجلت الخروج من المدينة قبل أن يفطن بي لكان أكيس لي فدنا من الذين يبيعون الطعام ، فأخرج الورِق التي كانت معه ، فأعطاها رجلاً منهم ، فقال : بعني بهذه الورِق يا عبد الله طعاما . فأخذها الرجل ، فنظر إلى ضرب الورق ونقشها ، فعجب منها ، ثم طرحها إلى رجل من أصحابه ، فنظر إليها ، ثم جعلوا يتطارحونها بينهم من رجل إلى رجل ، ويتعجبون منها ، ثم جعلوا يتشاورون بينهم ويقول بعضهم لبعض : إن هذا الرجل قد أصاب كنزا خبيئا في الأرض منذ زمان ودهر طويل فلما رآهم يتشاورون من أجله فرق فرقا شديدا ، وجعل يرتعد ويظنّ أنهم قد فطنوا به وعرفوه ، وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقينوس يسلمونه إليه . وجعل أناس آخرون يأتونه فيتعرّفونه ، فقال لهم وهو شديد الفرق منهم : أفضلوا عليّ ، فقد أخذتم ورقي فأمسكوا ، وأما طعامكم فلا حاجة لي به . قالوا له : من أنت يا فتى ، وما شأنك ؟ والله لقد وجدت كنزا من كنوز الأوّلين ، فأنت تريد أن تخفيه منا ، فانطلق معنا فأرناه وشاركنا فيه ، نخف عليك ما وجدت ، فإنك إن لا تفعل نأت بك السلطان ، فنسلمك إليه فيقتلك . فلما سمع قولهم ، عجب في نفسه فقال : قد وقعت في كلّ شيء كنت أحذر منه ثم قالوا : يا فتى إنك والله ما تستطيع أن تكتم ما وجدت ، ولا تظنّ في نفسك أنه سيخفى حالك . فجعل يمليخا لا يدري ما يقول لهم وما يرجع إليهم ، وفَرِق حتى ما يحير إليهم جوابا فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه فطوقوه في عنقه ، ثم جعلوا يقودونه في سكك المدينة ملبّبا ، حتى سمع به من فيها ، فقيل : أُخذ رجلٌ عنده كنزٌ .
واجتمع عليه أهل المدينة صغيرهم وكبيرهم ، فجعلوا ينظرون إليه ويقولون : والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة ، وما رأيناه فيها قطّ ، وما نعرفه فجعل يمليخا لا يدري ما يقول لهم ، مع ما يسمع منهم فلما اجتمع عليه أهل المدينة ، فَرِق ، فسكت فلم يتكلم ولو أنه قال إنه من أهل المدينة لم يصدّق . وكان مستيقنا أنّ أباه وإخوته بالمدينة ، وأن حسبه من أهل المدينة من عظماء أهلها ، وأنهم سيأتونه إذا سمعوا ، وقد استيقن أنه من عشية أمس يعرف كثيرا من أهلها ، وأنه لا يعرف اليوم من أهلها أحدا .
فبينما هو قائم كالحيران ينتظر متى يأته بعض أهله ، أبوه أو بعض إخوته فيخلصه من أيديهم ، إذ اختطفوه فانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللذين يدبران أمرها ، وهما رجلان صالحان ، كان اسم أحدهما أريوس ، واسم الاَخر أسطيوس فلما انطلق به إليهما ، ظنّ يمليخا أنه يُنطلق به إلى دقينوس الجبار ملكهم الذي هربوا منه ، فجعل يلتفت يمينا وشمالاً ، وجعل الناس يسخرون منه ، كما يُسخر من المجنون والحيران ، فجعل يمليخا يبكي . ثم رفع رأسه إلى السماء وإلى الله ، ثم قال : اللهمّ إله السموات والأرض ، أولج معي روحا منك اليوم تؤيدني به عند هذا الجبار . وجعل يبكي ويقول في نفسه : فرق بيني وبين إخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيت ، وأنى يُذهب بي إلى دقينوس الجبار فلو أنهم يعلمون ، فيأتون ، فنقوم جميعا بين يدي دقينوس فإنا كنا تواثقنا لنكوننّ معا ، لا نكفر بالله ولا نشرك به شيئا ، ولا نعبد الطواغيت من دون الله . فُرّق بيني وبينهم ، فلن يروني ولن أراهم أبدا وقد كنا تواثقنا أن لا نفترق في حياة ولا موت أبدا . يا ليت شعري ما هو فاعل بي ؟ أقاتلي هو أم لا ؟ ذلك الذي يحدّث به يمليخا نفسه فيما أخبر أصحابه حين رجع إليهم .
