الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (17)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{إنما التوبة على الله}: يعني التجاوز على الله، {للذين يعملون السوء بجهالة}، فكل ذنب يعمله المؤمن فهو جهل منه، {ثم يتوبون من قريب}: يعني قبل الموت، {فأولئك يتوب الله عليهم}: يتجاوز عنهم، {وكان الله عليما حكيما}.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

{إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ}: ما التوبة على الله لأحد من خلقه، إلا للذين يعملون السوء من المؤمنين بجهالة {ثُمّ يَتُوبُون مِنْ قَرِيبٍ}: ما الله براجع لأحد من خلقه إلى ما يحبه من العفو عنه والصفح عن ذنوبه التي سلفت منه، إلا للذين يأتون ما يأتونه من ذنوبهم جهالة منهم وهم بربهم مؤمنون، ثم يراجعون طاعة الله ويتوبون منه إلى ما أمرهم الله به من الندم عليه والاستغفار وترك العود إلى مثله من قبل نزول الموت بهم. وذلك هو القريب الذي ذكره الله تعالى ذكره، فقال: {ثُمّ يَتُوبُون مِنْ قَرِيبٍ}.

وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك، قال أهل التأويل غير أنهم اختلفوا في معنى قوله: {بِجَهالَةٍ}؛

فقال بعضهم في ذلك بنحو ما قلنا فيه، وذهب إلى أن عمله السوء هو الجهالة التي عناها. عن قتادة، عن أبي العالية: أنه كان يحدّث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة، عمدا كان أو غيره.

وقال آخرون: معنى قوله: {للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ}: يعملون ذلك على عمد منهم له... الجهالة: العمد.

وقال آخرون: معنى ذلك: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء في الدنيا. عن عكرمة قال: الدنيا كلها جهالة.

وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: تأويلها: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء، وعملهم السوء هو الجهالة التي جهلوها عامدين كانوا للإثم، أو جاهلين بما أعدّ الله لأهلها. وذلك أنه غير موجود في كلام العرب، تسمية العامد للشيء الجاهل به، إلا أن يكون معنيا به أنه جاهل بقدر منفعته ومضرّته، فيقال: هو به جاهل، على معنى جهله بمعنى: نفعه وضرّه¹، فأما إذا كان عالما بقدر مبلغ نفعه وضرّه قاصدا إليه، فغير جائز من غير قصده إليه أن يقال هو به جاهل¹ لأن الجاهل بالشيء هو الذي لا يعلمه ولا يعرفه عند التقدم عليه، أو يعلمه فيشبه فاعله، إذ كان خطأ ما فعله بالجاهل الذي يأتي الأمر وهو به جاهل فيخطئ موضع الإصابة منه، فيقال: إنه لجاهل به، وإن كان به عالما لإتيانه الأمر الذي لا يأتي مثله إلا أهل الجهل به. وكذلك معنى قوله: {يَعْمَلُونَ السّوءَ بِجَهالَةٍ} قيل فيهم: يعملون السوء بجهالة وإن أتوه على علم منهم بمبلغ عقاب الله أهله، عامدين إتيانه، مع معرفتهم بأنه عليهم حرام، لأن فعلهم ذلك كان من الأفعال التي لا يأتي مثله إلا من جهل عظيم عقاب الله عليه أهله في عاجل الدنيا وآجل الآخرة، فقيل لمن أتاه وهو به عالم: أتاه بجهالة، بمعنى: أنه فعل فِعل الجهال به، لا أنه كان جاهلاً.

وقد زعم بعض أهل العربية أن معناه: أنهم جهلوا كنه ما فيه من العقاب، فلم يعلموه كعلم العالم، وإن علموه ذنبا، فلذلك قيل: {يَعْمَلُونَ السّوءَ بِجَهالَةٍ}. ولو كان الأمر على ما قال صاحب هذا القول لوجب أن لا تكون توبة لمن علم كنه ما فيه. وذلك أنه جلّ ثناؤه قال: {إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} دون غيرهم. فالواجب على صاحب هذا القول أن لا يكون للعالم الذي عمل سوءا على علم منه بكنه ما فيه ثم تاب من قريب¹ توبة، وذلك خلاف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن كل تائب عسى الله أن يتوب عليه، وقوله: «بابُ الّتْوبَةِ مَفْتُوحٌ ما لَمْ تَطْلُعِ الشّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها»، وخلاف قول الله عزّ وجلّ: {إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعمِلَ عَمَلاً صَالِحا}.

{ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}:

أختلف أهل التأويل في معنى القريب في هذا الموضع؛

فقال بعضهم: ثم يتوبون في صحتهم قبل مرضهم وقبل موتهم.

وقال آخرون: ثم يتوبون من قبل معاينة ملك الموت. عن ابن عباس: والقريب فيما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت.

وقال آخرون: ثم يتوبون من قبل الموت. عن الضحاك قال: كل شيء قبل الموت فهو قريب. [و] عن عكرمة قال: الدنيا كلها قريب.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: ثني أبي، قتادة، عن العلاء بن زياد، عن أبي أيوب بُشَيْر بن كعب، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إنّ الله يَقْبَلُ تَوْبَة العَبْدِ ما لمْ يُغَرْغِرْ».

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: تأويله: ثم يتوبون قبل مماتهم في الحال التي يفهمون فيها أمر الله تبارك وتعالى ونهيه، وقبل أن يغلبوا على أنفسهم وعقولهم، وقبل حال اشتغالهم بكرب الحشرجة وغمّ الغرغرة، فلا يعرفوا أمر الله ونهيه، ولا يعقلوا التوبة، لأن التوبة لا تكون توبة إلا ممن ندم على ما سلف منه، وعزم فيه على ترك المعاودة، وهو يعقل الندم، ويختار ترك المعاودة، فأما إذا كان بكرب الموت مشغولاً، وبغمّ الحشرجة مغمورا، فلا إخاله إلا عن الندم على ذنوبه مغلوبا، ولذلك قال من قال: إن التوبة مقبولة ما لم يغرغر العبد بنفسه، فإن كان المرء في تلك الحال يعقل عقل الصحيح، ويفهم فهم العاقل الأريب، فأحدث إنابة من ذنوبه، ورجعة من شروده عن ربه إلى طاعته كان إن شاء الله ممن دخل في وعد الله الذي وعد التائبين إليه من إجرامهم من قريب بقوله: {إنّمَا التّوْبَةُ على اللّهِ للّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوء بِجَهالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}.

{فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهمْ وكانَ اللّهُ عَلِيما حَكِيما}: فهؤلاء الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب {يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ} دون من لم يتب، حتى غلب على عقله وغمرته حشرجة ميتته، فقال: وهو لا يفقه ما يقول: {إنّي تبْتُ الاَنَ} خداعا لربه ونفاقا في دينه. ومعنى قوله: {يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ}: يرزقهم إنابة إلى طاعته، ويتقبل منهم أوبتهم إليه، وتوبتهم التي أحدثوها من ذنوبهم.

{وكانَ اللّهُ عَلِيما حَكِيما}: ولم يزل الله جلّ ثناؤه عليما بالناس من عباده المنيبين إليه بالطاعة بعد إدبارهم عنه، المقبلين إليه بعد التولية، وبغير ذلك من أمور خلقه، حكيم في توبته على من تاب منهم من معصيته، وفي غير ذلك من تدبيره وتقديره، ولا يدخل أفعاله خلل، ولا يخلطه خطأ ولا زلل.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{إنما التوبة على الله للذين} كذا، أي توفيق التوبة وهدايته على الله سبحانه وتعالى إذا كانت نفسه ترغب فيها وتميل إليها، على الله توفيقه إلى ذلك إذا علم الله منه أنه يتوب. ويحتمل قوله: {إنما التوبة على الله} سبحانه وتعالى إذا تاب ورجع عما كان فيه وارتكبه. وفي قوله أيضا: {إنما التوبة على الله للذين} (لمن ذكر) يحتمل قبولها (بوجهين: الأول): بمعنى أن الذي لا يسوف التوبة ولا ينتظر بها وقت المنع عن وجوب ما عنه يتوب والإياس من إمكان العود إلى ما عنه يتوب لله، فالله يقبلها إذا كان ذلك دأبه وعادته وإن بلغ ذلك الضيق بأمر دفع إليه أو كان يتوب من قريب من الذنب بألا يستخف به فيترك الرجوع لقلة مبالاته به فلا يقبلها ممن وصف توبته وحال استخفافه بالذنب. والثاني: أن يكون توفيق التوبة والهداية إليه ممن يفزعه ذنبه على الرجوع إلى الله والتعرض لرحمته وإحسانه. ولا يوفق من لا يبالي بالذي يذكر ولا يتضرع إليه. وقيل: حال الأول في الصغائر والثاني في الكبائر والثالث في الكفر، فإن صاحب الصغيرة أرق قلبا وأخلص ذكرا له ورجوعا إلى ربه، وصاحب الكبيرة أقسى قلبا من الأول وأظلم،فهو لا يندم إلا بعد شدة وبعد طول المحنة وضيق القلب.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

التوبة هي: الندم على القبيح مع العزم على ألا يعود إلى مثله في القبح، وفي الناس من قال: يكفي الندم على ما مضى من القبيح، والعزم على ألا يعود إلى مثله، والأول أقوى، لإجماع الأمة على أنها إذا حصلت على ذلك الوجه أسقطت العقاب، وإذا حصلت على الوجه الثاني ففي سقوط العقاب عنها خلاف، وقد ذكر الله تعالى في هذه الآية أن التوبة إنما يقبلها ممن يعمل السوء بجهالة.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

لا استغفار مع الإصرار: فإن التوبة مع غير إقلاعِ سِمَةٌ الكذَّابين.

وقوله: {السُّوءَ بِجَهَالَةٍ}: يعني عَمِلَ عَمَلَ الجُهّال.

قوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ}: على لسان أهل العلم: قبل الموت، وعلى لسان المعاملة: قبل أن تتعود النفس ذلك فيصير لها عادة.

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

ومعناه عن قرب عهد بالخطيئة، بأن يتندم عليها ويمحو أثرها بحسنة يردفها بها قبل أن يتراكم الرين على القلب فلا يقبل المحو، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أتبع السيئة الحسنة [تمحها]". [الإحياء: 4/13

معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :

{ثم يتوبون من قريب} قيل: قبل أن يحيط السوء بحسناته فيحبطها.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أن المرتكبين للفاحشة إذا تابا وأصلحا زال الأذى عنهما، وأخبر على الإطلاق أيضا أنه تواب رحيم، ذكر وقت التوبة وشرطها، ورغبهم في تعجيلها لئلا يأتيهم الموت وهم مصرون فلا تنفعهم التوبة..

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما ختم ذلك بذكر توبة الزناة، وكان الحامل على الزنى -على ما يقتضيه الطبع البشري- شدة الشبق وقلة النظر في العواقب، وكان ذلك إنما هو في الشباب؛ وصل بذلك قوله تعالى معرفاً بوقت التوبة وشرطها مرغباً في تعجيلها مرهباً من تأخيرها: {إنما التوبة} وهي رجوع العبد عن المعصية اعتذاراً إلى الله تعالى، والمراد هنا قبولها، سماه باسمها لأنها بدون القبول لا نفع لها، فكأنه لا حقيقة لها.

ولما شبه قبوله لها بالواجب من حيث إنه بها، لأنه لا يبدل القول لديه؛ عبر بحرف الاستعلاء المؤذن بالوجوب حثاً عليها وترغيباً فيها فقال: {على الله} أي الجامع بصفات الكمال {للذين يعملون السوء} أيَّ سوء كان من فسق أو كفر، وقال: {بجهالة} إشارة إلى شدة قبح العصيان، لا سيما الزنى من المشايخ، لإشعار السياق ترهيباً بأن الأمر فيهم ليس كذلك -كما صرح به النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البزار بإسناد جيد عن سلمان رضي الله عنه "ثلاثة لا يدخلون الجنة: الشيخ الزاني، والإمام الكذاب، والعائل المزهو "وهو في مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه.

" ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر "وهو عن كثير من الصحابة من طرق كثيرة، وذلك لأن حضور الموت بالقوة القريبة من الفعل وإضعاف القوى الموهنة لداعية الشهوة قريب من حضوره بالفعل، وذلك ينبغي أن يكون مذهباً لداعية الجهل، ماحقاً لعرامة الشباب، سواء قلنا: إن المراد بالجهالة ضد الحلم، أو ضد العلم؛ قال الإمام عبد الحق في كتابه الواعي: قال أبو عبد الله- يعني القزاز: والجاهلية الجهلاء اسم وقع على أهل الشرك يكون مأخوذاً من الجهل الذي هو ضد العلم والذي هو ضد الحلم، قال وأصل الجهل من قولهم: استجهلت الريح الغصن -إذا حركته، فكأن الجهل إنما هو حركة تخرج عن الحق والعلم- انتهى. فالمعنى حينئذ: يعملون السوء ملتبسين بسفه أو بحركة وخفة أخرجتهم عن الحق والعلم، فكانوا كأنهم لا يعلمون -بعملهم عمل أهل الجاهلية الذين لا يعلمون، وزاد في التنفير من مواقعة السوء والتحذير بقوله: {ثم يتوبون} أي يجددون التوبة.

ولما كان المراد الترغيب فيها ولو قصر زمنها بمعاودة الذنب أثبت الجار فقال: {من} أي من بعض زمان {قريب} أي من زمن المعصية وهم في فسحة من الأجل، وذلك كناية عن عدم الإصرار إلى الموت، ولعله عبر ب"ثم" إشارة إلى بُعد التوبة ولا سيما مع القرب ممن واقع المعصية، لأن الغالب أن الإنسان إذا ارتبك في حبائلها لا يخلص إلا بعد عسر، ولذلك أشار إلى تعظيمهم بأداة البعد في قوله- مسبباً عن توبتهم واعداً أنه فاعل ما أوجبه على نفس لا محالة من غير خلف وإن كان لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء: {فأولئك} أي العظيم و الرتبة الصادق و الإيمان {يتوب الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {عليهم} أي يردهم إلى ما كانوا فيه عندهم من مكانة القرب قبل مواقعة الذنب {وكان الله} أي المحيط علماً وقدرة {عليماً} أي بالصادقين في التوبة والكاذبين وبنياتهم، فهو يعاملهم بحسب ما يقتضيه حالهم {حكيماً} فهو يضع الأشياء في أحكم محل لها، فمهما فعله لم يمكن نقضه.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

لما ذكر تعالى أن التوبة مع الإصلاح تقتضي ترك العقوبة على الذنب في الدنيا ووصف نفسه بالتواب الرحيم أي الذي يقبل التوبة من عباده كثيرا أو يعفو بها عنهم- عقب ذلك ببيان شرط قبول التوبة فقال (إنما التوبة على الله) أي إن التوبة التي أوجب الله تعالى قبولها على نفسه بوعده الذي هو أثر كرمه وفضله ليست إلا (للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب) فالسوء هو العمل القبيح الذي يسوء فاعله إذا كان عاقلا سليم الفطرة كريم النفس أو يسوء الناس ويصدق على الصغائر والكبائر. والجهالة الجهل وتغلب في السفاهة التي تلابس النفس عند ثورة الشهوة أو سورة الغضب فتذهب بالحلم وتنسي الحق. والمراد بالزمن القريب الوقت الذي تسكن به تلك الثورة، أو تنكسر به تلك السورة، ويثوب إلى فاعل السيئة حلمه ويرجع إليه دينه وعقله.

وذهب جمهور المفسرين إلى تفسير الزمن القريب بما قبل حضور الموت، واحتجوا على ذلك بالآية الثانية التي تنفي قبول توبة الذين يتوبون إذا حضر أحدهم الموت. وليس ذلك بحجة لهم لأن الظاهر أن هذه الآية بينت الوقت الذي تقبل فيه التوبة من كل مذنب حتما والآية الثانية بينت الوقت الذي لا تقبل فيه توبة مذنب قط، وما بين الوقتين مسكوت عنه، وهو محل الرجاء والخوف، فكلما قرب وقت التوبة من وقت اقتراب الذنب كان الرجاء أقوى، وكلما بعد الوقت بالإصرار وعدم المبالاة والتسويف كان الخوف من عدم القبول هو الأرجح، لأن الإصرار قد ينتهي قبل حضور الموت بالرين والختم وإحاطة الخطيئة، وقد سبق بيان ذلك في تفسير سورة البقرة. فراجع تفسير (ختم الله على قلوبهم) [البقرة: 7] وتفسير (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) [البقرة: 82] من الجزء الأول وكذا في تفسير آل عمران (فراجع تفسير الجزء الثالث) وسنعيد بيانه أيضا.

وكم غرت هذه العبارة الناس وجرأتهم على الإصرار على الذنوب والآثام وأوهمتهم أن المؤمن لا يضره أن يصر على المعاصي طول حياته إذا تاب قبل بلوغ روحه الحلقوم، فصار المغرورون يسوفون التوبة حتى يوبقهم التسويف فيموتوا قبل أن يتمكنوا من التوبة وما يجب أن تقرن به من إصلاح النفس بالعمل الصالح، كما في الآية السابقة وآيات أخرى في معناها. كقوله تعالى: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) [طه: 82] وقوله في حكاية دعاء الملائكة للمؤمنين (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك) [غافر: 8] ولا ينافي ذلك ما ورد من الأحاديث والآثار في قبول التوبة إلى ما قبل الغرغرة. كحديث ابن عمر عند أحمد والترمذي "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر "فإن المقصود من هذا أنه لا يجوز لأحد أن يقنط من رحمة ربه وييئس من قبوله إياه إذا هو تاب وأناب إليه مادام حيا. وليس معناه: أنه لا خوف على العبد من التمادي في الذنوب إذا هو تاب قبيل الموت ولو بساعة، فإن حمله على هذا المعنى مخالف لهدي كتاب الله في الآيات التي ذكرنا بعضها آنفا، ولسننه في خلق الإنسان من حيث إن نفسه تتدنس بالذنوب بالتدريج، فإذا طال الأمد على مزاولتها لها تتمكن فيها وترسخ فلا تزول إلا بتزكيتها بالعمل الصالح في زمن طويل يناسب زمن الدنس مع ترك أسباب الدنس، وأما الترك وحده فلا يكفي كما إذا وردت الأقذار والأدناس الحسية على ثوب زمنا طويلا فإنه لا ينظف بمجرد انقطاعها عنه. على أن المعاصي إذا تكررت تصير عادات تملك على النفس أمرها حتى تصير التوبة بمجرد الترك من أعسر الأمور وأشقها لأنها تكون عبارة عن اقتلاع الملكات التي تكيف بها المجموع العصبي، فما أخسر صفقة المسوفين؛ الذين يغترون بكلام أسرى العبارات من المفسرين وغير المفسرين!

