الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (17)

قوله تعالى : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ } : قد تقدَّم الكلام على " إنما " في أول البقرة وما قيل فيها . و " التوبة " مبتدأ ، وفي خبرها وجهان ، أظهرهما : أنه " على الله " أي : إنما التوبة مستقرة على فضل الله ، ويكون " للذين " متعلقاً بما تعلَّق به الخبر . وأجاز أبو البقاء عند ذِكْرِه هذا الوجهَ أن يكونَ " للذين " متعلقاً بمحذوف على أنه حال قال : " فعلى هذا يكون " للذين يعملون السوء " حالاً من الضمير في الظرف وهو " على الله " ، والعاملُ فيها الظرفُ أو الاستقرار أي : كائنةً للذين ، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ في الحالِ التوبة لأنه قد فُصِل بينهما بالخبر " ، وهذا الذي قاله فيه تكلُّفٌ لا حاجةَ إليه .

الثاني : أن يكونَ الخبرُ " للذين " و " على الله " متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من شيء محذوف ، والتقدير : " إما التوبةُ إذا كانت أو إذ كانت على الله للذين يعملون " ، ف " إذا " و " إذ " معمولان ل " الذين " ؛ لأنَّ الظرفَ يتقدم على عامله المعنوي . و " كان " هذه التامَّةُ وفاعلُها هو صاحب الحال . ولا يجوز أن تكون " على الله " حالاً من الضمير المستتر في " للذين " ، والعامل فيها " للذين " لأنه عامل معنوي ، والحال لا تتقدم على عامِلها المعنوي . هذا ما قاله أبو البقاء ، ونَظَّر هذه المسألةَ بقولِهم : " هذا بُسْراً أطيبُ منه رُطَباً " يعني أنَّ التقديرَ هنا : إذ كان بُسْراً أطيبُ منه إذْ كان رُطَباً ، ففي هذه المسألة أقوال كثيرة مضطربة لا يحتملها هذا الكتاب . وقدَّر الشيخ مضافين حُذِفا من المبتدأ والخبر فقال : " التقديرُ : إنما قبولُ التوبةِ مترتبٌ على فضلِ الله ، ف " على " باقيةٌ على بابها " يعني من الاستعلاء .

قوله : { بِجَهَالَةٍ } فيه وجهان ، أحدهما : أن يتعلق بمحذوف على أنه حالٌ من فاعل " يعملون " ، ومعناها المصاحبة أي : يعملون السوءَ ملتبسين بجهالةٍ أي : مصاحبين لها ، ويجوز أن يكون حالاً من المفعولِ أي : ملتبساً بجهالة ، وفيه بُعْدٌ وَتَجَوُّزٌ .

والثاني : أن يتعلق ب " يعملون " على أنها باء السببية . قال الشيخ : " أي : الحاملُ لهم على عملِ السوءِ هو الجهالة ، إذ لو كانوا عالمين بما يترتَّب على المعصية متذكرين له حالَ عملها لم يَقْدُموا عليها كقوله : " لا يَزْني الزاني حين يزني وهو مؤمن " لأن العقل حينئذ يكون مغلوباً أو مسلوباً .

قوله : { مِن قَرِيبٍ } فيه وجهان : أحدهما : أن تكون " من " لابتداءِ الغاية أي : تبتدئ التوبة من زمانٍ قريب من زمان المعصية لئلا يقعَ في الإِصرار ، وهذا إنما يتأتَّى على قول الكوفيين ، وأما البصريون فلا يجيزون أن تكون " مِنْ " لابتداء الغاية في الزمان ، ويتأوَّلون ما جاء منه ، ويكون مفهومُ الآية أنه لو تاب من زمانٍ بعيد لم يدخُلْ في مَنْ خُصَّ بكرامةِ قَبولِ التوبة على الله المذكورةِ في هذه الآية ، بل يكون داخلاً فيمن قال فيهم " فأولئك عسى الله أن يتوب عليهم " .

والثاني : أنها للتبعيض أي : بعضَ زمانٍ قريب ، يعني : أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتوبة فيه فهو تائب من قريب . وعلى الوجهين ف " مِنْ " متعلقة ب " يتوبون " ، و " قريب " صفة لزمان محذوف كما تقدَّم تقريره ، إلا أنَّ حَذْفَ هذا الموصوف وإقامةَ هذه الصفةِ مُقامه ليس بقياسٍ ، إذ لا ينقاس الحَذْفُ إلا في صور ، منها أن تكونَ الصفةُ جَرَتْ مَجْرى الأسماء الجوامد كالأبطح والأبرق ، أو كانت خاصةً بجنس الموصوف نحو مررت بكاتبٍ ، أو تقدَّم ذِكْرُ موصوفها نحو : " اسقِني ماءً ولو بارداً ، وما نحن فيه ليس شيئاً من ذلك .

وفي قوله : { ثُمَّ يَتُوبُونَ } إعلامٌ بسَعَةِ عفوه ، حيث أتى بحرف التراخي . والفاء في قوله " فأولئك " مؤذنةٌ بتسبُّبِ قَبول الله توبتَهم إذا تابوا من قريب . وضَمَّن " يتوب " معنى يَعْطِفُ فلذلك عَدَّى ب " على " . ، وأمَّا قولُه : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ } فراعَى المضافَ المحذوف إذ التقدير : إنما قبولُ التوبةِ على الله ، كذا قال الشيخ وفيه نظر .