ثم ألزم الحجة على منكري البعث فقال : { يا أيها الناس إن كنتم في ريب } يعني : في شك { من البعث فإنا خلقناكم } يعني : أباكم آدم الذي هو أصل النسل { من تراب ثم من نطفة } يعني : ذريته ، والنطفة هي المني ، وأصلها الماء القليل وجمعها نطاف { ثم من علقة } وهي : الدم الغليظ المتجمد ، الطري وجمعها علق ، وذلك أن النطفة تصير دماً غليظاً ثم تصير لحماً { ثم من مضغة } وهي لحمة قليلة قدر ما يمضع { مخلقة وغير مخلقة } قال ابن عباس وقتادة : { مخلقة } أي : تامة وغير مخلقة غير تامة . أي : ناقصة الخلق . وقال مجاهد : مصورة وغير مصورة ، يعني السقط . وقيل : المخلقة الولد الذي تأتي به المرأة لوقته وغير المخلقة السقط . روي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال : إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه وقال : أي رب مخلقة أو غير مخلقة ؟ فإن قال : غير مخلقة ، قذفها الرحم دماً ولم تكن نسمة ، وإن قال : مخلقة ، قال الملك : أي رب أذكر أم أنثى ، أشقي أم سعيد ؟ ما الأجل ما العمل ما الرزق وبأي أرض تموت ؟ فيقال له : اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك ، فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها ، فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفته . { لنبين لكم } كمال قدرتنا وحكمتنا في تصريف أطوار خلقكم ولتستدلوا بقدرته في ابتداء الخلق على قدرته على الإعادة . وقيل : لنبين لكم ما تأتون وما تذرون وما تحتاجون إليه في العبادة . { ونقر في الأرحام ما نشاء } فلا تمجه ولا تسقطه { إلى أجل مسمى } إلى وقت خروجها من الرحم تامة الخلق والمدة . { ثم نخرجكم } من بطون أمهاتكم { طفلاً } أي : صغراً ، ولم يقل : أطفالاً ، لأن العرب تذكر الجمع باسم الواحد . وقيل : تشبيهاً بالمصدر مثل عدل وزور . { ثم لتبلغوا أشدكم } يعني : الكمال والقوة . { ومنكم من يتوفى } من قبل بلوغ الكبر ، { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } أو الهرم والخرف { لكيلا يعلم من بعد علم شيئا } أي : يبلغ من السن ما يتغير عقله فلا يعقل شيئاً . ثم ذكر دليلاً آخر على البعث فقال : { وترى الأرض هامدة } أي : يابسة لا نبات فيها ، { فإذا أنزلنا عليها الماء } المطر ، { اهتزت } تحركت بالنبات وذلك أن الأرض ترتفع بالنبات فذلك تحركها ، { وربت } أي : ارتفعت وزادت ، وربأت بالهمزة ، وكذلك في حم السجدة . أي ارتفعت وعلت . قال المبرد : أراد اهتز وربا نباتها ، فحذف المضاف ، والاهتزاز في النبات أظهر ، يقال : اهتز النبات أي : طال وإنما أنث لذكر الأرض . وقيل : فيه تقديم وتأخير معناه : ربت واهتزت { وأنبتت من كل زوج بهيج } أي : صنف حسن يبهج به من رآه ، أي : يسر ، فهذا دليل آخر على البعث .
{ 5 - 7 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ *ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ }
يقول تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ } أي : شك واشتباه ، وعدم علم بوقوعه ، مع أن الواجب عليكم أن تصدقوا ربكم ، وتصدقوا رسله في ذلك ، ولكن إذا أبيتم إلا الريب ، فهاكم دليلين عقليين تشاهدونهما ، كل واحد منهما ، يدل دلالة قطعية على ما شككتم فيه ، ويزيل عن قلوبكم الريب .
أحدهما : الاستدلال بابتداء خلق الإنسان ، وأن الذي ابتدأه سيعيده ، فقال فيه : { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ } وذلك بخلق أبي البشر آدم عليه السلام ، { ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } أي : مني ، وهذا ابتداء أول التخليق ، { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } أي : تنقلب تلك النطفة ، بإذن الله دما أحمر ، { ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ } أي : ينتقل الدم مضغة ، أي : قطعة لحم ، بقدر ما يمضغ ، وتلك المضغة تارة تكون { مُخَلَّقَةٍ } أي : مصور منها خلق الآدمي ، { وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } تارة ، بأن تقذفها الأرحام قبل تخليقها ، { لِنُبَيِّنَ لَكُمْ } أصل نشأتكم ، مع قدرته تعالى ، على تكميل خلقه في لحظة واحدة ، ولكن ليبين لنا كمال حكمته ، وعظيم قدرته ، وسعة رحمته .
{ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي : ونقر ، أي : نبقي في الأرحام من الحمل ، الذي لم تقذفه الأرحام ، ما نشاء إبقاءه إلى أجل مسمى ، وهو مدة الحمل . { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ } من بطون أمهاتكم { طِفْلًا } لا تعلمون شيئا ، وليس لكم قدرة ، وسخرنا لكم الأمهات ، وأجرينا لكم في ثديها الرزق ، ثم تنتقلون طورا بعد طور ، حتى تبلغوا أشدكم ، وهو كمال القوة والعقل .
{ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى } من قبل أن يبلغ سن الأشد ، ومنكم من يتجاوزه فيرد إلى أرذل العمر ، أي : أخسه وأرذله ، وهو سن الهرم والتخريف ، الذي به يزول العقل ، ويضمحل ، كما زالت باقي القوة ، وضعفت .
{ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } أي : لأجل أن لا يعلم هذا المعمر شيئا مما كان يعلمه قبل ذلك ، وذلك لضعف عقله ، فقوة الآدمي محفوفة بضعفين ، ضعف الطفولية ونقصها ، وضعف الهرم ونقصه ، كما قال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } والدليل الثاني ، إحياء الأرض بعد موتها ، فقال الله فيه : { وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً } أي : خاشعة مغبرة لا نبات فيها ، ولا خضر ، { فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ } أي : تحركت بالنبات { وَرَبَتْ } أي : ارتفعت بعد خشوعها وذلك لزيادة نباتها ، { وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ } أي : صنف من أصناف النبات { بَهِيجٍ } أي : يبهج الناظرين ، ويسر المتأملين ، فهذان الدليلان القاطعان ، يدلان على هذه المطالب الخمسة ، وهي هذه .
ثم ساق - سبحانه - أهم القضايا التى جادل فيها المشركون بغير علم ، واتبعوا فى جدالهم خطوات الشيطان ، وهى قضية البعث ، وأقام الأدلة على صحتها ، وعلى أن البعث حق وواقع فقال - تعالى - : { ياأيها الناس . . . } .
قال أبو حيان فى البحر : لما ذكر - سبحانه - من يجادل فى قدرة الله بغير علم ، وكان جدالهم فى الحشر والمعاد ، ذكر دليلين واضحين على ذلك . أحدهما : فى نفس الإنسان وابتداء خلقه . وتطوره فى أطوار سبعة ، وهى : التراب ، والنطفة ، والعلقة ، والمضغة ، والإخراج طفلا ، وبلوغ الأشد ، والتوفى أو الرد إلى أرذل العمر .
والدليل الثانى : فى الأرض التى يشاهد تنقلها من حال إلى حال فإذا اعتبر العاقل ذلك ثبت عنده جوازه عقلا ، فإذا ورد الشرع بوقوعه ، وجب التصديق به ، وأنه واقع لا محالة .
والمراد بالناس هنا : المشركون وكل من كان على شاكلتهم فى إنكار أمر البعث واستبعاده ، لأن المؤمنين يعترفون بأن البعث حق ، وأنه واقع بلا أدنى شك أو ريب .
والمعنى : يأيها الناس إن كنتم فى شك من أمر إعادتكم إلى الحياة مرة أخرى للحساب يوم القيامة ، فانظروا وتفكروا فى مبدأ خلقكم ، فإن هذا التفكر من شأنه أن يزيل هذا الشك ، لأن الذى أوجدكم الإيجاد الأول . وخلقكم من التراب ، قادر على إعادتكم إلى الحياة مرة أخرى ، إذ الإعادة - كما يعرف كل عاقل - أيسر من ابتداء الفعل .
وقد قرب - سبحانه - هذا المعنى فى أذهانكم فى آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - : { وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المثل الأعلى فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } وأتى - سبحانه - بأن المفيدة للشك فقال : { إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث } مع أن كونهم فى ريب أمر محقق تنزيلاً للمحقق منزلة المشكوك فيه ، وتنزيهاً لموضوع البعث عن أن يتحقق الشك فيه من أى عاقل ، وتوبيخا لهم لوضعهم الأمور فى غير مواضعها .
ووجه الإتيان بفى الدالة على الظرفية ، للإشارة إلى أنهم قد امتلكهم الريب وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف .
قال الآلوسى : " وقوله { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } دليل جواب الشرط ، أو هو الجواب بتأويل ، أى : إن كنتم فى ريب من البعث ، فانظروا إلى مبدأ خلقكم ليزول ريبكم ، فإنا خلقناكم من تراب ، وخلقهم من تراب فى ضمن خلق أبيهم آدم منه . . " .
وقال بعض العلماء ما ملخص : والتحقيق فى معنى قوله - تعالى { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } : أنه - سبحانه - خلق أباهم آدم منه ، ثم خلق من آدم زوجه حواء ، ثم خلق الناس منهما عن طريق التناسل .
فلما كان أصلهم الأول من تراب ، أطلق عليهم أنه خلقهم من تراب ؛ لأن الفروع تتبع الأصل . وعلى ذلك يكون خلقهم من تراب هو الطور الأول . . " .
ثم بين - سبحانه - الطور الثانى من أطوار خلق الإنسان فقال : { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } وهذا اللفظ مأخوذ من النطف - بفتح النون مع التشديد وإسكان الطاء - بمعنى السيلان والتقاطر .
يقال : نطفت القربة ، إذا تقاطر الماء منها بقلة .
والنطفة تطلق فى اللغة : على الماء القليل ، والمراد بها هنا : الماء المختلط من الرجل والمرأة عند الجماع ، والمعبر عنه بالمنى .
وقوله { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } هو الطور الثالث . والعلقة جمعها علق ، وهى قطعة من الدم جامدة ، تتحول إليها النطفة .
وقوله : { ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ } هو الطور الرابع ، والمضغة قطعة صغيرة من اللحم تحول إليها العلقة .
وقوله - سبحانه - { مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } صفة للمضغة .
والمراد بالمخلقة : التامة الخلقة ، السالمة من العيوب ، والمراد بغير المخلقة : ما ليست كذلك كأن تكون ناقصة الخلقة .
وقد اكتفى بهذا المعنى صاحب الكشاف فقال : " والمخلقة " المستواة الملساء من النقصان والعيب : يقال : خلق السواك والعود ، إذا سواه وملسه ، من قولهم : صخرة خلقاء ، إذا كانت ملساء . كأن الله - تعالى - يخلق المضغ متفاوتة . منها . ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ، ومنها ما هو على عكس ذلك ، فيتبع ذلك التفاوت ، تفاوت الناس فى خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم . . " .
وقيل : " مخلقة " أى : مستبينة الخلق ، ظاهرة التصوير . " وغير مخلقة " أى : لم يستبن خلقها ولا ظهر تصويرها كالسقط الذى هو مضغة ولم تظهر صورته الإنسانية بعد .
وقيل : " مخلقة " أى : نفخ فيها الروح . " وغير مخلقة " أى : لم ينفخ فيها الروح .
ويبدو لنا أن ما ذهب إليه صاحب الكشاف واكتفى به أولى بالقبول ، لأنه هو المشهور من كلام العرب . فهم يقولون : حجر أخلق أى : أملس مصمت لا يؤثر فيه شىء ، وصخرة خلقاء ، أى : ليس بها تشويه أو كسر .
وقوله - تعالى - : { لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ } متعلق بقوله : { خَلَقْنَاكُمْ } أى : خلقناكم على هذا النحو العجيب ، وفى تلك الأطوار البديعة . لنبين لكم كمال قدرتنا ، وبليغ حكمتنا . وأننا لا يعجزنا إعادة كل حى إلى الحياة بعد موته .
وحذف مفعول " نبين " للإشعار بأن أفعاله - تعالى - الدالة على كمال قدرته ، لا يحيط بها وصف ، ولا تمدها عبارة . . .
أى : لنبين لكم عن طريق المشاهدة ، ما يدل على كمال قدرتنا دلالة يعجز الوصف عن الإحاطة بها .
وقوله - تعالى - : { وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } كلام مستأنف مسوق لبيان أحوال الناس بعد تمام خلقهم ، وتوارد تلك الأطوار عليهم .
أى : ونقر ونثبت فى أرحام الأمهات ما نشاء إقراره وثبوته فيها من الأجنة والأحمال ، إلى أجل معلوم عندنا . وهو الوقت المحدد للولادة والوضع ، وما لم نشأ إقراره من الحمل لفظته الأرحام وأسقطته ، إذ كل شىء بمشيئتنا وإرادتنا .
وقوله - تعالى - : { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } بيان للطور الخامس من أطوار خلق الإنسان .