الأستاذ الإمام:

ذكر في الآية السابقة التوبة وبين في هذه الآية حكمها وحالها ترغيبا فيها وتنفيرا عن المعصية بما شدد في شرط قبولها، وفيه إرشاد لأولياء الأمر إلى الطريق الذي يسلكونه مع العصاة في معاقبتهم وتأديبهم، فإنه فرض في الآية السابقة معاقبة أهل الفواحش وأمر بالإعراض عمن تاب بشرط إصلاح العمل. وكأن هذه الآية شرح لذلك الإصلاح، أي إن تابوا مثل هذه التوبة فأعرضوا عنهم وكفوا عن عقابهم.

ويذكرون ههنا مسألة الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة في وجوب الصلاح عليه تعالى. والقول الفصل في ذلك: إن قبول هذه التوبة على الله تعالى ليس بإيجاب موجب له سلطة يوجب بها على الله، تعالى الله عن ذلك! وإنما ذلك من جملة الكمال الذي أوجبه تعالى على نفسه بمشيئته واختياره، وهذه العبارة وأمثالها مما ظاهره وجوب بعض الأشياء على الله قد جاءت على طريق العرب في التخاطب، ولا يفهم منها إلا أن ذلك واقع ما له من دافع، ولكن بإيجاب الله تعالى له، ولا يمكن أن يظن عاقل أن قانونا يحكم على الألوهية. فجعل الخلاف في هذه المسألة لفظيا ظاهرا لا تكلف فيه.

و "السوء" هو العمل القبيح، و "الجهالة" تصدق بمعنى السفاهة وبمعنى الجهل الذي هو ضد العلم فالسفاهة إنما سميت سفاهة لأن صاحبها يجهل عاقبتها الرديئة أو يجهل مصلحة نفسه. وقال بعضهم: المراد بالجهالة هنا العصيان والمخالفة. وعبر عن ذلك بالجهالة لبيان قبحه ولتضمنه للجهالة وتنزيل العاصي منزلة الجاهل بمصلحة نفسه. وقال بعضهم: إن المراد بها عدم العلم التام بمقدار ما يترتب على عمل السوء من العقاب لا تعمد العصيان وذلك أن ناقص العلم بحقيقة الذنوب ووجه ترتب العقاب عليها ودرجة ذلك العقاب وتحتمه يقع في الذنب ويعمل السوء باختياره غير مغلوب على أمره، وهو يظن أنه عمل ما فيه الخبر والنفع لنفسه، كاللص يعلم أن السرقة محرمة ولكنه لا يعلم أن العقاب عليها حتم لأن عنده احتمالات من العلم الناقص تشككه فيما ورد من وعيد السارق، كشفاعة الشفعاء من المشايخ والجيران الصالحين، وكاحتمال العفو والمغفرة، وكالمكفرات، فإذا عرض له شيء يسرقه وتذكر الوعيد على السرقة ينتصب في ذهنه ميزان الترجيح بين الانتفاع العاجل بما يسرقه والعقاب الآجل على هذه المعصية، فإذا عرض له الشك في العقاب رجحت كفة داعية السرقة، لأن الانتفاع بالمسروق يقيني والعقاب عليه مشكوك فيه. وهكذا شأن الإنسان في جميع الأعمال الاختيارية لا يمكن أن يأتي شيئا منها إلا إذا كان يعتقد نفعه له ورجحانه على مقابله إن خطر في باله المقابل، فعلم من هذا أن عمل السوء لا يمكن أن يصدر من الإنسان مع التلبس بالجهل، وعدم إقامة الميزان بالقسط في الترجيح بين الفعل والترك، فهو لا يرتكب المعصية إلا جهلا بحقيقة الوعيد أو متأولا له بمثل ما أشرنا إليه من انتظار الشفاعة والمغفرة، أو مغلوبا بشهوة أو بغضب، فإذا زالت الجهالة عن قريب فتاب كانت توبته مقبولة حتما. واختلفوا في الزمن القريب فعن ابن عباس وغيره هو أن يتوب في حال الصحة والأمل في الحياة، وعن ابن جرير هو أن يتوب وهو مدرك يعقل، وأشهر الأقوال: أن يتوب قبل الغرغرة.

ثم قال ما مثاله مع بسط وإيضاح:

إن من كان قوي الإيمان بحيث لا تقع المعصية منه إلا عن بادرة غضب أو شهوة، أو جهل بأنها معصية تستوجب العقوبة، فهو من أولئك الذين لا يقع منهم عمل السوء إلا هفوة بعد هفوة، ولا يلبثون أن يبادروا إلى التوبة ولذلك ذكر السوء مفردا وقال فيمن لا تقبل توبتهم "يعملون السيئات" بالجمع، فأشعرنا أن التوبة إنما تقبل حتما ممن تقع الذنوب منهم أفذاذا، ويلم واحدهم بها إلماما، ولكنه لا يصر عليها، بل يبادر إلى التوبة منها، ثم قد يطوف به بعد التوبة طائف آخر من الشيطان، فيعود ثانية إلى العصيان، ويتبعه التوبة والإحسان. فلا تتمكن من نفسه ظلمة المعصية، ولا تحيط به الخطيئة، فالصواب أن يفسر قوله تعالى "من قريب" بالقرب من زمن الذنب وهو المتبادر من اللفظ عند أهل اللغة والمذنب التائب أحد رجلين: رجل عارف بتحريم الذنب ولكن تلم به تلك الجهالة التي تحدث الرعونة في الإدارة، فيقع في الذنب ثم يتوب إليه علمه فيؤثر في نفسه فيتوب. ورجل وقع في الذنب وهو لا يعلم أنه محرم؛ ولكنه على جهله ببعض أمور الدين ليس راضيا بجهله، ولا مهملا لأمر دينه، بل هو يبحث ويسأل ويتعلم فلا يطول عليه الأمد حتى يعلم أن ما كان ألم به محرم فيتوب منه حالا. فكل من هذين يصدق عليه أنه تاب من قريب. فالقرب ليس له حد محدود وإنما هو أمر نسبي فمن أصر على عمل السوء زمنا طويلا لجهله بأنه معصية محرمة ثم علم فتاب، فلا شك أن الله تعالى يقبل توبته وقد يصدق عليه أنه تاب من قريب بالنسبة إلى زمن العلم، ثم ذكر شيئا من كلام الغزالي في حقيقة التوبة وأركانها.

