الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (17)

فيهما أربع مسائل :

الأولى : قوله تعالى : " إنما التوبة على الله " قيل : هذه الآية عامة لكل من عمل ذنبا . وقيل : لمن جهل فقط ، والتوبة لكل من عمل ذنبا في موضع آخر . واتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين ؛ لقوله تعالى : " وتوبوا إلى الله جميعا آيه المؤمنون " {[4165]} . [ النور : 31 ] . وتصح من ذنب مع الإقامة على غيره من غير نوعه خلافا للمعتزلة في قولهم : لا يكون تائبا من أقام على ذنب . ولا فرق بين معصية ومعصية - هذا مذهب أهل السنة . وإذا تاب العبد فالله سبحانه بالخيار إن شاء قبلها ، وإن شاء لم يقبلها . وليس قبول التوبة واجبا على الله من طريق العقل كما قال المخالف ؛ لأن من شرط الواجب أن يكون أعلى رتبة من الموجب عليه ، والحق سبحانه خالق الخلق ومالكهم ، والمكلف لهم ، فلا يصح أن يوصف بوجوب شيء عليه ، تعالى عن ذلك ، غير أنه قد أخبر سبحانه وهو الصادق في وعده بأنه يقبل التوبة عن العاصين من عباده بقوله تعالى : " وهو يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات " {[4166]} [ الشورى : 25 ] . وقوله : " ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده " {[4167]} [ التوبة : 104 ] وقوله : " وإني لغفار لمن تاب " {[4168]} [ طه : 82 ] فإخباره سبحانه وتعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء . والعقيدة أنه لا يجب عليه شيء عقلا ، فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب . قال أبو المعالي وغيره : وهذه الظواهر إنما تعطي غلبة ظن ، لا قطعا على الله تعالى بقبول التوبة . قال ابن عطية : وقد خولف أبو المعالي وغيره في هذا المعنى . فإذا فرضنا رجلا قد تاب توبة نصوحا تامة الشروط فقال أبو المعالي : يغلب على الظن قبول توبته . وقال غيره : يقطع على الله تعالى بقبول توبته كما أخبر عن نفسه جل وعز . قال ابن عطية : وكان أبي رحمه الله يميل إلى هذا القول ويرجحه ، وبه أقول ، والله تعالى أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التائب المفروض معنى قوله : " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده " [ الشورى : 25 ] وقوله تعالى : " وإني لغفار " [ طه : 82 ] . وإذا تقرر هذا فاعلم أن في قوله " على الله " حذفا وليس على ظاهره ، وإنما المعنى على فضل الله ورحمته بعباده . وهذا نحو قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : ( أتدري ما حق العباد على الله ) ؟ قال : الله ورسوله أعلم . قال : ( أن يدخلهم الجنة ) . فهذا كله معناه : على فضله ورحمته بوعده الحق وقوله الصدق . دليله قوله تعالى : " كتب على نفسه الرحمة " {[4169]} [ الأنعام : 12 ] أي وعد بها . وقيل : " على " ههنا معناها " عند " والمعنى واحد ، التقدير : عند الله ، أي إنه وعد ولا خلف في وعده أنه يقبل التوبة إذا كانت بشروطها المصححة لها ، وهي أربعة : الندم بالقلب ، وترك المعصية في الحال ، والعزم على ألا يعود إلى مثلها ، وأن يكون ذلك حياء من الله تعالى لا من غيره ، فإذا اختل شرط من هذه الشروط لم تصح التوبة . وقد قيل من شروطها : الاعتراف بالذنب وكثرة الاستغفار ، وقد تقدم في " آل عمران " كثير من معاني التوبة وأحكامها{[4170]} . ولا خلاف فيما أعلمه أن التوبة لا تسقط حدا{[4171]} ؛ ولهذا قال علماؤنا : إن السارق والسارقة والقاذف متى تابوا وقامت الشهادة عليهم أقيمت عليهم الحدود . وقيل : " على " بمعنى " من " أي إنما التوبة من الله للذين ؛ قاله أبو بكر بن عبدوس ، والله أعلم . وسيأتي في " التحريم " {[4172]} الكلام في التوبة النصوح والأشياء التي يتاب منها .

الثانية : قوله تعالى : " للذين يعملون السوء بجهالة " السوء في هذه الآية ، و " الأنعام " . " أنه من عمل منكم سوءا بجهالة " {[4173]} [ الأنعام : 54 ] يعم الكفر والمعاصي ، فكل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته . قال قتادة : أجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة ، عمدا كانت أو جهلا . وقال ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد والسدي . وروي عن الضحاك ومجاهد أنهما قالا : الجهالة هنا العمد . وقال عكرمة : أمور الدنيا كلها جهالة ، يريد الخاصة بها الخارجة عن طاعة الله . وهذا القول جار مع قوله تعالى : " إنما الحياة الدنيا لعب ولهو " {[4174]} [ محمد : 36 ] . وقال الزجاج : يعني قوله " بجهالة " اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية . وقيل : " بجهالة " أي لا يعلمون كنه العقوبة ؛ ذكره ابن فورك . قال ابن عطية : وضعف قوله هذا ورد عليه .

الثالثة : قوله تعالى : " ثم يتوبون من قريب " قال ابن عباس والسدي : معناه قبل المرض والموت . وروي عن الضحاك أنه قال : كل ما كان قبل الموت فهو قريب . وقال أبو مجلز والضحاك أيضا وعكرمة وابن زيد وغيرهم : قبل المعاينة للملائكة والسوق{[4175]} ، وأن يغلب المرء على نفسه . ولقد أحسن محمود الوراق حيث قال :

قدم لنفسك توبة مرجوة *** قبل الممات وقبل حبس الألسن

بادر بها غَلْقَ{[4176]} النفوس فإنها *** ذخر وغنم للمنيب المحسن

قال علماؤنا رحمهم الله : وإنما صحت التوبة منه في هذا الوقت ؛ لأن الرجاء باق ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل . وقد روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) . قال : هذا حديث حسن غريب . ومعنى ما لم يغرغر : ما لم تبلغ روحه حلقومه ؛ فيكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به . قال الهروي وقيل : المعنى يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار . والمبادر في الصحة أفضل ، وألحق لأمله من العمل الصالح . والبعد كل البعد الموت ، كما قال :

وأين مكان البعد إلا مكانيا{[4177]}

وروى صالح المري عن الحسن قال : من عير أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه ابتلاه الله به . وقال الحسن أيضا : إن إبليس لما هبط قال : بعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام الروح في جسده . قال الله تعالى : ( فبعزتي لا أحجب التوبة عن ابن آدم ما لم تغرغر نفسه ) .


[4165]:راجع ج 12 ص 238.
[4166]:راجع ج 16 ص 25 فما بعد.
[4167]:راجع ج 8 ص 250.
[4168]:راجع ج 11 ص 231.
[4169]:راجع ج 6 ص 395.
[4170]:راجع ج 4 ص 130.
[4171]:راجع ج 6 ص 174 ففيها الخلاف في المسألة.
[4172]:راجع ج 18 ص 197 فما بعد.
[4173]:راجع ج 6 ص 436.
[4174]:راجع ج 16 ص 257 و ج 6 ص 414 و ج 17 ص 254.
[4175]:السوق: النزع، كأن روحه تساق لتخرج من بدنه.
[4176]:يقال: غلق الرهن إذا لم يقدر على افتكاكه. يريد: بادر بالتوبة قبل ضياع الفرصة.
[4177]:هذا عجز بيت لمالك بن الريب المازني، وصدره: يقولون لا تبعد وهم يدفنوني