معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (17)

قوله تعالى : { إنما التوبة على الله } قال الحسن : يعني التوبة التي يقبلها ، فيكون " على " بمعنى عند ، وقيل : من الله .

قوله تعالى : { للذين يعملون السوء بجهالة } . قال قتادة : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل ما عصي به الله فهو جهالة ، عمداً كان أو لم يكن . وكل من عصى الله فهو جاهل . وقال مجاهد : المراد من الآية العمد ، قال الكلبي : لم يجهل أنه ذنب لكنه جهل عقوبته . وقيل : معنى الجهالة : اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية .

قوله تعالى : { ثم يتوبون من قريب } . قيل : معناه قبل أن يحيط السوء بحسناته فيحبطها ، وقال السدي والكلبي : القريب : أن يتوب في صحته قبل مرض موته . وقال عكرمة : قبل الموت ، وقال الضحاك : قبل معاينة ملك الموت .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، أنا علي بن الجعد ، أنا ابن ثوبان وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، عن أبيه عن مكحول عن جبير بن نغير عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) .

وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أنا أبو جعفر محمد ابن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أنا حميد بن زنجويه ، أنا أبو الأسود ، أنا ابن لهيعة ، عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الشيطان قال : وعزتك يا رب ، لا أبرح أغوي عبادك مادامت أرواحهم في أجسادهم ، فقال الرب عز وجل : وعزتي وجلالي وارتفاعي في مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني .

قوله تعالى { فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما }

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (17)

{ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }

توبة الله على عباده نوعان : توفيق منه للتوبة ، وقبول لها بعد وجودها من العبد ، فأخبر هنا -أن التوبة المستحقة على الله حق أحقه على نفسه ، كرما منه وجودا ، لمن عمل السوء أي : المعاصي { بِجَهَالَةٍ } أي : جهالة منه بعاقبتها وإيجابها لسخط الله وعقابه ، وجهل منه بنظر الله ومراقبته له ، وجهل منه بما تئول إليه من نقص الإيمان أو إعدامه ، فكل عاص لله ، فهو جاهل بهذا الاعتبار وإن كان عالما بالتحريم . بل العلم بالتحريم شرط لكونها معصية معاقبا عليها { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } يحتمل أن يكون المعنى : ثم يتوبون قبل معاينة الموت ، فإن الله يقبل توبة العبد إذا تاب قبل معاينة الموت والعذاب قطعا . وأما بعد حضور الموت فلا يُقبل من العاصين توبة ولا من الكفار رجوع ، كما قال تعالى عن فرعون : { حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ } الآية . وقال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (17)

وبعد أن وصف - سبحانه - ذاته بأنه هو التواب الرحيم عقب ذلك ببيان من تقبل منهم التوب ، ومن لا تقبل منهم فقال : { إِنَّمَا التوبة . . . . . عَذَاباً أَلِيماً } .

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 17 ) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 18 )

والتوبة : هى الرجوع إلى الله - تعالى - وإلى تعاليم دينه بعد التقصير فيه مع الندم على هذا التقصير والعزم على عدم العودة إليه .

والمراد بها قبولها من العبد . فهى مصدر تاب عليه إذا قبل توبته .

والمراد من الجهالة فى قوله { يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ } : الجهل والسفه بارتكاب مالا يليق بالعاقل ، لا عدم العلم ، لأن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة .

قال مجاهد : كل من عصى الله عمداً أو خطأ فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته .

وقال قتادة : اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شئ عسى الله به فهو جهالة عما كان أو غيره .

قال - تعالى - حكاية عن يوسف - عليه السلام - : { رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين } وقال حكاية عن موسى - عليه السلام - { أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين } وقال - سبحانه - مخاطبا نوحا - عليه السلام - { فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين } ووجه تسمية العاصى جاهلا - وإن عصى عن علم - أنه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما عصى ربه ، فلما لم يستعمل هذا العلم صار كأنه لا علم له ، فسمى العاصى جاهلا لذلك ، سواء ارتكب المعصية مع العلم بكونها معصية أم لا .

والمعنى : إنما قبول التوبة كائن أو مستقر على الله - تعالى - لعباده الذين يعملون السوء ، ويقعون فى المعاصى بجهالة أى يعملون السوء جاهلين سفهاء ، لأن ارتكاب القبيح مما يدعو إليه السفه والشهوة ، لا مما تدعو إليه الحكمة والعقل .