أى : ثم نخرجكم من أرحام أمهاتكم بعد استقراركم فيها إلى الوقت الذى حددناه ، طفلاً صغيراً . أى : أطفالاً صغاراً ، وإنما جاء مفرداً باعتبار إرادة الجنس الشامل للواحد والمتعدد ، او باعتبار كل واحد منهم ، وهو حال من ضمير المخاطبين .
ومن الأساليب العربية المعهودة ، أن الاسم المفرد إذا كان اسم جنس . يكثر إطلاقه على الجمع ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } أى : أئمة . وقوله - سبحانه - { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً . . } أى : أنفسا ، ومن هذا القبيل قول الشاعر :
وكان بنو فزارة شَرَّ عمِّ . . . فكنت لهم كشر بنى الأخينا
وقوله تعالى - { ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ } بيان للطور السادس ، والأشد : قوة الإنسان وشدته واشتعال حرارته ، من الشدة بمعنى الارتفاع والقوة ، يقال : شد النهار إذا ارتفع ، وهو مفرد جاء بصيغة الجمع ، أو جمع لا واحد له ، أو جمع شدة - كأنعم ونعمة - .
قال الآلوسى : " والجملة علة لنخرجكم ، وهى معطوفة على علة أخرى مناسبة لها .
كأنه قيل : ثم نخرجكم لتكبروا شيئاً فشيئاً ثم لتبلغوا أشدكم ، أى كمالكم فى القوة والعقل والتمييز . . . وقيل : علة لمحذوف . والتقدير : ثم نمهلكم لتبلغوا أشدكم . . .
وتقديم التبيين " لنبين لكم " على ما بعده ، مع أن حصوله بالفعل بعد الكل ، للإيذان بأنه غاية الغايات ومقصود بالذات .
وإعادة اللام فى " لتبلغوا " مع تجريد " نقر ، ونخرج " عنها ، للإشعار بأصالة البلوغ بالنسبة إلى الإقرار والإخراج إذ عليه يدور التكليف المؤدى إلى السعادة والشقاوة " .
وقوله - سبحانه - : { وَمِنكُمْ مَّن يتوفى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } بيان للطور السابع والأخير .
أى : منكم - أيها الناس - من يبلغ أشده فى هذه الحياة ، ومنكم من يموت قبل ذلك ، ومنكم من يعيش إلى أرذل العمر أى : أخسه وأدونه ، فيصير من بعد علمه بالأشياء وفهمه لها ، لا علم له ولا فهم ، شأنه فى ذلك شأن الأطفال .
قال - تعالى - : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } فالآية الكريمة تصور أطوار خلق الإنسان ومراحل حياته أكمل تصوير ، للتنبيه على مظاهر قدرة الله - تعالى - وعلى أن البعث حق وصدق .
وبعد إقامة هذا الدليل من نفس الإنسان وتطور خلقه على صحة البعث ، ساق - سبحانه - الدليل الثانى عن طريق مشاهدة الأرض وتنقلها من حال إلى حال ، فقال - تعالى - { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } .
وقوله : { هَامِدَةً } أى : يابسة ، يقال : همدت الأرض تهمد - بضم الميم - هموداً ، إذا يبست .
ومعنى : " اهتزت " : تحركت ، يقال : هز فلان الشىء فاهتز ، إذا حركه فتحرك .
ومعنى : " ربت " زادت بسبب تداخل الماء والنبات فيها ، يقال : ربا الشىء يربو ربوا ، إذا زاد ونما ، ومنه الربا والربوة .
أى : وترى - أيها العاقل - ببصرك الأرض يابسة لا نبات فيها ، فإذا ما أنزلنا عليها بقدرتنا الماء ، تحركت بسبب خروج النبات منها ، وانتفخت بسبب ما يتخللها من الماء والنبات ، وأنبتت بعد ذلك من كل صنف بهيج نضر حسن المنظر .
وشبيه بهذه الآية فى أن إحياء الأرض بعد موتها دليل على إحياء الناس بعد موتهم ، بقدرة الله - تعالى - وإرادته ، قوله - عز وجل - { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
أم إن الناس في ريب من البعث ? وفي شك من زلزلة الساعة ? إن كانوا يشكون في إعادة الحياة فليتدبروا كيف تنشأ الحياة ، ولينظروا في أنفسهم ، وفي الأرض من حولهم ، حيث تنطق لهم الدلائل بأن الأمر مألوف ميسور ؛ ولكنهم هم الذين يمرون على الدلائل في أنفسهم وفي الأرض غافلين :
( يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة - لنبين لكم - ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ؛ ثم نخرجكم طفلا ؛ ثم لتبلغوا أشدكم ؛ ومنكم من يتوفى ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا . وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج . . )
إن البعث إعادة لحياة كانت ، فهو في تقدير البشر - أيسر من إنشاء الحياة . وإن لم يكن - بالقياس إلى قدرة الله - شيء أيسر ولا شيء أصعب . فالبدء كالإعادة أثر لتوجه الإرادة : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له : كن فيكون ) .
