قوله تعالى : { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم } يعني : أعمال الذين كفروا بربهم - كقوله تعالى : { ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة } [ الزمر-60 ] أي : ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة ، { كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف } ، وصف اليوم بالعصوف ، والعصوف من صفة الريح لأن الريح تكون فيها ، كما يقال : يوم حار ويوم بارد ، لأن الحر والبرد فيه . وقيل : معناه : في يوم عاصف الريح ، فحذف الريح لأنها قد ذكرت من قبل . وهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار ، يريد : أنهم لا ينتفعون بأعمالهم التي عملوها في الدنيا لأنهم أشركوا فيها غير الله كالرماد الذي ذرته الريح لا ينتفع به ، فذلك قوله تعالى : { لا يقدرون } ، يعني : الكفار { مما كسبوا } ، في الدنيا ، { على شيء } ، في الآخرة ، { ذلك هو الضلال البعيد } .
{ 18 } { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ }
يخبر تعالى عن أعمال الكفار التي عملوها : إما أن المراد بها الأعمال التي عملوها لله ، بأنها في ذهابها وبطلانها واضمحلالها كاضمحلال الرماد ، الذي هو أدق الأشياء وأخفها ، إذا اشتدت به الريح في يوم عاصف شديد الهبوب ، فإنه لا يبقى منه شيئا ، ولا يقدر منه على شيء يذهب ويضمحل ، فكذلك أعمال الكفار { لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ } ولا على مثقال ذرة منه لأنه مبني على الكفر والتكذيب .
{ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ } حيث بطل سعيهم واضمحل عملهم ، وإما أن المراد بذلك أعمال الكفار التي عملوها ليكيدوا بها الحق ، فإنهم يسعون ويكدحون في ذلك ومكرهم عائد عليهم ولن يضروا الله ورسله وجنده وما معهم من الحق شيئا .
ثم ضرب - سبحانه - مثلاً لأعمال الكافرين فى حبوطها وذهابها يوم القيامة ، وساق الأدلة الدالة على قدرته القاهرة ، وصور أحوال الكافرين يوم يقوم الناس لرب العالمين ، وحكى ما يقوله الضعفاء للمستكبرين وما يقوله الشيطان لأتباعه فى هذا اليوم العصيب ، وما أعده الله للمؤمنين الصادقين فى هذا اليوم فقال - تعالى - :
{ مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ . . . } .
قال الإِمام الرازى : " اعلم أنه - تعالى - لما ذكر أنواع عذابهم فى الآية المتقدمة ، بين فى هذه الآية وهى قوله - تعالى - { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ . . . } أن أعمالهم بأسرها ضائعة باطلة ، لا ينتفعون بشئ منها . وعند هذا يظهر كمال خسرانهم ، لأنهم لا يجدون فى القيامة إلا العقاب الشديد وكل ما عملوه فى الدنيا وجدوه ضائعاً باطلاً " .
والمثل : النظير والشبيه . ثم أطلق على القول السائر المعروف ، لمماثلة مضربه بمورده ، ولا يكون إلا فيما فيه غرابة ، ثم استعير للصفة ، أو الحال ، أو القصة إذا كان لها شأن عجيب ، وفيها غرابة .
والمراد بأعمال الذين كفروا فى الآية الكريمة : ما كانوا يقومون به فى الدنيا من أعمال حسنة كإطعام الطعام ، ومساعدة المحتاجين ، وإكرام الضيف ، إلى غير ذلك من الأعمال الطيبة .
والرماد : ما يتبقى من الشئ بعد احتراق أصله ، كالمتبقى من الخشب أو الحطب بعد احتراقهما .
والعاصف : من العصف وهو اشتداد الريح ، وقوة هبوبها .
قال الجمل : " وقوله : { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ . . . } فيه أوجه للإِعراب : أحدها وهو مذهب سيبويه : أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره : فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا ، وتكون الجملة من قوله { أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ . . . } مستأنفة جواب لسؤال مقدر ، كأنه قيل : كيف مثلهم . . ؟ فقيل : كيت وكيت .