أقول: إن هنا شيئا يجب تدبره وهو الفرق بين من يعمل السوء وهو لا يعلم أنه سوء محرم عليه ومن يعمله عالما بذلك، فالأول لا تتندس نفسه بالعمل وإن طال عليه الزمن؛ أي لا يكون ذلك العمل مجرئا لها على المعاصي موطنا لها على الشرور فإذا علم بعد ذلك أن عمله من السوء من حيث إنه ضار له أو لغيره أو من حيث إنه محرم عليه دينا وإن لم يعرف سبب تحريمه فإنه لا يعسر عليه غالبا أن يرجع عنه حالا، وإن كان قد ألفه فإنه ما ألفه إلا من حيث أنه حسن في نظره فملكه اختيار الحسن وإيثاره على السيء تكون في الغالبة عليه المصرفة لإرادته فلذلك يسهل عليه الرجوع من قريب متى جاء العلم الصحيح كما سهل على السابقين الأولين من الصحابة (رضوان الله عليهم) أن يكونوا في الذروة العليا من الفضائل والفواضل وعمل الخير والتنزه عن الشر على نشوئهم في الوثنية وعادات الجاهلية فإنهم كانوا على ذلك ذوي سلامة في الفطرة وحب للخير وبغض للشر وما كان ينقصهم إلا العلم الصحيح بحقيقة الحسن والقبيح وكنه الخير والشر، فلما جاءهم الإسلام سارعوا إليه وكانوا أكمل الناس به؛ ولكن بعض المفسرين ينازع في كون من يعمل السوء جاهلا أنه سوء مرادا من الآية ويرى أن رجوعه عما كان عمله قبل العلم بكونه سوءا لا يسمى توبة. وقد أشار إلى ذلك الأستاذ الإمام بقوله "التعبير بالسوء" الخ ولكنه مع ذلك اختار كون لفظ الجهالة عاما يشمل عدم العلم بحرمته كما تقدم.

وأما من يعمل السوء وهو يعتقد أنه سوء ويصر على المعصية وهو يعلم أنها معصية لله عز وجل ولكنه يتبع هوى نفسه ويؤثر إرضاء شهوتها وغضبها على رضوان الله ومنفعة عباده، فذلك الذي تضرى نفسه بالشر وتأنس بالسوء ويصير ذلك ملكة لها مصرفة لإرادتها في أعمالها حتى تصل إلى الدركة التي تتعذر معها التوبة وهي التي عبر عنها القرآن الحكيم بالختم على القلوب والرين عليها والطبع عليها وإحاطة الخطيئة بها وضرب لها النبي (صلى الله عليه وسلم) مثل النكتة السوداء وتقدم شيء من بيان ذلك آنفا ومن قبل في مواضع كثيرة.

وقد سئلت مرة: لماذا لم تفسد أخلاق اليابانيين وتنحط هممهم وتصغر نفوسهم مع فشو الزنا فيهم؟ فقلت: لأنهم يأتونه غير معتقدين حرمته دينا ولا قبحه عقلا. ولذلك يكون ضرره في الأخلاق قليلا ولكن ضرره في الصحة والاجتماع كبير على كل حال.

ونعود إلى كلام الأستاذ الإمام قال ما مثاله:

إنهم يقسمون التائبين إلى طبقات ويقولون إن الإنسان عريق في الشر كأنه عجن بطينته، ذلك أن الشهوات الحيوانية تسبق فيه الشهوات العقلية، فهو يألف الشهوات أولا ثم يجيء العقل ليضع لتلك الشهوات النظام والقوانين، والعلم بما شرع فيها من هداية الدين، ومجاهدة النفس على امتثال الأوامر واجتناب النواهي، فكل إنسان له هفوة قبل أن يستحصف العقل ويفقه أسرار النقل، فمن الناس من هو كبير النفس عالي الاستعداد إذا وقع في الخطيئة مرة؛ كان له منها أكبر عبرة، وهو لا يقع فيها إلا وهو غافل عن عواقبها ومصور إياها بصورة أحسن من صورتها، وأنتم تعلمون أن الإنسان لا يعرف مقدار الشيء قبيل الدخول فيه، فإذا ألم العاقل السليم الفطرة بالذنب وذاق لذته عرف حقيقته وعند ذلك يعود إليه علمه الذي حجبته عنه الشهوة، ويقوى في نفسه ما كان ضعف من نور البصيرة فيوازن بين هذه اللذة وبين قبح المعصية وما لها من سوء العاقبة فيظهر له من مهانة نفسه وسوء اختياره ما عسى أن يصير إليه أمره إذا عاد إلى ذلك واعتاده وعرف به فيندم ويقلع عن هذا الذنب وعن غيره ويحمل نفسه على الفضيلة يصرفها عن كل رذيلة.

ومن الناس من تكون داعية الشهوة أقوى في نفوسهم وأرسخ فكلما أطاعوها في معصية قامت الخواطر الإلهية تحاربها بلوم صاحبها وتوبيخه حتى تنتصر عليها وتقهرها قهرا لا تقوم لها بعده قائمة وهؤلاء يعدون من التوابين أيضا، ومنهم فرقة تقوى بالمجاهدة على اجتناب كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم فتكون الحرب في نفوسهم سجالا بين ما يلمون به من الصغائر وبين الخواطر الإلهية التي هي جند الإيمان.

وكثير من الناس يقع في الذنب فيتوب ويستغفر ثم يعرض له مرة أخرى فيعود إليه ثم يلوم نفسه ويندم ويستغفر وهلم جرا، فهؤلاء في أدنى طبقات التوابين. والنفس الباقية أرخص عندهم من النفس الفانية، وهم مع ذلك محل للرجاء لأن لهم زاجرا من أنفسهم يذكرهم دائما بالرجوع إلى الله تعالى عقب كل خطيئة، فيوشك أن يقوى هذا الزجر المذكر على الشهوات المزينة للخطيئة. فإن كان تكرار الإثم يزيد الشهوة ضراوة والنفس جرأة فتكرار تذكير العلم الصحيح يحدث فيها ألما يقاوم تلك الضراوة بتقريع النفس وتحقيرها وتصوير سوء العاقبة لها فتكون الحرب سجالا، وأثر الآلام في النفس أقوى من أثر اللذات، فإما أن تنتصر الخواطر والزواجر الإلهية بذلك فليحق صاحب هذه النفس ببعض تلك الطبقات التي صحت توبتها، وإما أن تنكسر أمام جند الشهوة حتى تحيط بصاحبها الخطيئة فيكون من المصرين الهالكين.