فلما انتهى إلى الرجلين الصالحين أريوس وأسطيوس ، فلما رأى يمليخا أنه لم يُذهب به إلى دقينوس ، أفاق وسكن عنه البكاء فأخذ أريوس وأسطيوس الورق فنظرا إليها وعجبا منها ، ثم قال أحدهما : أين الكنز الذي وجدت يا فتى ؟ هذا الورِق يشهد عليك أنك قد وجدت كنزا فقال لهما يمليخا : ما وجدت كنزا ولكن هذه الورِق ورق آبائي ، ونقش هذه المدينة وضربها ، ولكن والله ما أدري ما شأني ، وما أدري ما أقول لكم فقال له أحدهما : ممن أنت ؟ فقال له يمليخا : ما أدري ، فكنت أرى أني من أهل هذه القرية ، قالوا : فمن أبوك ومن يعرفك بها ؟ فأنبأهم باسم أبيه ، فلم يجدوا أحدا يعرفه ولا أباه فقال له أحدهما : أنت رجل كذّاب لا تنبئنا بالحقّ فلم يدر يمليخا ما يقول لهم ، غيرأنه نكس بصره إلى الأرض . فقال له بعض من حوله : هذا رجل مجنون فقال بعضهم : ليس بمجنون ، ولكنه يحمق نفسه عمدا لكي ينفلت منكم فقال له أحدهما ، ونظر إليه نظرا شديدا : أتظنّ أنك إذ تتجانن نرسلك ونصدّقك بأن هذا مال أبيك ، وضرب هذه الورق ونقشها منذ أكثر من ثلاث مئة سنة ؟ وإنما أنت غلام شاب تظنّ أنك تأفكنا ، ونحن شمط كما ترى ، وحولك سُراة أهل المدينة ، وولاة أمرها ، إني لأظنني سآمر بك فتعذّب عذابا شديدا ، ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدت . فلمال قال ذلك ، قال يمليخا : أنبئوني عن شيء أسألكم عنه ، فإن فعلتم صدقتكم عما عندي أرأيتم دقينوس الملك الذي كان في هذه المدينة عشية أمس ما فعل ؟ فقال له الرجل : ليس على وجه الأرض رجل اسمه دقينوس ، ولم يكن إلا ملك قد هلك منذ زمان ودهر طويل ، وهَلكت بعده قرون كثيرة فقال له يمليخا : فوالله إني إذا لحيران ، وما هو بمصدّق أحد من الناس بما أقول والله لقد علمت ، لقد فررنا من الجبار دقينوس ، وإني قد رأيته عشية أمس حين دخل مدينة أفسوس ، ولكن لا أدري أمدينة أفسوس هذه أم لا ؟ فانطلقا معي إلى الكهف الذي في جبل بنجلوس أريكم أصحابي . فلما سمع أريوس ما يقول يمليخا قال : يا قوم لعلّ هذه آية من آيات الله جعلها لكم على يدي هذا الفتى ، فانطلقوا بنا معه يرنا أصحابه ، كما قال . فانطلق معه أريوس وأسطيوس ، وانطلق معهم أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم ، نحو أصحاب الكهف لينظروا إليهم .
