معاني القرآن للفراء - الفراء  
{مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡۖ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَرَمَادٍ ٱشۡتَدَّتۡ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوۡمٍ عَاصِفٖۖ لَّا يَقۡدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيۡءٖۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلَٰلُ ٱلۡبَعِيدُ} (18)

وقوله : { مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ 18 }

أضاف المَثَل إليهم ثم قال { أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ } والمَثَل للأعمال والعرب تفعل ذلك : قال الله عزّ وجلّ { وَيَوْمَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا على اللهِ وُجُوهُهُم مُسْوَدَّةٌ } والمعنى تَرى وجوهَهم مسودّة . وذلك عربيّ لأنهم يجدون المعنى في آخِر الكلمة فلا يبالونَ ما وقع على الاسم المبتدأ . وفيه أن تكُرَّ ما وقع على الاسم المبتدأ على الثاني كقوله { لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً } فأعِيدت اللام في البيوت لأنها التي تراد بالسقف ولو خفضت ولم تظهر اللام كان صَواباً كما قال الله عز وجل { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فيه } .

فلو خَفَض قارئ الأعمال فقال ( أعمالِهمْ كَرَمادٍ ) كان جائزاً ولم أسمعه في القراءة . وقد أنشدني بعضهم :

ما للجِمالِ مَشْيِها وئيداً *** أجندلاً يحملن أَم حديدَا

أراد ما للجمال ما لمشيها وئيداً . وقال الآخر :

ذرِيني إن أمركِ لن يطاعَا *** وما ألفيتنِي حِلِمي مُضَاعَا

فالحلم منصوب بالإلقاء على التكرير ولو رفعته كان صَوابا .

وقال { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } فجعل العصوف تابعاً لليوم في إعرابه ، وإنما العصُوف للريح . وذلك جائز على جهتين ، إحداهما أن العصوف وإن كان للريح فإن اليوم يوصف به ؛ لأن الريح فيه تكون ، فجاز أن تقول يوم عَاصف كما تقول : يوم بارد ويوم حارّ . وقد أنشدني بعضهم :

يومين غيمين ويوما شمساً *** . . .

فوصف اليومين بالغيمين وإنما يكون الغيم فيهما . والوجه الآخر أن يريد في يوم عَاصِفِ الريح فتحذف الريح لأنها قد ذكرت في أوّل الكلمة كما قال الشاعر :

فيضحكُ عرفانَ الدروع جلودُنا *** إذا جاء يوم مظلمُ الشمس كاسفُ

يريد كاسف الشمس فهذان وجهان . وإن نويت أن تجعل ( عاصف ) من نعت الريح خاصّةً فلما جاء بعد اليوم أتبعته إعراب اليوم وذلك من كلام العرب أن يُتبعوا الخفض الخفض إذا أشبهه .

قال الشاعر :

كأَنَّما ضربت قدّام أعينِها *** قُطْنا بمستحصِد الأوتار محلوج

وقال الآخر :

تريك سُنَّة وجه غيرِ مُقرفَةٍ *** مَلْسَاء ليس بها خال وَلاَ نَدَبُ

قال : سمعت الفراء قال : قلت لأبى ثَرْوان وقد أنشدني هذا البيت بخفضٍ : كَيف تقول : تُريك سُنَّة وجه غيرَ مقرفة ؟ قال : تريك سنّة وجه غَيْرَ مقرفة . قلت له : فأنشِد فخفض ( غير ) فَأعدت القول عَليه فقال : الذي تقول أنت أجود مما أقول أنا وكانَ إنشاده على الخفض . وقال آخر :

وإيَّاكم وحَيَّة بطنِ وادٍ *** هَمُوزِ الناب ليسَ لكم بِسِىّ

ومِما يرويه نحويُّونا الأوَّلون أن العرب تقول : هذا جُحْرُ ضَبّ خَرِبٍ . والوجه أن يقول : سُنَّةَ وجه غيْرَ مقرفة ، وحَيَّةَ بطنِ واد هموزَ الناب ، وهذا جُحْرٍ ضبّ خرِبٌ . وقد ذُكر عن يحيى بن وثَّاب أنه قرأ { إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّة المَتِينِ } فخفض المتين وبه أخَذ الأعمش . والوجه أن يرفع ( المتين ) أنشدني أبو الجَرّاح العُقَيليّ :

يا صاحِ بَلِّغ ذَوي الزوجَات كُلِّهم *** أن ليس وصلٌ إذا انحلّت عُرَا الذَنْب

فأتبع ( كلّ ) خفض ( الزوجات ) وهو منصوب لأنه نعت لذوي .