السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (17)

{ إنما التوبة على الله } أي : إن قبول التوبة كالمحتوم على الله تفضلاً منه بمقتضى وعد ؛ لأنه تعالى وعد بقبول التوبة فإذا وعد شيئاً لا بدّ أن ينجز وعده ؛ لأن الخلف في وعده سبحانه وتعالى محال { للذين يعملون السوء } أي : المعصية وقوله تعالى : { بجهالة } في موضع الحال أي : يعملون السوء جاهلين أي : سفهاً فإن ارتكاب الذنب مما يدعو إليه السفه والشهوة لا ما تدعو إليه الحكمة والعقل ، وعن مجاهد : من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع أي : يخرج من جهالته ، وقال قتادة : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل ما عصي به الله فهو جهالة عمداً كان أو لم يكن ، وكل من عصى الله تعالى فهو جاهل { ثم يتوبون من } زمن { قريب } أي : قبل أن يغرغروا لقوله تعالى : { حتى إذا حضر أحدهم الموت } وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) رواه الترمذي وحسنه . وعن عطاء ولو قبل موته بفواق ناقة ، وعن الحسن إن إبليس قال حين أهبط إلى الأرض : وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام روحه في جسده فقال : وعزتي وجلالي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر . والغرغرة تردّد الروح في الحلق .

تنبيه : معنى ( من ) في قوله تعالى { من قريب } التبعيض أي : يتوبون بعض زمان قريب كأنه سمى ما بين وجود المعصية وبين حضور الموت زمناً قريباً ؛ لأن أمد الحياة قريب لقوله تعالى : { قل متاع الدنيا قليل } ( النساء ، 77 ) .

ففي أي جزء تاب من أجزاء هذا الزمان فهو تائب من قريب وإلا فهو تائب من بعيد { فأولئك يتوب الله عليهم } أي : يقبل توبتهم .

فإن قيل : ما فائدة ذلك بعد قوله تعالى : { إنما التوبة على الله } ؟ أجيب : بأنّ ذلك وعد بالوفاء بما وعد به وكتبه على نفسه كما يعد العبد الوفاء بما عليه { وكان الله عليماً } بخلقه { حكيماً } في صنعه بهم .