إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَكَذَٰلِكَ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِيَتَسَآءَلُواْ بَيۡنَهُمۡۚ قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۚ قَالُواْ رَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثۡتُمۡ فَٱبۡعَثُوٓاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَٰذِهِۦٓ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ فَلۡيَنظُرۡ أَيُّهَآ أَزۡكَىٰ طَعَامٗا فَلۡيَأۡتِكُم بِرِزۡقٖ مِّنۡهُ وَلۡيَتَلَطَّفۡ وَلَا يُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا} (19)

{ وكذلك بعثناهم } أي كما أنمناهم وحفِظنا أجسادَهم من البِلى والتحلّل آيةً دالةً على كمال قدرتِنا بعثناهم من النوم { لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ } أي ليسأل بعضُهم بعضاً فيترتب عليه ما فُصّل من الحِكَم البالغةِ ، وجعلُه غايةً للبعث المعلّل فيما سبق بالاختبار من حيث إنه من أحكامه المترتبةِ عليه والاقتصارُ على ذكره لاستتباعه لسائر آثارِه { قَالَ } استئنافٌ لبيان تساؤلِهم { قَائِلٌ مّنْهُمْ } هو رئيسُهم واسمُه مكسلمينا { كَمْ لَبِثْتُمْ } في منامكم ، لعله قاله لِما رأى من مخالفة حالِهم لما هو المعتادُ في الجملة { قَالُواْ } أي بعضُهم { لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } قيل : إنما قالوه لأنهم دخلوا الكهفَ غُدوةً وكان انتباهُهم آخرَ النهار ، فقالوا : لبثنا يوماً ، فلما رأَوا أن الشمسَ لم تغرُبْ بعْدُ ، قالوا : أو بعضَ يوم ، وكان ذلك بناءً على الظن الغالب فلم يُعْزوا إلى الكذب { قَالُواْ } أي بعضٌ آخرُ منهم بما سنح لهم من الأدلة أو بإلهام من الله سبحانه { رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } أي أنتم لا تعلمون مدة لبثِكم وإنما يعلمها الله سبحانه ، وهذا ردٌّ منهم على الأولين بأجملِ ما يكون من مراعاة حسنِ الأدب وبه يتحقق التحزبُ إلى الحزبين المعهودين فيما سبق ، وقد قيل : القائلون جميعُهم ولكن في حالتين ، ولا يساعده النظمُ الكريم فإن الاستئنافَ في الحكاية والخطابَ في المحكيّ يقضي بأن الكلامَ جارٍ على منهاج المحاورةِ والمجاوبةِ ، وإلا لقيل : ثم قالوا : ربنا أعلمُ بما لبثنا .

{ فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة } قالوه إعراضاً عن التعمق في البحث وإقبالاً على ما يُهمّهم بحسب الحالِ كما ينبئ عنه الفاءُ والورِقُ الفضةُ مضروبةً أو غيرَ مضروبة ، ووصفُها باسم الإشارةِ يُشعر بأن القائلَ ناولها بعضَ أصحابه ليشتريَ بها قوتَ يومِهم ذلك ، وقرئ بسكون الراء وبإدغام القافِ في الكاف وبكسر الواو وبسكون الراء مع الإدغام ، وحملُهم لها دليلٌ على أن التزودَ لا ينافي التوكلَ على الله تعالى { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا } أي أهلِها { أزكى } أحلُّ وأطيبُ أو أكثرُ وأرخصُ { طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مّنْهُ } أي من ذلك الأزكى طعاماً { وَلْيَتَلَطَّفْ } وليتكلّف اللُّطفَ في المعاملة كيلا يُغبَنَ أو في الاستخفاء لئلا يُعرَف { وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا } من أهل المدينةِ فإنه يستدعي شيوعَ أخبارِكم أي لا يفعلنّ ما يؤدّي إلى ذلك ، فالنهيُ على الأول تأسيسٌ وعلى الثاني تأكيدٌ للأمر بالتلطف .