ولما رأى الفتية أصحاب الكهف يمليخا قد احتبس عليهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتي به ، ظنوا أنه قد أُخِذ فذُهب به إلى ملكهم دَقْينوس الذي هربوا منه . فبينما هم يظنون ذلك ويتخوّفونه ، إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل مصعدة نحوهم ، فظنوا أنهم رُسل الجبار دقينوس بعث إليهم ليُؤْتي بهم ، فقاموا حين سمعوا ذلك إلى الصلاة ، وسلّم بعضهم على بعض ، وأوصى بعضهم بعضا ، وقالوا : انطلقوا بنا نأت أخانا يمليخا ، فإنه الاَن بين يدي الجبار دقينوس ينتظر متى نأته . فبينما هم يقولون ذلك ، وهم جلوس بين ظهري الكهف ، فلم يروا إلا أريوس وأصحابه وقوفا على باب الكهف . وسبقهم يمليخا ، فدخل عليهم وهو يبكي . فلما رأوه يبكي بكوا معه ثم سألوه عن شأنه ، فأخبرهم خبره وقصّ عليهم النبأ كله ، فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نياما بأمر الله ذلك الزمان كله ، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس ، وتصديقا للبعث ، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها . ثم دخل على أثر يمليخا أريوس ، فرأى تابوتا من نحاس مختوما بخاتم من فضة ، فقام بباب الكهف ثم دعا رجالاً من عظماء أهل المدينة ، ففتح التابوت عندهم ، فوجدوا فيه لوحين من رصاص ، مكتوبا فيهما كتاب ، فقرأهما فوجد فيهما : أن مكسلمينا ، ومحسلمينا ، ويمليخا ، ومرطونس ، وكسطونس ، ويبورس ، ويكرنوس ، ويطبيونس ، وقالوش ، كانوا فتية هربوا من ملكهم دقينوس الجبار ، مخافة أن يفتنهم عن دينهم ، فدخلوا هذا الكهف فلما أخبر بمكانهم أمر بالكهف فسدّ عليهم بالحجارة ، وإنا كتبنا شأنهم وقصة خبرهم ، ليعلمه من بعدهم إن عثر عليهم . فلما قرأوه ، عجبوا وحمدوا الله الذي أراهم آية للبعث فيهم ، ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه . ثم دخلوا على الفتية الكهف ، فوجودهم جلوسا بين ظهريه ، مُشرقة وجوههم ، لم تبل ثيابهم . فخرّ أريوس وأصحابه سجودا ، وحمدوا الله الذي أراهم آية من آياته . ثم كلم بعضهم بعضا ، وأنبأهم الفتية عن الذين لقوا من ملكهم دقينوس ذلك الجبار الذي كانوا هربوا منه . ثم إن أريوس وأصحابه بعثوا بريدا إلى ملكهم الصالح تيذوسيس ، أن عَجّل لعلك تنظر إلى آية من آيات الله ، جعلها الله على ملكك ، وجعلها آية للعالمين ، لتكون لهم نورا وضياء ، وتصديقا بالبعث ، فاعجل على فتية بعثهم الله ، وقد كان توفاهم منذ أكثر من ثلاث مئة سنة .
فلما أتى الملك تيذوسيس الخبر ، قام من المَسْندة التي كان عليها ، ورجع إليه رأيه وعقله ، وذهب عنه همه ، ورجع إلى الله عزّ وجلّ ، فقال : أحمدك اللهمّ ربّ السموات والأرض ، أعبدك ، وأحمدك ، وأسبح لك تطوّلت عليّ ، ورحمتني برحمتك ، فلم تطفىء النور الذي كنت جعلته لاَبائي ، وللعبد الصالح قسطيطينوس الملك ، فلما نبأ به أهل المدينة ركبوا إليه ، وساروا معه حتى أتوا مدينة أفسوس ، فتلقاهم أهل المدينة ، وساروا معه حتى صعدوا نحو الكهف حتى أتوه فلما رأى الفتية تيذوسيس ، فرحوا به ، وخرّوا سجودا على وجوههم وقام تيذوسيس قدامهم ، ثم اعتنقهم وبكى ، وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبحون الله ويحمدونه ، ويقول : والله ما أشبه بكم إلا الحواريون حين رأوا المسيح . وقال : فرج الله عنكم ، كأنكم الذي تُدْعَون فتحْشَرون من القبور فقال الفتية لتيذوسيس : إنا نودّعك السلام ، والسلام عليك ورحمة الله ، حفظك الله ، وحفظ لك ملكك بالسلام ، ونعيذك بالله من شرّ الجنّ والإنس فأمر بعيش من خُلّر ونشيل . إن أسوأ ما سلك في بطن الإنسان أن لا يعلم شيئا إلا كرامة إن أكرم بها ، ولا هوان إن أهين به .