ولكن القرآن يأخذ البشر بمقاييسهم ، ومنطقهم ، وإدراكهم ، فيوجه قلوبهم إلى تدبر المشهود المعهود لهم ، وهو يقع لهم كل لحظة ، ويمر بهم في كل برهة ؛ وهو من الخوارق لو تدبروه بالعين البصيرة ، والقلب المفتوح ، والحس المدرك . ولكنهم يمرون به أو يمر بهم دون وعي ولا انتباه .
فما هؤلاء الناس ? ما هم ? من أين جاءوا ? وكيف كانوا ? وفي أي الأطوار مروا ?
( فإنا خلقناكم من تراب ) . . والإنسان ابن هذه الأرض . من ترابها نشأ ، ومن ترابها تكون ، ومن ترابها عاش . وما في جسمه من عنصر إلا له نظيره في عناصر أمه الأرض . اللهم إلا ذلك السر اللطيف الذي أودعه الله إياه ونفخه فيه من روحه ؛ وبه افترق عن عناصر ذلك التراب . ولكنه أصلا من التراب عنصرا وهيكلا وغذاء . وكل عناصره المحسوسة من ذلك التراب .
ولكن أين التراب وأين الإنسان ? أين تلك الذرات الأولية الساذجة من ذلك الخلق السوي المركب ، الفاعل المستجيب ، المؤثر المتأثر ، الذي يضع قدميه على الأرض ويرف بقلبه إلى السماء ؛ ويخلق بفكره فيما وراء المادة كلها ومنها ذلك التراب . .
إنها نقلة ضخمة بعيدة الأغوار والآماد ، تشهد بالقدرة التي لا يعجزها البعث ، وهي أنشأت ذلك الخلق من تراب !
( ثم من نطفة . ثم من علقة . ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة - لنبين لكم - ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ؛ ثم نخرجكم طفلا . . . ) .
والمسافة بين عناصر التراب الأولية الساذجة والنطفة المؤلفة من الخلايا المنوية الحية ، مسافة هائلة ، تضمر في طياتها السر الأعظم . سر الحياة . السر الذي لم يعرف البشر عنه شيئا يذكر ، بعد ملايين الملايين من السنين ، وبعد ما لا يحصى من تحول العناصر الساذجة إلى خلايا حية في كل لحظة من لحظات تلك الملايين . والذي لا سبيل إلى أكثر من ملاحظته وتسجيله ، دون التطلع إلى خلقه وإنشائه ، مهما طمح الإنسان ، وتعلق بأهداب المحال !
ثم يبقى بعد ذلك سر تحول تلك النطفة إلى علقة ، وتحول العلقة إلى مضغة ، وتحول المضغة إلى إنسان ! فما تلك النطفة ? إنها ماء الرجل . والنقطة الواحدة من هذا الماء تحمل ألوف الحيوانات المنوية . وحيوان واحد منها هو الذي يلقح البويضة من ماء المرأة في الرحم ، ويتحد بها فتعلق في جدار الرحم .
وفي هذه البويضة الملقحة بالحيوان المنوي . . في هذه النقطة الصغيرة العالقة بجدار الرحم - بقدرة القادر وبالقوة المودعة بها من لدنه - في هذه النقطة تكمن جميع خصائص الإنسان المقبل : صفاته الجسدية وسماته من طول وقصر ، وضخامة وضآلة ، وقبح ووسامة ، وآفة وصحة . . كما تكمن صفاته العصبية والعقلية والنفسية : من ميول ونزعات ، وطباع واتجاهات ، وانحرافات واستعدادات . .
فمن يتصور أو يصدق أن ذلك كله كامن في تلك النقطة العالقة ? وأن هذه النقطة الصغيرة الضئيلة هي هذا الإنسان المعقد المركب ، الذي يختلف كل فرد من جنسه عن الآخر ، فلا يتماثل اثنان في هذه الأرض في جميع الأزمان ? !