والثانى : أن يكون " مثل " مبتدأ و " أعمالهم " مبتدأ ثان ، و " كرماد " خبر المبتدأ الثانى ، والمبتدأ الثانى وخبره خبر المبتدأ الأول . . . "
والمعنى : حال أعمال الذين كفروا فى حبوطها وذهابها وعدم انتفاعهم بشئ منها فى الآخرة ، كحال الرماد المكدس الذي أتت عليه الرياح العاصفة ، فمحقته وبددته ، ومزقته تمزيقاً لا يجرى معه اجتماع .
فالآية الكريمة تشبيه بليغ لما يعمله الكافرون فى الدنيا من أعمال البر والخير .
ووجه الشبه : الضياع والتفرق وعدم الانتفاع فى كل ، فكما أن الريح العاصف تجعل الرماد هباء منثورا ، فكذلك أعمال الكافرين فى الآخرة تصير هباء منثوراً ، لأنها أعمال بنيت على غير أساس من الإِيمان وإخلاص العبادة لله - تعالى - .
ووصف - سبحانه - اليوم بأنه عاصف - مع أن العصف شدة الريح - للمبالغة فى وصف زمانها - وهو اليوم - بذلك : ما يقال : يوم حار ويوم بارد ، مع أن الحر والبرد فيهما وليس منهما .
وقوله - سبحانه - { لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ } بيان للمقصود من التشبيه ، وهو أن هؤلاء الكافرين ، لا يقدرون يوم القيامة ، على الانتفاع بشئ مما فعلوه فى الدنيا من أفعال البر والخير ، لأن كفرهم أحبطها فذهب سدى دون أن يستفيدوا منها ثواباً ، أو تخفف عنهم عذاباً .
قال الآلوسى : " وفى الصحيح عن عائشة - رضى الله عنها - أنها قالت :
" يا رسول الله . إن ابن جدعان فى الجاهلية كان يصل الرحم ، ويطعم المسكين ، هل ذلك نافعة ؟ قال : " لا ينفعه ؛ لأنه لم يقل رب اغفر لى خطيئتى يوم الدين " " .
وقال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : " هذا مثل ضربة الله - تعالى - لأعمال الكفار الذين عبدوا مع الله غيره ، وكذبوا رسله ، وبنوا أعمالهم على غير أساس صحيح ، فانهارت وعدموها وهم أحوج ما كانوا إليها . . .
كما قال - تعالى - { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } وكما قال تعالى - { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذه الحياة الدنيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } واسم الإِشارة فى قوله { ذلك هُوَ الضلال البعيد } يعود إلى ما دل عليه التمثيل من بطلان أعمالهم ، وذهاب أثرها .
أى : ذلك الحبوط لأعمالهم ، وعدم انتفاعهم بشئ منها ، هو الضلال البعيد .
أى : البالغ أقصى نهايته ، والذى ينتهى بصاحبه إلى الهلاك والعذاب المهين .
ووصف - سبحانه - الضلال بالبعد ، لأنه يؤدى إلى خسران لا يمكن تداركه ، ولا يرجى الخلاص منه .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ، بعض مظاهر قدرته التى لا يعجزها شئ فقال - تعالى - : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذه الحياة الدنيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } .
واسم الإِشارة فى قوله { ذلك هُوَ الضلال البعيد } يعود إلى ما دل عليه التمثيل من بطلان أعمالهم ، وذهاب أثرها .
أى : ذلك الحبوط لأعمالهم ، وعدم انتفاعهم بشئ منها ، هو الضلال البعيد .
أى : البالغ أقصى نهايته ، والذى ينتهى بصاحبه إلى الهلاك والعذاب المهين .
ووصف - سبحانه - الضلال البعيد ، لأنه يؤدى إلى خسران لا يمكن تداركه ، ولا يرجى الخلاص منه .