فبينما الملك قائم ، إذ رجعوا إلى مضاجعهم ، فناموا ، وتوفي الله أنفسهم بأمره . وقام الملك إليهم ، فجعل ثيابه عليهم ، وأمر أن يجعل لكلّ رجل منهم تابوت من ذهب فلما أَمْسَوا ونام ، أتوه في المنام ، فقالوا : إنا لم نخلق من ذهب ولا فضة ، ولكنا خُلقنا من تراب وإلى التراب نصير ، فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله منه فأمر الملك حينئذٍ بتابوت من ساج ، فجعلوهم فيه ، وحجبهم الله حين خرجوا من عندهم بالرعب ، فلم يقدر أحد على أن يدخل عليهم . وأمر الملك فجعل كهفهم مسجدا يُصَلّى فيه ، وجعل لهم عيدا عظيما ، وأمر أن يؤتى كلّ سنة . فهذا حديث أصحاب الكهف .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن عبد العزيز بن أبي روّاد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، قال : بعثهم الله يعني الفتية أصحاب الكهف وقد سلط عليهم ملك مسلم ، يعني على أهل مدينتهم وسلّط الله على الفتية الجوع ، فقال قائل منهم : كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ قال : فردّوا علم ذلك إلى الله ، قالُوا رَبّكُمْ أعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فابْعَثُوا أحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إلى المَدِينَةِ وإذا معهم ورِق من ضرب الملك الذي كانوا في زمانه فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ : أي بطعام وَلا يُشْعِرَنّ بِكُمْ أحَدا . فخرج أحدهم فرأى المعالم متنكرة حتى انتهى إلى المدينة ، فاستقبله الناس لا يعرف منهم أحدا فخرج ولا يعرفونه ، حتى انتهى إلى صاحب الطعام ، فسامه بطعامه ، فقال صاحب الطعام : هات ورقك فأخرج إليه الورق ، فقال : من أين لك هذا الورق ؟ قال : هذه ورِقُنا وورِق أهل بلادنا فقال : هيهات هذه الورِق من ضرب فلان بن فلان منذ ثلاث مئة وتسع سنين أنت أصبت كنزا ولست بتاركك حتى أرفعك إلى الملك . فرفعه إلى الملك ، وإذا الملك مسلم وأصحابه مسلمون ، ففرح واستبشر ، وأظهر لهم أمره ، وأخبرهم خبر أصحابه فبعثوا إلى اللوح في الخزانة ، فأتوا به ، فوافق ما وصف من أمرهم ، فقال المشركون : نحن أحقّ بهم هؤلاء أبناء آبائنا ، وقال المسلمون : نحن أحقّ بهم ، هم مسلمون منا . فانطلقوا معه إلى الكهف فلما أتوا باب الكهف قال : دعوني حتى أدخل على أصحابي حتى أبشرهم ، فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم فدخل فبشّرهم ، وقبض الله أرواحهم . قال : وعمى الله عليهم مكانهم ، فلم يهتدوا ، فقال المشركون : نبني عليهم بُنيانا ، فإنهم أبناء آبائنا ، ونعبد الله فيها . وقال المسلمون : نحن أحقّ بهم ، هم منا ، نبني عليهم مسجدا نصلي فيه ، ونعبد الله فيه .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي قول من قال : إن الله تعالى بعثهم من رقدتهم ليتساءلوا بينهم كما بيّنا قبل ، لأن الله عزّ ذكره ، كذلك أخبر عباده في كتابه ، وإن الله أعثر عليهم القوم الذين أعثرهم عليهم ، ليتحقق عندهم ببعث الله هؤلاء الفتية من رقدتهم بعد طول مدتها بهيئتهم يوم رقدوا ، ولم يشيبوا على مرّ الأيام والليالي عليهم ، ولم يهرَموا على كرّ الدهور والأزمان فيهم قدرته على بعث من أماته في الدنيا من قبره إلى موقف القيامة يوم القيامة ، لأن الله عزّ ذكره بذلك أخبرنا ، فقال : وكذلكَ أعْثَرنْا عَلَيْهمْ لِيَعْلَمُوا أنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وأنّ السّاعَة لا رَيْبَ فِيها .