لطائف الإشارات للقشيري - القشيري  
{وَكَذَٰلِكَ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِيَتَسَآءَلُواْ بَيۡنَهُمۡۚ قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۚ قَالُواْ رَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثۡتُمۡ فَٱبۡعَثُوٓاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَٰذِهِۦٓ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ فَلۡيَنظُرۡ أَيُّهَآ أَزۡكَىٰ طَعَامٗا فَلۡيَأۡتِكُم بِرِزۡقٖ مِّنۡهُ وَلۡيَتَلَطَّفۡ وَلَا يُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا} (19)

استقلوا مدة لُبْثهم وقد لَبِثُوا ( طويلاً ) ، لكنهم كانوا مأخوذين عنهم ، ولم يكن لهم عِلْمٌ بتفصيل أحوالهم ، قال قائلهم :

لست أدري أطال لَيْلِي أم لا ؟ *** كيف يدري بذاك من يتقلَّى ؟

لو تَفَرَّغْتُ لاستطالةِ لَيْلِي *** ورغيت النجومَ كنتُ مُخِلاَّ

ويقال أيامُ الوصالِ عندهم قليلة - وإنْ كانت طويلة ، ولو كان الحال بالضدِّ لكان الأمر بالعكس ، وأنشدوا :

صَبَاحُكَ سُكْرٌ والمِساءُ خُمار *** نَعِمْتَ وأيامُ السرورِ قصارُ

قوله جلّ ذكره : { يَومٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } .

لأنه هو الذي خَصَّكُم بما به أقامكم .

قوله جلّ ذكره : { فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوِرِقِكُمْ هَِذهِ إِلَى المَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامَاً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ } .

ما داموا مأخوذين عنهم لم يكن لهم طلبٌ لأكل ولا شربٍ ولا شيء من صفة النَّفْس ، فلمَّا رُدُّوا إلى التمييز أخذوا في تدبير الأكل أَوَّلَ ما أحسوا بحالهم ، وفي هذا دلالة على شدة ابتداء الخَلْق بالأكل .

قوله جلّ ذكره : { وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } .

تَوَاصَوْا فيما بينهم بحسن التَّخَلقِ وجميل الترفُّقِ ، أي ليتلطف مع من يشتري منه شيئاً .

ويقال أوصوا مَنْ يشتري لهم الطعامَ أَنْ يأتيهم بألطف شيءٍ وأطيبِه ، ومن كان من أهل المعرفة لا يوافقه الخشن من الملبوس ولا المبتذل في المطعم من المأكول .

ويقال أهل المجاهدات وأصحاب الرياضات طعامهم الخشن ولباسهم كذلك والذي بلغ المعرفة لا يوافقه إلا كل لطيف ، ولا يستأنس إلا بكل مليح .