وفي ظل هذا المصير يجيء التعقيب مثلا مصورا في مشهد يضرب الذين كفروا ، ولفتة إلى قدرة الله على أن يذهب المكذبين ويأتي بخلق جديد . . ذلك قبل أن يتابع مشاهد الرواية في الساحة الأخرى ، وقد أسدل الستار على فصلها الأخير في هذه الأرض ، مخايلا بالساحة الأخرى :
( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف . لا يقدرون مما كسبوا على شيء . ذلك هو الضلال البعيد ) . .
ومشهد الرماد تشتد به الريح في يوم عاصف مشهود معهود ، يجسم به السياق معنى ضياع الأعمال سدى ، لا يقدر أصحابها على الإمساك بشيء منها ، ولا الانتفاع به أصلا . يجسمه في هذا المشهد العاصف المتحرك ، فيبلغ في تحريك المشاعر له ما لا يبلغه التعبير الذهني المجرد عن ضياع الأعمال وذهابها بددا .
هذا المشهد ينطوي على حقيقة ذاتية في أعمال الكفار . فالأعمال التي لا تقوم على قاعدة من الإيمان ، ولا تمسكها العروة الوثقى التي تصل العمل بالباعث ، وتصل الباعث بالله . . مفككة كالهباء والرماد ، لا قوام لها ولا نظام . فليس المعول عليه هو العمل ، ولكن باعث العمل . فالعمل حركة آلية لا يفترق فيها الإنسان عن الآلة إلا بالباعث والقصد والغاية .
وهكذا يلتقي المشهد المصور مع الحقيقة العميقة ، وهو يؤدي المعنى في أسلوب مشوق موح مؤثر . ويلتقي معها التعقيب :
فهو تعقيب يتفق ظله مع ظل الرماد المتطاير في يوم عاصف . . إلى بعيد ! !
{ مّثَلُ الّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدّتْ بِهِ الرّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاّ يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُواْ عَلَىَ شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضّلاَلُ الْبَعِيدُ } .
( شا اختلف أهل العربية في رافع مَثَلُ ، فقال بعض نحويّي البصرة : إنما هو كأنه قال : ومما نقصّ عليك مَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا ، ثم أقبل يفسر كما قال : مَثَلُ الجَنّة ، وهذا كثير . وقال بعض نحوّيي الكوفيين : إنما المَثَل للأعمال ، ولكن العرب تُقَدّم الأسماء لأنها أعرف ، ثم تأتي بالخبر الذي تخبر عنه مع صاحبه . معنى الكلام : مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرَماد ، كما قيل : وَيَوْمَ القِيامَةِ تَرى الّذِين كَذَبُوا على اللّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدّةٌ ومعنى الكلام : ترى ويوم القيامة وجوه الذين كذبوا على الله مسودّة . قال : ولو خفض الأعمال جاز ، كما قال : يَسْألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ . . . الاَية . وقوله : مَثَلُ الجَنّةِ التي وُعِدَ المُتّقُونَ تَجْرِفي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ قال : فتجري هو في موضع الخبر ، كأنه قال : أن تجريَ ، وأن يكون كذا وكذا ، فلو أدخل «أن » جاز ، قال : ومنه قول الشاعر :
ذَرِيني إنّ أمْرَكِ لَنْ يُطاعا *** وَما ألْفَيْتِني حِلْمِي مُضَاعَا
قال : فالحلم منصور ب «ألفيت » على التكرير ، قال : ولو رفعه كان صوابا . قال : وهذا مثَل ضربه الله لأعمال الكفّار ، فقال : مثل أعمال الذين كفروا يوم القيامة التي كانوا يعملونها في الدنيا يزعمون أنهم يريدون الله بها ، مثل رماد عصفت الريح عليه في يوم ريح عاصف ، فنسفته وذهبت به ، فكذلك أعمال أهل الكفر به يوم القيامة ، لا يجدون منها شيئا ينفعهم عند الله فينجيهم من عذابه ، لأنهم لم يكونوا يعملونها لله خالصا ، بل كانوا يشركون فيها الأوثان والأصنام ، يقول الله عزّ وجلّ : ذلكَ هُوَ الضّلالُ البَعِيدُ يعني أعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا التي يشركون فيها مع الله شركاء ، هي أعمال عُملت على غير هدى واستقامة ، بل على جَوْر عن الهدى بعيد ، وأخذ على غير استقامة شديد . وقيل : فِي يَوْمٍ عاصِفٍ فوُصف بالعُصوف ، وهو من صفة الريح ، لأن الريح تكون فيه كما يقال : يوم بارد ، ويوم حارّ ، لأن البرد والحرارة يكونان فيه وكما قال الشاعر :
ثديك سنة وجه غير مقرفةملساء ليس بها خال ولا ندب
وقوله : ذلكَ هُوَ الضّلالُ البَعيدُ : أي الخطأ البين البعيد عن طريق الحقّ .