ثم قال تعالى: (فأولئك يتوب الله عليهم) الفاء للسببية أي أولئك الموصوفون بأنهم يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فإذا تراخت توبتهم لا يطول عليها الزمن ولا يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون- يتوب الله تعالى عليهم بسبب ذينك الأمرين وهما كون فعل السوء لم يكن إلا عن جهالة إذ مثلهم في إيمانهم وتقواهم لا يعتمد الذنب مع الروية وكون التوبة قريبة من زمن الذنب، لم تدع له مجالا يرسخ به في النفس، ويجوز أن تجعل معنى السببية مفرعا عن ذلك الأصل المقرر في صدر الآية وهو كون قبول توبة هؤلاء مما أوجبه الله تعالى على نفسه بمقتضى رحمته، وعلمه وحكمته، أي فأولئك يتوب عليهم قطعا؛ لأن قبول توبتهم مقرر حتما، وموعود به وعدا مقضيا.

وقال الأستاذ الإمام:

أشار إليهم بعد حصر التوبة المقبولة لهم لتأكيد ذلك الحصر ولاستحضارهم في الذهن عند الحكم حتى لا يخطر في بال القارئ والسامع إشراك غيرهم معهم فيه، وضمن التوبة معنى العطف أي يعطف عليهم بقبول توبتهم ويعود برحمته عليهم.

(إن الله كان عليما حكيما) فمن علمه بشؤون عباده ومصالحهم وحكمته فيما شرعه لهم أن جعل التوبة بشرطيها مقبولة حتما لأنه يعلم أنهم لضعفهم لا يسلمون من عمل السوء، فلو لم يكن للعاصي توبة لفسد الناس وهلكوا لأن من يعمل السوء بجهالة من ثورة شهوة أو سورة غضب يسترسل حينئذ في المعاصي والسيئات، ويتعمد اتباع الهوى وخطوات الشيطان، لعلمه أنه هالك على كل حال، فلا فائدة له من مجاهدة نفسه وتزكيتها، أما وقد شرع الله تعالى بحكمته قبول التوبة؛ فقد فتح لهم باب الفضيلة، وهداهم إلى محو السيئة بالحسنة، ولو كان كل ذنب يغفر وكل سيئة يعفى عنها لما آثر الناس الخير على الشر إلا حيث تكون شهواتهم ومهب أهوائهم.

ثم إنه تعالى يعلم التوبة النصوح؛ والتوبة الخادعة الكذوب، لأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدر، ومن حكمته أنه لا يقبل إلا التوبة النصوح دون حركة اللسان بالاستغفار، والإتيان ببعض المكفرات من الصدقات أو الأذكار، مع الإصرار على الذنوب والأوزار. فالمقيم على الذنب لا تطهر نفسه من دنسه بعمل طاعة أخرى وإن أحسن فيها وأخلص فكيف من يكون عمله لها صوريا تقليديا لا يمس سواد قلبه قط، ولا يدل على عنايته بأمر الدين، ولا خشيته لله رب العالمين، كألفاظ الاستغفار والتسبيح، ولذلك جمع في الآية السابقة بين التوبة وإصلاح العمل، ذكرنا بعض الآيات التي في معناها. وإن أردت الزيادة في هذا المعنى فراجع تفسير ما تقدم من الآيات كقوله تعالى: (فاغفر لنا ذنوبنا- إلى قوله- والمستغفرين بالأسحار) [آل عمران: 16] وقوله: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم) [آل عمران: 135].

وقد أشار الأستاذ الإمام هنا إلى نكتة ذكر صفة العلم وصفة الحكمة هنا بقريب مما ذكرناه وذكر غرور الجاهلين من الخلف الصالح بالأذكار القولية واعتمادهم عليها وظنهم أنها تنجيهم في الآخرة من المؤاخذة على الذنوب وإن أصروا عليها، وقال إن مثل هذا كان معهودا في الأديان السابقة وذلك أن الأمم استثقلت التكاليف لجهلها بفائدتها ففسقت عن أمر ربها واتبعت أهواءها وجعلت حظها من الدين بعض الأذكار والأوراد السهلة التي لا تمنعها من شهواتها وأهوائها شيئا فصار الدين عند أكثرهم عبارة عن حركات لسانية وبدنية لا تهذب خلقا ولا تصلح عملا، وقد اتبع الكثيرون منا سننهم شبرا بشبر وذراعا بذراع (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) [محمد:23].

بعدما بين تعالى حال من ضمن قبول توبتهم قال مبينا من قطع بأنه ليس لهم توبة مقبولة عنده: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن)

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

على أن الإسلام لا يغلق الأبواب في وجه الخاطئين والخاطئات، ولا يطردهم من المجتمع إن أرادوا أن يعودوا إليه متطهرين تائبين، بل يفسح لهم الطريق ويشجعهم على سلوكه. ويبلغ من التشجيع أن يجعل الله قبول توبتهم -متى أخلصوا فيها- حقا عليه سبحانه يكتبه على نفسه بقوله الكريم. وليس وراء هذا الفضل زيادة لمستزيدإن التوبة التي يقبلها الله، والتي تفضل فكتب على نفسه قبولها هي التي تصدر من النفس، فتدل على أن هذه النفس قد أنشئت نشأة أخرى. قد هزها الندم من الأعماق، ورجها رجا شديدا حتى استفاقت فثابت وأنابت، وهي في فسحة من العمر، وبحبوحة من الأمل، واستجدت رغبة حقيقية في التطهر، ونية حقيقية في سلوك طريق جديد..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

و {على} هنا حرف للاستعلاء المجازي بمعنى التعهّد والتحقّق كقولك: عليّ لك كذا فهي تفيد تحقّق التعهّد. والمعنى: التوبة تحقّ على الله، وهذا مجاز في تأكيد الوعد بقبولها حتّى جعلت كالحقّ على الله، ولا شيء بواجب على الله إلا وجوب وعده بفضله. قال ابن عطية: إخباره تعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يَقتضي وجوب تلك الأشياء سمعا وليس وُجوبا.

وقد تسلّط الحصر على الخبر، وهو {للذين يعملون}، وذكر له قيدان وهما {بجهالة} و {من قريب}. والجهالة تطلق على سوء المعاملة وعلى الإقدام على العمل دون رويَّة، وهي ما قابل الحِلم، ولذلك تطلق الجهالة على الظُلم...