ومن العلقة إلى المضغة ، وهي قطعة من دم غليظ لا تحمل سمة ولا شكلا . ثم تخلق فتتخذ شكلها بتحولها إلى هيكل عظمي يكسى باللحم ؛ أو يلفظها الرحم قبل ذلك إن لم يكن مقدرا لها التمام .
( لنبين لكم ) . . فهنا محطة بين المضغة والطفل ، يقف السياق عندها بهذه الجملة المعترضة : ( لنبين لكم ) . لنبين لكم دلائل القدرة بمناسبة تبين الملامح في المضغة . وذلك على طريقة التناسق الفني في القرآن .
ثم يمضي السياق مع أطوار الجنين : ( ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى )فما شاء الله أن يتم تمامه أقره في الأرحام حتى يحين أجل الوضع . ( ثم نخرجكم طفلا ) . . ويا للمسافة الهائلة بين الطور الأول والطور الأخير !
إنها في الزمان - تعادل في العادة - تسعة أشهر . ولكنها أبعد من ذلك جدا في اختلاف طبيعة النطفة وطبيعة الطفل . النطفة التي لا ترى بالعين المجردة وهذا المخلوق البشري المعقد المركب ، ذو الأعضاء والجوارح ، والسمات والملامح ، والصفات والاستعدادات ، والميول والنزعات . .
إلا أنها المسافة التي لا يعبرها الفكر الواعي إلا وقد وقف خاشعا أمام آثار القدرة القادرة مرات ومرات . .
ثم يمضي السياق مع أطوار ذلك الطفل بعد أن يرى النور ، ويفارق المكمن الذي تمت فيه تلك الخوارق الضخام ، في خفية عن الأنظار !
( ثم لتبلغوا أشدكم ) . . فتستوفوا نموكم العضلي ، ونموكم العقلي ، ونموكم النفسي . . وكم بين الطفل الوليد والإنسان الشديد من مسافات في المميزات أبعد من مسافات الزمان ! ولكنها تتم بيد القدرة المبدعة التي أودعت الطفل الوليد كل خصائص الإنسان الرشيد ، وكل الاستعدادات الكامنة التي تتبدى فيه وتتكشف في أوانها ، كما أودعت النقطة العالقة بالرحم كل خصائص الطفل ، وهي ماء مهين !
ومنكم من يتوفى ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا . .
فاما من يتوفى فهو صائر إلى نهاية كل حي . وأما من يرد إلى أرذل العمر فهو صفحة مفتوحة للتدبر ما تزال . فبعد العلم ، وبعد الرشد ، وبعد الوعي ، وبعد الاكتمال . . إذا هو يرتد طفلا . طفلا في عواطفه وانفعالاته . طفلا في وعيه ومعلوماته . طفلا في تقديره وتدبيره . طفلا أقل شيء يرضيه وأقل شيء يبكيه . طفلا في حافظته فلا تمسك شيئا ، وفي ذاكرته فلا تستحضر شيئا . طفلا في أخذه الأحداث والتجارب فرادى لا يربط بينها رابط ولا تؤدي في حسه ووعيه إلى نتيجة ، لأنه ينسى أولها قبل أن يأتي على آخرها : لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ولكي يفلت من عقله ووعيه ذلك العلم الذي ربما تخايل به وتطاول ، وجادل في الله وصفاته بالباطل !
ثم تستطرد الآية إلى عرض مشاهد الخلق والإحياء في الأرض والنبات ، بعد عرض مشاهد الخلق والإحياء في الإنسان .
( وترى الأرض هامدة ، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج ) .
والهمود درجة بين الحياة والموت . وهكذا تكون الأرض قبل الماء ، وهو العنصر الأصيل في الحياة والأحياء . فإذا نزل عليها الماء ( اهتزت وربت )وهي حركة عجيبة سجلها القرآن قبل أن تسجلها الملاحظة العلمية بمئات الأعوام ، فالتربة الجافة حين ينزل عليها الماء تتحرك حركة اهتزاز وهي تتشرب الماء وتنتفخ فتربو ثم تتفتح بالحياة عن النبات ( من كل زوج بهيج ) . وهل أبهج من الحياة وهي تتفتح بعد الكمون ، وتنتفض بعد الهمود ?
وهكذا يتحدث القرآن عن القرابة بين أبناء الحياة جميعا ، فيسلكهم في آية واحدة من آياته . وإنها للفتة عجيبة إلى هذه القرابة الوثيقة . وإنها لدليل على وحدة عنصر الحياة ، وعلى وحدة الإرادة الدافعة لها هنا وهناك .