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : فابْعَثُوا أحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ فقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل المدينة وبعض العراقيين بِوَرِقِكُمْ هذِهِ بفتح الواو وكسر الراء والقاف . وقرأ عامّة قرّاء الكوفة والبصرة : «بوَرْقِكُمْ » بسكون الراء ، وكسر القاف . وقرأه بعض المكيين بكسر الراء ، وإدغام القاف في الكاف ، وكلّ هذه القراءات متفقات المعاني ، وإن اختلفت الألفاظ منها ، وهنّ لغات معروفات من كلام العرب ، غير أن الأصل في ذلك فتح الواو وكسر الراء والقاف ، لأنه الوَرِق ، وما عدا ذلك فإنه داخل عليه طلب التخفيف . وفيه أيضا لغة أخرى وهو «الوَرْق » ، كما يقال للكَبِد كَبْدَ . فإذا كان ذلك هو الأصل ، فالقراءة به إليّ أعجب ، من غير أن تكون الأخريان مدفوعة صحتهما ، وقد ذكرنا الرواية بأن الذي بُعث معه بالوَرِق إلى المدينة كان اسمه يمليخا . وقد :
حدثني عبيد الله بن محمد الزهري ، قال : حدثنا سفيان ، عن مقاتل فابْعَثُوا أحَدَكُمْ بوَرِقِكُمْ هَذِهِ اسمه يمليخ .
وأما قوله : فَلْيَنْظُرْ أيّها أزْكَى طَعاما فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله فقال بعضهم : معناه فلينظر أيّ أهل المدينة أكثر طعاما . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن عكرِمة أيّها أزْكَى طَعاما قال : أكثر .
وحدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي حُصَين ، عن عكرِمة مثله ، إلا أنه قال : أيّهُ أكْثَرُ .
وقال آخرون : بل معناه : أيها أحلّ طعاما . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : أيّها أزْكَى طَعاما قال : أحلّ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، مثله .
وقال آخرون : بل معناه : أيها خير طعاما . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : أزْكَى طَعاما قال : خير طعاما .
وأولى الأقوال عندي في ذلك بالصواب : قول من قال : معنى ذلك : أحلّ وأطهر ، وذلك أنه لا معنى في اختيار الأكثر طعاما للشراء منه إلا بمعنى إذا كان أكثرهم طعاما ، كان خليقا أن يكون الأفضل منه عنده أوجد ، وإذا شرط على المأمور الشراء من صاحب الأفضل ، فقد أمر بشراء الجيد ، كان ما عند المشتري ذلك منه قليلاً الجيد أو كثيرا ، وإنما وجه من وجه تأويل أزكى إلى الأكثر ، لأنه وجد العرب تقول : قد زكا مال فلان : إذا كثر ، وكما قال الشاعر :
قَبائِلُنا سَبْعٌ وأنُتُمْ ثَلاثَةٌ *** وَللسّبْعُ أزْكَى مِنْ ثَلاثٍ وأطْيَبُ
بمعنى : أكثر ، وذلك وإن كان كذلك ، فإن الحلال الجيد وإن قلّ ، أكثر من الحرام الخبيث وإن كثر . وقيل : فَلْيَنْظُرْ أيّها فأضيف إلى كناية المدينة ، والمراد بها أهلها ، لأن تأويل الكلام : فلينظر أيّ أهلها أزكى طعاما لمعرفة السامع بالمراد من الكلام . وقد يُحتمل أن يكونوا عنوا بقولهم أيّها أزْكَى طَعاما : أيها أحلّ ، من أجل أنهم كانوا فارقوا قومهم وهم أهل أوثان ، فلم يستجيزوا أكل ذبيحتهم .