وقال تعالى، حكاية عن يوسف « وإلاَّ تَصْرِفْ عنّي كَيْدَهُنّ أصْبُ إليْهن وأكُنْ من الجاهلين». والمراد هنا ظلم النفس، وذكر هذا القيد هنا لمجرّد تشويه عمل السوء، فالباء للملابسة، إذ لا يكون عمل السوء إلاّ كذلك. وليس المراد بالجهالة ما يطلق عليه اسم الجَهل، وهو انتفاء العلم بما فعله، لأنّ ذلك لا يسمّى جهالة، وإنّما هو من معاني لفظ الجَهل، ولو عمل أحد معصية وهو غير عالم بأنّها معصية لم يكن آثماً ولا يجب عليه إلاّ أن يتعلّم ذلك ويجتنّبه.

وقوله: {من قريب}، من فيه للابتداء و {قريب} صفة لمحذوف، أي من زمن قريب من وقت عمل السوء.

وتأوّل بعضهم معنى {من قريب} بأنّ القريب هو ما قبل الاحتضار، وجعلوا قوله بعده {حتى إذا حضر أحدهم الموت} يبيّن المراد من معنى (قريب).

واختلف المفسّرون من السلف ومَن بَعدهم في إعمال مفهوم القيدين « بجهالة من قريب» حتّى قيل: إنّ حكم الآية منسوخ بآية {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]، والأكثر على أنّ قيد (بجهالة) كوصف كاشف لعمل السوء لأنّ المراد عمل السوء مع الإيمان. فقد روى عبد الرزاق عن قتادة قال: اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فرأوْا أنّ كلّ عمل عصي الله به فهو جهالة عمداً كان أو غيرَه. والذي يظهر أنّهما قيدان ذكراً للتنبيه على أنّ شأن المسلم أن يكون عمله جارياً على اعتبار مفهوم القيدين وليس مفهوماهما بشرطين لقبول التوبة.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

{إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} التوبة هي الرجوع إلى الله تعالى وعلى أوامر دينه بعد الانحراف عنها، ويعرف الأصفهاني التوبة في الشرع بأنها ترك الذنب لقبحه تداركه من الأعمال بالإعادة، والتوبة على هذا النحو أعلى درجات الاعتذار، وذلك أن الاعتذار على أنواع ثلاثة؛ أحدها: وهو أدناها إنكار الوقوع، وهذا لا يتأتى بالنسبة للعلام الخبير الذي لا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض.

وثانيها: تبرير الفعل، وذلك أيضا لا يمكن أن يكون أمام الله تعالى، وثالثها: وهو أعلاها الاعتراف بالوقوع وبأنه لا مبرر له، وأنه يرجو الصفح والغفران، وأنه مقلع عما ارتكب، وذلك هو التوبة.

والتوبة إذا كانت قريبة من وقوع الذنب فقد وعدنا الله تعالى، ووعده الصدق الحق، بأن الله تعالى يقبلها. وتفضل الله سبحانه وتعالى تأكيدا للوعد، وحثا على التوبة، فعبر سبحانه بأن الغفران حق عليه، ولذا عبر سبحانه بلفظ "على "فقال: {إنما التوبة على الله} أي أن قبول التوبة حق على الله تعالى، وذلك أبلغ درجات الصفح والغفران، سبحانك إنك التواب الرحيم، غفار للذنوب.

وعبر سبحانه وتعالى ب" إنما" الدالة على الحصر، أي لا يكون قبول التوبة حقا على الله تعالى إلا بتحقق شروط ثلاثة:

أولها: أن يكون ذنبه ليس كثيرا ولم يحط بنفسه و قلبه، و لذلك قال تعالى: {يعملون السوء} أي يقع منهم ما يسيئ من غير أن تركس نفسه في السيئات وتحيط بها.

وثانيها: أن يكون الفعل {بجهالة} أي أنه وقع في حال غفوة الضمير و الضعف النفسي، و من غير إدراك للعواقب، ولا قصد للنتائج، وقد قال السلف: إن كل ذنب على هذا النحو يكون بجهالة.

وثالثها: أنهم {يتوبون من قريب}، بحيث لا يسترسل في الشر استرسالا، ويستمرئه ويكرره ويستمر عليه، وهؤلاء ممن قال الله تعالى فيهم: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون135} [آل عمران].

وذلك لأن من يفعل الذنب على ذلك النحو لا يستغرق قلبه، وقد ورد في الأثر" إن المذنب إذا أذنب نكتت نكتة سوداء في قلبه، ثم تتوالى النكت السوداء حتى يربد قلبه"، ومن يعمل السوء بجهالة ثم يتوب من قريب ليس كذلك، وقد أكد الله قبول التوبة فقال: {فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما}: أي هؤلاء الذين ارتكبوا عن جهالة بعض الذنوب، ولم تربد قلوبهم بتكرار الذنوب وتعددها واستمرائها والاستمرار عليها، يتوب الله عليهم أي يقبل توبتهم، ويأخذ بأيديهم إلى الهداية ويطهر نفوسهم من أرجاس الذنوب، وهذا ما تضمنه النص السامي {يتوب الله} أي يسبغ التوبة عليهم، وهي تتضمن معنى الاهتداء والاتجاه إليه سبحانه، وإسباغ التوبة عليهم هو إلقاء الطهر عليهم فتتطهر نفوسهم، وقد بين سبحانه أن ذلك مقتضى علمه وحكمته، فقال: {وكان الله عليما حكيما}: أي أن الله تعالى يعلم النفوس وحركاتها وخلجاتها وسكناتها وميولها وانحرافاتها، ويعلم ما يطهرها، وما يركسها، وما يهديها وما يغويها، وهو بحكمته يعالج أدواءها. وقبول التوبة أبلغ علاج، والصفح في أكثر أحواله دواء للأسقام التي تعرض للنفوس، ولم تستقر فيها استقرارا.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

ولنلتفت إلى دقة الأداء القرآني، هو سبحانه يقول:"إنما التوبة على الله" وقد يقول واحد: ما دام الحق شرع التوبة، فلأفعل ما أريد من المعاصي وبعد ذلك أتوب. نقول له: إنك لم تلتفت إلى الحكمة في إبهام ساعة الموت، فما الذي أوحى لك أنك ستحيا إلى أن تتوب؟ فقد يأخذك الموت فجأة وأنت على المعصية، وعليك ان تلتفت إلى دقة النص القرآني:

{إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما 17} (سورة النساء).