وصدر - سبحانه - الآية الكريمة بإنما الدالة على الحصر ، للإِشعار بأن هؤلاء الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ، هم الذين يقبل الله توبتهم ، ويقيل عثرتهم .

وعبر - سبحانه - بلفظ على فقال : { إِنَّمَا التوبة عَلَى الله } للدلالة على تحقق الثبوت ، حتى لكأن قبول التوبة من هؤلاء الذين { يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } من الواجبات عليه ، لأنه - سبحانه - قد وعد بقبول التوبة ؛ وإذا وعد بشئ أنجزه ، إذ الخلف ليس من صفاته - تعالى - بل هو محال فى حقه - عز وجل - .

ولفظ { التوبة } مبتدأ . وقوله { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ } متعلق بمحذوف خبر . وقوله { عَلَى الله } متعلق بمحذوف صفة للتوبة .

أى : إنما التوبة الكائنة على الله للذين يعملون السوء بجهالة . . .

وقوله { بِجَهَالَةٍ } متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل { يَعْمَلُونَ } أى : يعملون السوء جاهلين سفهاء . أو متعلق بقوله { يَعْمَلُونَ } فتكون الباء للسببية أى : يعملون السوء بسبب الجهالة .

وقوله { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } أى ثم يتوبون فى زمن قريب من وقت عمل السوء ، ولا يسترسلون فى الشر استرسالا ويستمرئونه ويتعودون عليه بدون مبالاة بإرتكابه .

ولا شك أنه متى جدد الإنسان توبته الصادقة فى أعقاب ارتكاب للمعصية كان ذلك أرجى لقبولها عند الله - تعالى - وهذا ما يفيده ظاهر الآية . ومنهم من فسر قوله { مِن قَرِيبٍ } بما قبل حضور الموت . وإلى هذا المعنى ذهب صاحب الكشاف فقال : قوله : { مِن قَرِيبٍ } أى : من زمان قريب . والزمان القريب : ما قبل حضرة الموت ألا ترى إلى قوله { حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن } . فبين أن وقت الاحتضار هو الوقت الذى لا تقبل فيه التوبة ، فبقى ما وراء ذلك فى حكم القريب . وعن ابن عباس : قبل أن ينزل به سلطان الموت . وعن الضحاك : كل توبة قبل الموت فهى قريب . وفى الحديث الشريف : " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " - أى ما لم تتردد الروح فى الحلق .

والذى نراه أن ما ذكره صاحب الكشاف وغيره من أن قوله { مِن قَرِيبٍ } معناه : من قبل حضور الموت ، لا يتعارض مع الرأى القائل بأن قوله { مِن قَرِيبٍ } معناه : تم يتوبون فى وقت قريب من وقت عمل السوء ، لأن ما ذكره صاحب الكشاف وغيره بيان للوقت الذى تجوز التوبة فيه ولا تنفع بعده ، أما الرأى الثانى فهو بيان للزمن الذى يكون أرجى قبولا لها عند الله .

والعاقل من الناس هو الذى يبادر بالتوبة الصادقة عقب المعصية بلا تراخ ، لأنه لا يدرى متى يفاجئه الموت ، ولأن تأخبرها يؤدى إلى قسوة القلب ، وضعف النفس ، واستسلامها للأهواء والشهوات .

وقوله : { فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } بيان للوعد الحسن الذى وعد الله به عبادة الذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من قريب .

أى : فأولئك المتصفون بما ذكر ، يقبل الله توبتهم ، ويأخذ بيدهم إلى الهداية والتوفيق ، ويطهر نفوسهم من أرجاس الذنوب ، وكان الله عليما بأحوال عباده وبما هم عليه من ضعف ، حكيما يضع الأمور فى مواضعها حسبما تقتضيه مشيئته ورحمته بهم .

وقوله { فأولئك } مبتدأ . وقوله { يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ } خبره .

وأشار إليهم بلفظ { أولئك } للإِيذان بسمو مرتبتهم ، وعلو مكانتهم ، وللتنبيه على استحضارهم باعتبار أوصافهم المتقدمة الدالة على خوفه من خالقهم عز وجل - وقوله { وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } جملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (17)

على أن الإسلام لا يغلق الأبواب في وجه الخاطئين والخاطئات ، ولا يطردهم من المجتمع إن أرادوا أن يعودوا إليه متطهرين تائبين ، بل يفسح لهم الطريق ويشجعهم على سلوكه . ويبلغ من التشجيع أن يجعل الله قبول توبتهم - متى أخلصوا فيها - حقا عليه سبحانه يكتبه على نفسه بقوله الكريم . وليس وراء هذا الفضل زيادة لمستزيد .

( إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب . فأولئك يتوب الله عليهم . وكان الله عليما حكيما . وليست التوبة للذين يعملون السيئات ، حتى إذا حضر أحدهم الموت قال : إني تبت الآن ، ولا الذين يموتون وهم كفار . أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما ) .

ولقد سبق في هذا الجزء حديث عن التوبة . في ظلال قوله تعالى في سورة آل عمران : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم . . . ) وهو بجملته يصح نقله هنا ! ولكن التعبير في هذه السورة يستهدف غرضا آخر . . يستهدف بيان طبيعة التوبة وحقيقتها :

إن التوبة التي يقبلها الله ، والتي تفضل فكتب على نفسه قبولها هي التي تصدر من النفس ، فتدل على أن هذه النفس قد أنشئت نشأة أخرى . قد هزها الندم من الأعماق ، ورجها رجا شديدا حتى استفاقت فثابت وأنابت ، وهي في فسحة من العمر ، وبحبوحة من الأمل ، واستجدت رغبة حقيقية في التطهر ، ونية حقيقية في سلوك طريق جديد . .

( إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم . وكان الله عليما حكيما ) . .

والذين يعلمون السوء بجهالة هم الذين يرتكبون الذنوب . . وهناك ما يشبه الإجماع على أن الجهالة هنا معناها الضلالة عن الهدى - طال أمدها أم قصر - ما دامت لا تستمر حتى تبلغ الروح الحلقوم . . والذين يتوبون من قريب : هم الذين يثوبون إلى الله قبل أن يتبين لهم الموت ، ويدخلوا في سكراته ، ويحسوا أنهم على عتباته . فهذه التوبة حينئذ هي توبة الندم ، والانخلاع من الخطيئة ، والنية على العمل الصالح والتكفير . وهي إذن نشأة جديدة للنفس ، ويقظة جديدة للضمير . . ( فأولئك يتوب الله عليهم ) . . ( وكان الله عليما حكيما ) . . يتصرف عن علم وعن حكمة . ويمنح عباده الضعاف فرصة العودة إلى الصف الطاهر ، ولا يطردهم أبدا وراء الأسوار ، وهم راغبون رغبة حقيقية في الحمى الآمن والكنف الرحيم .

إن الله - سبحانه - لا يطارد عباده الضعاف ، ولا يطردهم متى تابوا إليه وأنابوا . وهو - سبحانه - غني عنهم ، وما تنفعه توبتهم ، ولكن تنفعهم هم أنفسهم ، وتصلح حياتهم وحياة المجتمع الذي يعيشون فيه . ومن ثم يفسح لهم في العودة إلى الصف تائبين متطهرين .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (17)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ إِنّمَا التّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلََئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } : ما التوبة على الله لأحد من خلقه ، إلا للذين يعملون السوء من المؤمنين بجهالة . { ثُمّ يَتُوبُون مِنْ قَرِيبٍ } يقول : ما الله براجع لأحد من خلقه إلى ما يحبه من العفو عنه والصفح عن ذنوبه التي سلفت منه ، إلا للذين يأتون ما يأتونه من ذنوبهم جهالة منهم وهم بربهم مؤمنون ، ثم يراجعون طاعة الله ويتوبون منه إلى ما أمرهم الله به من الندم عليه والاستغفار وترك العود إلى مثله من قبل نزول الموت بهم . وذلك هو القريب الذي ذكره الله تعالى ذكره ، فقال : { ثُمّ يَتُوبُون مِنْ قَرِيبٍ } .

وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل غير أنهم اختلفوا في معنى قوله : { بِجَهالَةٍ } فقال بعضهم في ذلك بنحو ما قلنا فيه ، وذهب إلى أن عمله السوء هو الجهالة التي عناها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي العالية : أنه كان يحدّث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانوا يقولون : كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : { للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأوا أن كل شيء عصي به فهو جهالة ، عمدا كان أو غيره .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : كل من عصى ربه فهو جاهل ، حتى ينزع عن معصيته .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : كل من عمل بمعصية الله فذاك منه بجهل حتى يرجع عنه .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } ما دام يعصي الله فهو جاهل .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان ، عن أبي النضر ، عن أبي صالح عن ابن عباس : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : من عمل السوء فهو جاهل ، من جهالته عمل السوء .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثظني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : من عصى الله فهو جاهل ، حتى ينزع عن معصيته . قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : كل عامل بمعصية فهو جاهل حين عمل بها . قال ابن جريج : وقال لي عطاء بن أبي رباح نحوه .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُون مِنْ قَرِيبٍ } قال : الجهالة : كل امرىء عمل شيئا من معاصي الله فهو جاهل أبدا حتى ينزع عنها . وقرأ : { هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعْلْتُمْ بِيُوسُف وأخِيهِ إذْ أنْتُمْ جاهِلُون } وقرأ : { وإلاّ تَصْرِفْ عنّي كَيْدهُنّ أصْبُ إلَيْهِنّ وأكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ } قال : من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته .

وقال آخرون : معنى قوله : { للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } : يعملون ذلك على عمد منهم له . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن مجاهد : { يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : الجهالة : العمد .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : الجهالة : العمد .

وقال آخرون : معنى ذلك : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء في الدنيا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، قوله : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ } قال : الدنيا كلها جهالة .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الاَية قول من قال : تأويلها : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء ، وعملهم السوء هو الجهالة التي جهلوها عامدين كانوا للإثم ، أو جاهلين بما أعدّ الله لأهلها . وذلك أنه غير موجود في كلام العرب ، تسمية العامد للشيء الجاهل به ، إلا أن يكون معنيا به أنه جاهل بقدر منفعته ومضرّته ، فيقال : هو به جاهل ، على معنى جهله بمعنى : نفعه وضرّه¹ فأما إذا كان عالما بقدر مبلغ نفعه وضرّه قاصدا إليه ، فغير جائز من غير قصده إليه أن يقال هو به جاهل¹ لأن الجاهل بالشيء هو الذي لا يعلمه ولا يعرفه عند التقدم عليه ، أو يعلمه فيشبه فاعله ، إذ كان خطأ ما فعله بالجاهل الذي يأتي الأمر وهو به جاهل فيخطىء موضع الإصابة منه ، فيقال : إنه لجاهل به ، وإن كان به عالما لإتيانه الأمر الذي لا يأتي مثله إلا أهل الجهل به . وكذلك معنى قوله : { يَعْمَلُونَ السّوءَ بِجَهالَةٍ } قيل فيهم : يعملون السوء بجهالة وإن أتوه على علم منهم بمبلغ عقاب الله أهله ، عامدين إتيانه ، مع معرفتهم بأنه عليهم حرام ، لأن فعلهم ذلك كان من الأفعال التي لا يأتي مثله إلا من جهل عظيم عقاب الله عليه أهله في عاجل الدنيا وآجل الاَخرة ، فقيل لمن أتاه وهو به عالم : أتاه بجهالة ، بمعنى : أنه فعل فعل الجهال به ، لا أنه كان جاهلاً .

وقد زعم بعض أهل العربية أن معناه : أنهم جهلوا كنه ما فيه من العقاب ، فلم يعلموه كعلم العالم ، وإن علموه ذنبا ، فلذلك قيل : { يَعْمَلُونَ السّوءَ بِجَهالَةٍ } . ولو كان الأمر على ما قال صاحب هذا القول لوجب أن لا تكون توبة لمن علم كنه ما فيه . وذلك أنه جلّ ثناؤه قال : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } دون غيرهم . فالواجب على صاحب هذا القول أن لا يكون للعالم الذي عمل سوءا على علم منه بكنه ما فيه ثم تاب من قريب¹ توبة ، وذلك خلاف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن كل تائب عسى الله أن يتوب عليه ، وقوله : «بابُ الّتْوبَةِ مَفْتُوحٌ ما لَمْ تَطْلُعِ الشّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها » ، وخلاف قول الله عزّ وجلّ : { إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعمِلَ عَمَلاً صَالِحا } .

القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } .

أختلف أهل التأويل في معنى القريب في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ثم يتوبون في صحتهم قبل مرضهم وقبل موتهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } والقريب قبل الموت ما دام في صحته .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبي النضر ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قال : في الحياة والصحة .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم يتوبون من قبل معاينة ملك الموت . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } والقريب فيما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عمران بن حدير ، قال : قال أبو مجلز : لا يزال الرجل في توبة حتى يعاين الملائكة .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس ، قال : القريب : ما لم تنزل به آية من آيات الله تعالى وينزل به الموت .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } له التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملك الموت ، فإذا تاب حين ينظر إلى ملك الموت فليس له ذاك .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم يتوبون من قبل الموت . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن رجل ، عن الضحاك : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قال : كل شيء قبل الموت فهو قريب .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قال : الدنيا كلها قريب .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قبل الموت .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، عن قتادة ، عن أبي قلابة ، قال : ذكر لنا أن إبليس لما لعن وأُنْظِرَ ، قال : وعزّتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح ! فقال تبارك وتعالى : وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عمران ، عن قتادة ، قال : كنا عند أنس بن مالك وثَمّ أبو قلابة ، فحدّث أبو قلابة قال : إن الله تبارك وتعالى لما لعن إبليس سأله النّظِرَة ، فقال : وعزّتك لا أخرج من قلب ابن آدم ! فقال الله تبارك وتعالى : وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : إن الله تبارك وتعالى لما لعن إبليس سأله النّظِرَة ، فأنظره إلى يوم الدين ، فقال : وعزتك لا أَخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح ! قال : وعزتي لا أَحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح .

حدثني ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ إبْلِيسَ لَمّا رأى آدَمَ أجْوَفَ ، قالَ : وعِزّتِكَ لا أخْرُجُ مِنْ جَوْفِهِ ما دَام فِيهِ الرّوحُ ! فَقالَ اللّهُ تَبارَكَ وتَعالى : وعِزّتِي لا أحُولُ بَيْنَهُ وبْينَ التّوْبَةِ ما دَامَ فِيهِ الرّوحُ » .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، قتادة ، عن العلاء بن زياد ، عن أبي أيوب بُشَيْر بن كعب ، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ الله يَقْبَلُ تَوْبَة العَبْدِ ما لمْ يُغَرْغِرْ » .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن عبادة بن الصامت ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال¹ فذكر مثله .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ الله تَبارك وتَعالى يَقْبَلْ تَوْبَة العَبْدِ ما لمْ يُغَرْغِرْ » .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : تأويله : ثم يتوبون قبل مماتهم في الحال التي يفهمون فيها أمر الله تبارك وتعالى ونهيه ، وقبل أن يغلبوا على أنفسهم وعقولهم ، وقبل حال اشتغالهم بكرب الحشرجة وغمّ الغرغرة ، فلا يعرفوا أمر الله ونهيه ، ولا يعقلوا التوبة ، لأن التوبة لا تكون توبة إلا ممن ندم على ما سلف منه ، وعزم فيه على ترك المعاودة ، وهو يعقل الندم ، ويختار ترك المعاودة ، فأما إذا كان بكرب الموت مشغولاً ، وبغمّ الحشرجة مغمورا ، فلا إخاله إلا عن الندم على ذنوبه مغلوبا ، ولذلك قال من قال : إن التوبة مقبولة ما لم يغرغر العبد بنفسه ، فإن كان المرء في تلك الحال يعقل عقل الصحيح ، ويفهم فهم العاقل الأريب ، فأحدث إنابة من ذنوبه ، ورجعة من شروده عن ربه إلى طاعته كان إن شاء الله ممن دخل في وعد الله الذي وعد التائبين إليه من إجرامهم من قريب بقوله : { إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } .

القول في تأويل قوله تعالى : { فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهمْ وكانَ اللّهُ عَلِيما حَكِيما } .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { فَأُولَئِكَ } فهؤلاء الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب { يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ } دون من لم يتب ، حتى غلب على عقله وغمرته حشرجة ميتته ، فقال : وهو لا يفقه ما يقول : { إنّي تبْتُ الاَنَ } خداعا لربه ونفاقا في دينه ، ومعنى قوله : { يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ } : يرزقهم إنابة إلى طاعته ، ويتقبل منهم أوبتهم إليه ، وتوبتهم التي أحدثوها من ذنوبهم .

وأما قوله : { وكانَ اللّهُ عَلِيما حَكِيما } فإنه يعني : ولم يزل الله جلّ ثناؤه عليما بالناس من عباده المنيبين إليه بالطاعة بعد إدبارهم عنه ، المقبلين إليه بعد التولية ، وبغير ذلك من أمور خلقه ، حكيم في توبته على من تاب منهم من معصيته ، وفي غير ذلك من تدبيره وتقديره ، ولا يدخل أفعاله خلل ، ولا يخلطه خطأ ولا زلل .