تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (17)

{ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهلة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما ، وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال أني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما } .

المفردات :

السوء : القبح والمراد المعاصي مطلقا .

بجهالة : الجهالة : الجهل والسفه وارتكاب ما لا يليق بالعقلاء وليس المراد عدم العلم فإن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة وقال الزجاج الجهالة اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية .

التفسير :

{ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهلة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما } .

المعنى العام :

إنما قبول التوبة كائن أو مستقر على الله تعالى لعباده الذين يعملون السيئات في حال الحماقة والطيش وعدم التبصر ثم يبادرون بالتوبة قبل حضور الموت ، فهؤلاء يقبل الله توبتهم ، وهو عليم لا يخفى عليه صدق التوبة حكيم لا يخطئ في تقدير .

التوبة في القرآن والسنة :

فتح الله باب التوبة على مصراعيه ودعا عباده إلى التوبة وتعهد بقبولها من التائبين وذلك أن كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون .

ولم يجعل الله وسطاء بينه وبين عباده فقد خلقهم ورزقهم وهو اعلم بهم وفي القرآن الكريم آيات عديدة تحث على التوبة وتدعو إليها ، وتبين فضل الله العظيم في قبولها .

قال تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم } ( الزمر 53 ) .

وقال سبحانه : { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكورا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون . ( آل عمران 135 ) .

وقال عز شأنه : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو اعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } . ( النجم 32 ) .

وفي الحديث الصحيح : " ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فينادي : أي عبادي هل من داع فأستجيب له ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من تائب فأتوب عليه ؟ حتى يطلع الفجر . . . " .

وروى الأمام أحمد في مسنده أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله عز وجل : " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تضلون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم . . " 58

***

التوبة من قريب :

قال تعالى :

{ إنما التوبة على الله للذين يعلمون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب59 .

ومعنى ثم يتوبون في زمن قريب من وقت عمل السوء ولا يسترسلون في الشر استرسالا ويستثمرونه ويتعودون عليه دون مبالاة .

ولا شك انه متى جدد الإنسان توبته الصادقة في أعقاب ارتكابه للمعصية ، كان أرجى لقبولها عند الله تعالى وهذا ما يفيده ظاهر الآية .

ومنهم من فسر قوله : من قريب . ما قبل حضور الموت وإلى هذا المعنى ذهب صاحب الكشاف فقال : " من قريب أي من زمان قريب والزمان القريب : ما قبل حضرة الموت ، ألا ترى إلى قوله : " حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن .

. . " فبين أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة فبقي ما وراء ذلك في حكم القريب .

وجاء في تفسير ابن كثير ما يفيد أن التوبة من قريب أي قبل الموت ، ونقل من الآثار والأحاديث النبوية الشريفة ما يؤيد ذلك . فقال عن ابن عباس : ثم يتوبون من قريب قال : ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت .

وقال الضحاك : ما كان دون الموت فهو قريب .

وقال قتادة والسدى : ما دام في صحته .

وقال الحسن البصري : ثم يتوبون من قريب . ما لم يغرغر60 .

روى الإمام أحمد عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " 61 .