وفعل السوء بجهالة، أي بعدم استحضار العقوبة المناسبة للذنب، فلو استحضر الإنسان العقوبة لما فعل المعصية. بل هو يتجاهل العقوبة؛ لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن).

فلو كان إيمانه صحيحا ويتذكر تماما أن الإيمان يفرض عليه عدم الزنا، وأن عقوبة الزنا هي الجلد أو الرجم، لما قام بذلك الفعل.

والحق قد قال: "إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب "فهناك من يفعل المعصية ويخطط لها ويفرح بها ويزهى بما ارتكب ويفخر بزمن المعصية، وهناك من تقع عليه المعصية وبمجرد أن تنتهي يظل نادما ويضرب نفسه ويعذبها ويتساءل لماذا فعلت ذلك؟.

والله سبحانه حين قدر أمر التوبة على خلقه رحم الخلق جميعا بتقنين هذه التوبة، وإلا لغرق العالم في شرور لا نهاية لها، بداية من أول واحد انحرف مرة واحدة فيأخذ الانحراف عملا له، والمهم في التائب أن يكون قد عمل السوء بجهالة، ثم تاب من قريب. والرسول صلى الله عليه وسلم حين حدد معنى "من قريب" قال:

(إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر).

والحوار الذي دار بين الحق وبين إبليس: {قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين 39 إلا عبادك منهم المخلصين 40} (سورة الحجر).

إن إبليس قال ذلك وظن أنه سيهلك البشر جميعا ويوقعهم في المعصية إلا عباد الله الذين اصطفاهم وأخلصهم له، لكن الله سبحانه خيب ظنه وشرع قبول توبة العبد ما لم يغرغر، لم يصل إلى مرحلة خروج الروح من الجسد. فإذا ما قدم العبد التوبة لحظة الغرغرة فماذا يستفيد المجتمع؟ لن يستفيد المجتمع شيئا من مثل هذه التوبة؛ لأنه تاب وقت ألا شر له؛ لذلك فعلى العبد أن يتوب قبل ذلك حتى يرحم المجتمع من شرور المعاصي. "إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة" هل يتوب أولا، ثم يتوب الله عليه؟.

أنه سبحانه يقول:

{ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم} (من الآية 118 سورة التوبة).

هنا وقف العلماء وحق لهم أن يتساءلوا: هل يتوب العبد أولا وبعد ذلك يقبل الله التوبة؟ أم أن الله يتوب على العبد أولا ثم يتوب العبد؟، صريح الآية هو: "ثم تاب عليهم ليتوبوا" ونقول: وهل يتوب واحد ارتجالا منه، أو أن الله شرع التوبة للعباد؟. لقد شرع الله التوبة فتاب العبد، فقبل الله التوبة.

نحن إذن أمام ثلاثة أمور: هي أن الله شرع التوبة للعباد ولم يرتجل أحد توبته ويفرضها على الله، أي أن أحدا لم يبتكر التوبة، ولكن الذي خلقنا جميعا قدر أن الواحد قد يضعف أمام بعض الشهوات فوضع تشريع التوبة. وهو المقصود بقوله: "ثم تاب عليهم" أي شرع لهم التوبة وبعد ذلك يتوب العبد إلى الله "ليتوبوا" وبعد ذلك يكون القبول من الله وهو القائل:

{غافر الذنب وقابل التوب} (من الآية 3 سورة غافر).

تأمل كلمة "إنما التوبة على الله" تجدها في منتهى العطاء، فإذا كان الواحد فقيرا ومدينا وأحال دائنه إلى غنى من العباد فإن الدائن يفرح؛ لأن الغني سيقوم بسداد الدين وأدائه إلى الدائن، فما بالنا بالتوبة التي أحالها الله على ذاته بكل كماله وجماله، إنه قد أحال التوبة على نفسه لا على خلقه، وهو سبحانه أوجب التوبة على نفسه ولا يملك واحد أن يرجع فيها، ثم قال: "ثم يتوبون من قريب" أي أن العبد يرجو التوبة من الله، وحين قال: "فأولئك الذين يتوب الله عليهم" أي أن سبحانه قابل للتوب وغافر للذنب وحين يقول سبحانه: "وكان الله عليما حكيما"...

ويذيل الحق الآية:"وكان الله عليما حكيما "أي عليما بالتقنينات فشرع التوبة لعلمه جل شأنه بأنه لو لم يشرع التوبة، لكان المذنب لمرة واحدة سببا في شقاء العالم؛ لأنه حينئذ يكون يائسا من رحمة الله.

إذن فرحمة منه سبحانه بالعالم شرع الله التوبة. وهو حكيم فإياك أن يتبادر إلى ذهنك أن الحق قد حمى المجرم فحسب حين شرع له التوبة، إنه سبحانه قد حمى غير المجرم أيضا. وساعة نسمع الزمن في حق الحق سبحانه وتعالى كقوله:"كان "فلا نقول ذلك قياسا على زماننا نحن، أو على قدراتنا نحن، فكل ما هو متعلق بالحق علينا أن نأخذه في نطاق" ليس كمثله شيء".

فقد يقول كافر: "إن علم الله كان" ويحاول أن يفهمها على أنه علم قد حدث ولا يمكن تكراره الآن، لا، فعلم الله كان ولا يزال؛ لأن الله لا يتغير، ومادام الله لا يتغير، فالثابت له من قبل أزلا يثبت له أبدا. والحكمة هي وضع الشيء في موضعه. ومادام قد قدر سبحانه وضع الشيء، فالشيء إنما جاء من علم، وحين يطابق الشيء موضعه فهذه هي مطلق الحكمة.

والحق يقول: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما 17} (سورة النساء).

لقد شرع الله سبحانه التوبة ليتوب عباده، فإذا تابوا قبل توبتهم، وهذا مبني على العلم الشامل والحكمة الدقيقة الراسخة. وانظروا إلى دقة العبارة في قوله: "إنما التوبة على الله"، فساعة يوجد فعل إيجابي يقال: على من، لكن عندما لا يأتي بفعل إيجابي لا يقال: على من، بل يقال: ليس بالنفي. إن الحق عندما قرر التوبة عليه سبحانه وأوجبها على نفسه، للذين يعملون السوء بجهالة ويتوبون فورا، إنه يدلنا أيضا على مقابل هؤلاء، فيقول: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما 18}.