وقوله : فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ يقول : فليأتكم بقوت منه تقتاتونه ، وطعام تأكلونه ، كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن عبد العزيز بن أبي روّاد ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ قال : بطعام .
وقوله : وَلْيَتَلَطّفْ يقول : وليترفق في شرائه ما يشتري ، وفي طريقه ودخوله المدينة وَلا يُشْعِرَنّ بِكُمْ أحَدا يقول : ولا يعلمنّ بكم أحدا من الناس .
{ وكذلك بعثناهم } وكما أنمناهم آية بعثناهم آية على كمال قدرتنا . { ليتساءلوا بينهم } ليسأل بعضهم بعضا فتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم فيزدادوا يقينا على كمال قدرة الله تعالى ، ويستبصروا به أمر البعث ويشركوا ما أنعم الله به عليهم . { قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم } بناء على غالب ظنهم لأن النائم لا يحصي مدة نومه ولذلك أحالوا العلم إلى الله تعالى . { قالوا ربكم أعلم بما لبثتم } ويجوز أن يكون ذلك قول بعضهم وهذا إنكار الآخرين عليهم . وقيل إنهم دخلوا الكهف غدوة وانتبهوا ظهيرة وظنوا أنهم في يومهم أو اليوم الذي بعده قالوا ذلك ، فلما نظروا إلى طول أظفارهم وأشعارهم قالوا هذا ثم لما علموا أن الأمر ملتبس لا طريق لهم إلى علمه أخذوا فيما يهمهم وقالوا : { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة } والورق الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة ، وقرأ أبو بكر وأبو عمرو وحمزة وروح عن يعقوب بالتخفيف . وقرئ بالتثقيل وإدغام القاف في الكاف وبالتخفيف مكسور الواو مدغما وغير مدغم ، ورد المدغم لالتقاء الساكنين على غير حده ، وحملهم له دليل على أن التزود رأي المتوكلين والمدينة طرسوس . { فلينظر أيُّها } أي أهلها . { أزكى طعاما } أحل وأطيب أو أكثر وأرخص . { فليأتكم برزقٍ منه وليتلطّف } وليتكلف اللطف في المعاملة حتى لا يغبن ، أو في التخفي حتى لا يعرف . { ولا يشعرنّ بكم أحداً } ولا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور .
عطف لجزء من القصة الذي فيه عبرة لأهل الكهف بأنفسهم ليعلموا من أكرمهم الله به من حفظهم عن أن تنالهم أيدي أعدائهم بإهانة ، ومن إعلامهم علم اليقين ببعض كيفية البعث ، فإن علمه عظيم وقد قال إبراهيم { رب أرني كيف تحيي الموتى } [ البقرة : 260 ] .
والإشارة بقوله : { وكذلك } إلى المذكور من إنامتهم وكيفيتها ، أي كما أنمناهم قروناً بعثناهم . ووجه الشبه : أن في الإفاقة آية على عظيم قدرة الله تعالى مثل آية الإنامة .
ويجوز أن يكون تشبيه البعث المذكور بنفسه للمبالغة في التعجيب كما تقدم في قوله : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } [ البقرة : 143 ] .
وتقدم الكلام على معنى البعث في الآية المتقدمة ، وفي حسن موقع لفظ البعث في هذه القصة ، وفي التعليل من قوله : ليتساءلوا } عند قوله : { ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى } [ الكهف : 12 ] . والمعنى : بعثناهم فتساءلوا بينهم .
وجملة { قال قائل منهم } بيان لجملة { ليتساءلوا } . وسميت هذه المحاورة تساؤلاً لأنها تحاور عن تطلب كل رأيَ الآخر للوصول إلى تحقيق المدة . و الذين قالوا : { لبثنا يوماً أو بعض } هم مَن عدا الذي قال : { كم لبثتم } .