{ مثل الذين كفروا بربهم } مبتدأ خبره محذوف أي فيما يتلى عليكم صفتهم التي هي مثل في الغرابة ، أو قوله { أعمالهم كرماد } وهو على الأول جملة مستأنفة لبيان مثلهم . وقيل { أعمالهم } بدل من ال { مثل } والخبر { كرماد } . { اشتدّت به الريح } حملته وأسرعت الذهاب به وقرأ نافع " الرياح " . { في يوم عاصفٍ } العصف اشتداد الريح وصف به زمانه للمبالغة كقولهم : نهاره صائم وليله قائم ، شبه صنائعهم من الصدقة وصلة الرحم وإغاثة الملهوف وعتق الرقاب ونحو ذلك من مكارمهم في حبوطها وذهابها هباء منثورا ، لبنائها على غير أساس من معرفة الله تعالى والتوجه بها إليه ، أو أعمالهم للأصنام برماد طيرته الريح العاصف . { فلا يقدرون } يوم القيامة . { مما كسبوا } من أعمالهم . { على شيء } لحبوطه فلا يرون له أثرا من الثواب وهو فذلكة التمثيل . { ذلك } إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنهم محسنون . { هو الضلال البعيد } فإنه الغاية في البعد عن طريق الحق .
اختلف في الشيء الذي ارتفع به قوله : { مثل } ، فمذهب سيبويه رحمه الله أن التقدير : فيما يتلى عليكم أو يقص : { مثل الذين كفروا } . ومذهب الكسائي والفراء : أنه ابتداء خبره { كرماد } والتقدير عندهم : مثل أعمال الذين كفروا كرماد ، وقد حكي عن الفراء : أنه يرى إلغاء { مثل } وأن المعنى : الذين كفروا أعمالهم كرماد ، وقيل : هو ابتداء و { أعمالهم } ابتداء ثان ، و { كرماد } خبر الثاني ، والجملة خبر الأول ، وهذا عندي أرجح الأقوال وكأنك قلت : المتحصل مثالاً في النفس للذين كفروا هذه الجملة المذكورة ، وهي : { أعمالهم كرماد } . وهذا يطرد عندي في قوله تعالى : { مثل الجنة } [ الرعد : 35 ، محمد : 15 ] . وشبهت أعمال الكفرة ومساعيهم في فسادها وقت الحاجة وتلاشيها بالرماد الذي تذروه الريح ، وتفرقه بشدتها حتى لا يبقى أثر ، ولا يجتمع منه شيء ، ووصف «اليوم » ب «العصوف » - وهي من صفة الريح بالحقيقة - لما كانت في اليوم ، ومن هذا المعنى قول الشاعر [ جرير ] :
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى . . . ونمت وما ليل المطي بنائم{[7039]}
يومين غيمين ويوماً شمساً{[7040]} . . . فأعمال الكفرة لتلاشيها لا يقدرون منها على شيء .
وقرأ نافع وحده وأبو جعفر «الرياح » والباقون «الريح » بالإفراد وقد تقدم هذا ومعناه مستوفى بحمد الله .
وقوله : { ذلك } إشارة إلى كونهم بهذه الحال ، وعلى مثل هذا الغرور ، و { الضلال البعيد } الذي قد تعمق فيه صاحبه وأبعد عن لاحب النجاة .
وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن أبي بكر{[7041]} «في يوم عاصف » بإضافة يوم إلى عاصف ، وهذا بين .