البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡۖ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَرَمَادٍ ٱشۡتَدَّتۡ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوۡمٍ عَاصِفٖۖ لَّا يَقۡدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيۡءٖۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلَٰلُ ٱلۡبَعِيدُ} (18)

الرماد معروف ، وقال ابن عيسى : هو جسم يسحقه الإحراق سحق الغبار ، ويجمع على رمد في الكثرة وأرمدة في القلة ، وشذ جمعه على أفعلاء قالوا : أرمداء ، ورماد رمدد إذا صار هباء أرق ما يكون .

{ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد } : ارتفاع مثل على الابتداء ، وخبره محذوف تقديره عند سيبويه : فيما يتلى عليكم ، أو يقص .

والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة ، وأعمالهم كرماد جملة مستأنفة على تقدير سؤال كأنه قيل : كيف مثلهم ؟ فقيل : أعمالهم كرماد ، كما تقول : صفة زيد عرضه مصون ، وماله مبذول .

وقال ابن عطية : ومذهب الكسائي والفراء أنه على إلغاء مثل ، وأنّ المعنى : الذين كفروا أعمالهم كرماد .

وقال الحوفي : مثل رفع بالابتداء ، وأعمالهم بدل من مثل بدل اشتمال .

كما قال الشاعر :

ما للجمال مشيها وئيداً *** أجندلا يحملن أم حديدا

وكرماد الخبر .

وقال الزمخشري : أو يكون أعمالهم بدلاً من مثل الذين كفروا على تقدير : مثل أعمالهم ، وكرماد الخبر .

وقال ابن عطية : وقيل هو ابتداء ، وأعمالهم ابتداء ثان ، وكرماد خبر للثاني ، والجملة خبر الأول .

وهذا عندي أرجح الأقوال ، وكأنك قلت : المتحصل مثالاً في النفس للذين كفروا هذه الجملة المذكورة وهي أعمالهم في فسادها وقت الحاجة ، وتلاشيها كالرماد الذي تذروه الريح ، وتفرقه بشدتها حتى لا يبقى له أثر ، ولا يجتمع منه شيء انتهى .

وهذا القول الذي رجحه ابن عطية قاله الحوفي ، وهو لا يجوز ، لأن الجملة الواقعة خبراً عن المبتدأ الأول الذي هو مثل عارية من رابط يعود على المثل ، وليست نفس المبتدأ في المعنى ، فلا تحتاج إلى رابط .

وأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم من صلة الأرحام ، وعتق الرقاب ، وفداء الأسارى ، وعقر الإبل للأضياف ، وإغاثة الملهوفين ، والإجارة ، وغير ذلك .

شبهها في حبوطها وذهابها هباءً منثوراً لبنائها على غير أساس من معرفة الله والإيمان به ، وكونها لوجهه برماد طيرته الريح العاصف .

وقرأ نافع ، وأبو جعفر : الرياح على الجمع ، والجمهور على الإفراد .

ووصف اليوم بيوم عاصف ، وإن كان من صفة الريح على سبيل التجوز ، كما قالوا : يوم ما حل وكيل نائم .

وقال الهروي : التقدير في يوم عاصف الريح ، فحذف لتقدم ذكرها كما قال الشاعر :

إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف *** يريد كاسف الشمس .

وقيل : عاصف من صفة الريح ، إلا أنه لما جاء بعد اليوم اتبع إعرابه كما قيل : جحر ضب خرب ، يعني : إنه خفض على الجوار .

وقرأ ابن أبي إسحاق ، وإبراهيم بن أبي بكر عن الحسن : في يوم عاصف على إضافة اليوم لعاصف ، وهو على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، تقديره : في يوم ريح عاصف .

وتقدم تفسير العصوف في يونس في قوله : { جاءتها ريح عاصف } وعلى قول من أجاز إضافة الموصوف إلى صفته يجوز أن تكون القراءة منه : لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء ، أي : لا يرون له أثراً من ثواب ، كما لا يقدر من الرماد المطير بالريح على شيء .

وقيل : لا يقدرون من ثواب ما كسبوا ، هو على حذف مضاف .

وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله ، إنّ ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم المسكين ، هل ذلك نافعه ؟ قال : «لا ينفعه لأنه لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين » وفي الصحيح أيضاً : " إن الكافر ليطعم بحسناته في الدنيا ما عمل لله منها " ذلك إشارة إلى كونهم بهذه الحال .

وعلى مثل هذا الغرر البعيد الذي يعمق فيه صاحبه ، وأبعد عن طريق النجاة ، والبعيد عن الحق ، أو الثواب .

وفي البقرة : { لا يقدرون مما كسبوا } على شيء من التفنن في الفصاحة ، والمغايرة في التقديم والتأخير ، والمعنى واحد .