فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَـٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (17)

{ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما ( 17 ) }

{ إنما التوبة على الله } استئناف لبيان أن التوبة ليست بمقبولة على الإطلاق كما ينبئ عنه قوله { توابا رحيما } بل إنما يقبل من البعض دون البعض كما بينه النظم القرآني ههنا ، وقيل المعنى إنما التوبة على فضل الله ورحمته لعباده .

وقيل المعنى إنما التوبة واجبة على الله ، وهذا على مذهب المعتزلة لأنهم يوجبون على الله عز وجل واجبات من جملتها قبول توبة التائبين .

وقال أهل المعاني : المعنى أوجب على نفسه من غير إيجاب أحد عليه لأنه يفعل ما يريد ، وقيل على هنا بمعنى عند ، وقيل بمعنى من .

وقد اتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين لقوله تعالى { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون } وذهب الجمهور إلى أنها تصح من ذنب دون ذنب خلافا للمعتزلة .

وقيل إن قوله { على الله } هو الخبر ، وقوله الآتي { للذين } متعلق بما تعلق به الخبر ، إلا أن الذي يقتضيه المقام ويستدعيه النظام هو كون للذين خبرا ، وقال أبو حيان التقدير إنما قبول التوبة مترتب على فضل الله ، فتكون { على } هنا باقية على أصلها .

{ للذين يعملون السوء } أي العمل السيء والمعصية متصفين { بجهالة } أو جاهلين إذا عصوا ، قال أبو العالية هذه للمؤمنين ، وقد حكى القرطبي عن قتادة أنه قال : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية بجهالة عمدا كانت أم جهلا ، وحكى عن الضحاك ومجاهد أن الجهالة هنا العمد .

وقال عكرمة : أمورنا الدنيا كلها جهالة ، ومنه قوله تعالى { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } وقال الزجاج : معنى بجهالة اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية ، وقيل معناه أنهم لا يعلمون كنة العقوبة ، ذكره ابن فورك وضعفه ابن عطية .

وعن أبي العالية أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة ، وعن ابن عباس قال : من عمل السوء فهو جاهل من جهالته عمل السوء .

{ ثم يتوبون من قريب } معناه قبل أن يحضرهم الموت كما يدل عليه قوله { حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن } وبه قال أبو مجلز الضحاك وعكرمة وغيرهم ، وقيل المراد قبل المعاينة للملائكة وغلبة المرء على نفسه .

ومن للتبعيض أي يتوبون بعض زمان قريب ، وهو ماعدا وقت حضور الموت ، وإنما كان الزمن الذي بين فعل المعصية وبين وقت الغرغرة قريبا ولو كان سنين لأن كل ما هو آت قريب وإن طال قليل .

وفيه تنبيه على أن الإنسان ينبغي له أن يتوقع في كل ساعة نزول الموت به ، وقيل معناه قبل المرض وهو ضيف بل باطل لما قدمنا ولما أخرجه أحمد والترمذي وحسنه ابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر{[429]} .

وقيل معناه يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار ، قال ابن عباس : في الحياة والصحة ، وقال الضحاك : كل شيء قبل الموت فهو قريب له التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملك الموت ، فإذا تاب حين ينظر ملك الموت فليس له ذلك ، وقال الحسن القريب ما لم يغرغر .

وقد وردت أحاديث كثيرة في قبول توبة العبد ما لم يغرغر ذكرها ابن كثير في تفسيره ، ومنها الحديث الذي قدمنا ذكره ، والغرغرة أن يجعل المشروب في فم المريض فيرده في الحلق ولا يصل إلى جوفه ، ولا يقدر على بلعه . وذلك عند بلوغ الروح إلى الحلقوم . وقيل الغرغرة تردد الروح في الحلق .

{ فأولئك يتوب الله عليهم } وهو وعد منه سبحانه بأنه يتوب عليهم ويقبل توبتهم بعد بيانه أن التوبة لهم مقصورة عليهم { وكان الله عليما } بما في قلوبهم من التصديق فحكم بالتوبة قبل الموت ولو بقدر فواق ناقة ، وقيل علم أنه أتى بتلك المعصية باستيلاء الشهوة والجهالة عليه فحكم بالتوبة لمن تاب عنها وأناب عن قريب { حكيما } في صنعه . {[430]}


[429]:صحيح الجامع الصغير1899. زاد المسير5/37.
[430]:وقد وردت الأحاديث في التوبة كثيرة منها: عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون "رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي وإسناده حسن". عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلكم الران ذكره الله تعالى، رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حديث حسن صحيح.