وأسند الجواب إلى ضمير جماعتهم : إما لأنهم تواطؤوا عليه ، وإما على إرادة التوزيع ، أي منهم من قال : لبثنا يوماً ، ومنهم قال : لبثنا بعض يوم . وعلى هذا يجوز أن تكون ( أو ) للتقسيم في القول بدليل قوله بعد { قالوا ربكم أعلم بما لبثتم } ، أي لما اختلفوا رجعوا فعدلوا عن القول بالظن إلى تفويض العلم إلى الله تعالى ، وذلك من كمال إيمانهم . فالقائلون { ربكم أعلم بما لبثتم } يجوز أن يكون جميعهم وهو الظاهر . ويجوز أن يكون قول بعضهم فأسند إليهم لأنهم رأوه صواباً .
وتفريع قولهم : { فابعثوا أحدكم } على قولهم : { ربكم أعلم بما لبثتم } لأنه في معنى فدَعُوا الخوض في مدة اللبث فلا يعلمها إلا الله وخذوا في شيء آخر مما يهمكم ، وهو قريب من الأسلوب الحكيم . وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب تنبيهاً على أن غيره أولى بحاله ، ولولا قولهم : { ربكم أعلم بما لبثتم } لكان قولهم : { فابعثوا أحدكم } عين الأسلوب الحكيم .
والوَرِق بفتح الواو وكسر الراءِ : الفضة . وكذلك قرأه الجمهور . ويقال وَرْق بفتح الواو وسكون الراء وبذلك قرأ أبوعمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم ورَوح عن يعقوب وخلف . والمراد بالورق هنا القطعة المسكوكة من الفضة ، وهي الدراهم قيل : كانت من دراهم ( دقيوس ) سلطان الروم .
والإشارة بهذه إلى دَراهم معينة عندهم ، والمدينة هي ( أبْسُسْ ) بالباء الموحدة . وقد قدمنا ذكرها في صدر القصة .
و { أيها } ما صدقه أي مكان من المدينة ، لأن المدينة كل له أجزاء كثيرة منها دكاكين الباعة ، أي فلينظر أي مكان منها هو أزكى طعاماً ، أي أزكى طعامُه من طعام غيره .
وانتصب { طعاماً } على التمييز لنسبة ( أزكى ) إلى ( أي ) .
والأزكى : الأطْيب والأحسن ، لأن الزّكْوَ الزيادة في الخير والنفع .
والرزق : القوت . وقد تقدم عند قوله تعالى : { قال لا يأتيكما طعام ترزقانه } في سورة يوسف ( 37 ) ، والفاء لتفريع أمرهم مَن يبعثونه بأن يأتي بطعام زكي وبأن يتلطف .
وصيغة الأمر في قوله : { فليأتكم } و { ليتلطف } أمر لأحدٍ غير معين سيوكَلونه ، أي أن تبعثوه يأتكم برزق ، ويجوز أن يكون المأمور معيناً بينهم وإنما الإجمال في حكاية كلامهم لا في الكلام المحكي . وعلى الوجهين فهم مأمورون بأن يوصوه بذلك .
قيل التاء من كلمة { وليتلطف } هي نصف حروف القرآن عَدًّا . وهنالك قول اقتصر عليه ابن عطية هو أن النون من قوله تعالى : { لقد جئت شيئاً نكراً } [ الكهف : 74 ] هي نصف حروف القرآن .
والإشعار : الإعلام ، وهو إفعال من شَعَر من باب نصر وكَرُم شُعوراً ، أي علم . فالهمزة للتعدية مثل همزة أعلم } من علم الذي هو عِلم العرفان يتعدى إلى واحد .
وقوله : { بكم } متعلق ب { يُشعِرَنَّ } . فمدخول الباء هو المشعور ، أي المعلوم . والمعلوم إنما يكون معنى من المعاني متعلق الضمير المجرور بفعل { يشعرن } من قبيل تعليق الحكم بالذات ، والمراد بعض أحوالها . والتقدير : ولا يخبرن بوجودكم أحداً . فهنا مضاف محذوف دلت عليه دلالة الاقتضاء فيشمل جميع أحوالهم من عددهم ومكانهم وغير ذلك . والنون لتوكيد النهي تحذيراً من عواقبه المضمنة في جملة { إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم } الواقعة تعليلاً للنهي ، وبياناً لوجه توكيد النهي بالنون ، فهي واقعة موقع العلة والبيان ، وكلاهما يقتضي فصلها عما قبلها .