قوله تعالى : { فبدأ بأوعيتهم } ، لإزالة التهمة ، { قبل وعاء أخيه } ، فكان يفتش أوعيتهم واحدا واحدا . قال قتادة : ذكر لنا أنه كان لا يفتح متاعا ولا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تأثما مما قذفهم به حتى إذا لم يبق إلا رحل بنيامين ، قال : ما أظن هذا أخذه ، فقال إخوته : والله لا نترك حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك ولأنفسنا ، فلما فتحوا متاعه استخرجوه منه { ثم استخرجها من وعاء أخيه } ، وإنما أنث الكناية في قوله { ثم استخرجها } والصواع مذكر ، بدليل قوله : { ولمن جاء به حمل بعير } ، لأنه رد الكناية هاهنا إلى السقاية . وقيل : الصواع يذكر ويؤنث . فلما أخرج الصواع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم من الحياء ، وأقبلوا على بنيامين وقالوا : ما الذي صنعت فضحتنا وسودت وجوهنا يا بني راحيل ؟ ما يزال لنا منكم البلاء ، متى أخذت هذا الصواع ؟ فقال بنيامين : بل بنو راحيل لا يزال لهم منكم بلاء ذهبتم بأخي فأهلكتموه في البرية ، ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم ، فأخذوا بنيامين رقيقا . وقيل : إن ذلك الرجل أخذ برقبته ورده إلى يوسف كما يرد السراق . { كذلك كدنا ليوسف } ، والكيد هاهنا جزاء الكيد ، يعني : كما فعلوا في الابتداء بيوسف من الكيد فعلنا بهم . وقد قال يعقوب عليه السلام ليوسف : { فيكيدوا لك كيدا } ، فكدنا ليوسف في أمرهم . والكيد من الخلق : الحيلة ، ومن الله تعالى التدبير بالحق . وقيل : كدنا : ألهمنا . وقيل : دبرنا . وقيل : أردنا . ومعناه : صنعنا ليوسف حتى ضم أخاه إلى نفسه ، وحال بينه وبين إخوته . { ما كان ليأخذ أخاه } فيضمه إلى نفسه ، { في دين الملك } ، أي : في حكمه . قاله قتادة . وقال ابن عباس : في سلطانه . { إلا أن يشاء الله } ، يعني : إن يوسف لم يكن يتمكن من حبس أخيه في حكم الملك لولا ما كدنا له بلطفنا حتى وجد السبيل إلى ذلك ، وهو ما أجرى على ألسنة الإخوة أن جزاء السارق الاسترقاق ، فحصل مراد يوسف بمشيئة الله تعالى . { نرفع درجات من نشاء } ، بالعلم كما رفعنا درجة يوسف على إخوته . وقرأ يعقوب : يرفع ، و يشاء بالياء فيهما وإضافة درجات إلى من في هذه السورة . والوجه أن الفعل فيهما مسند إلى الله تعالى ، وقد تقدم ذكره في قوله : { إلا أن يشاء الله } أي : يرفع الله درجات من يشاء . وقرأ الباقون بالنون فيهما ، إلا أن الكوفيين قرؤوا : { درجات } بالتنوين ، ومن سواهم بالإضافة ، أي : نرفع به نحن ، والرافع أيضا هو الله تعالى . { وفوق كل ذي علم عليم } . قال ابن عباس : فوق كل ذي عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى . فالله تعالى فوق كل عالم .
{ فَبَدَأَ } المفتش { بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ } وذلك لتزول الريبة التي يظن أنها فعلت بالقصد ، فلما لم يجد في أوعيتهم شيئا { اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ } ولم يقل " وجدها ، أو سرقها أخوه " مراعاة للحقيقة الواقعة .
فحينئذ تم ليوسف ما أراد من بقاء أخيه عنده ، على وجه لا يشعر به إخوته ، قال تعالى : { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } أي : يسرنا له هذا الكيد ، الذي توصل به إلى أمر غير مذموم { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } لأنه ليس من دينه أن يتملك السارق ، وإنما له عندهم ، جزاء آخر ، فلو ردت الحكومة إلى دين الملك ، لم يتمكن يوسف من إبقاء أخيه عنده ، ولكنه جعل الحكم منهم ، ليتم له ما أراد .
قال تعالى : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } بالعلم النافع ، ومعرفة الطرق الموصلة إلى مقصدها ، كما رفعنا درجات يوسف ، { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } فكل عالم ، فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى عالم الغيب والشهادة .
وقوله - سبحانه - { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ استخرجها مِن وِعَآءِ أَخِيهِ } معطوف على كلام محذوف يفهم من المقام .
والتقدير : وبعد هذه المحاورة التي دارت بين إخوة يوسف وبين الذين اتهموهم بالسرقة أخبر الإخوة بتفتيش أمتعتهم للبحث عن الصواع بداخلها .
" فبدأ " المؤذن بتفتيش أوعيتهم ، قبل أن يفتش وعاء " بنيامين " فلم يجد شيئاً بداخل أوعيتهم .
فلما وصل إلى وعاء " بنيامين " وقام بتفتيشه وجد السقاية بداخله ، فاستخرجها منه على مشهد منهم جميعاً .
ويبدو أن هذا الحوار من أوله كان بمشهد ومرأى من يوسف - عليه السلام - وكان أيضاً بتدبير وتوجيه منه للمؤذن ومن معه ، فهو الذي أمر المؤذن بأن ينادى { أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } وهو الذي أشار عليه بأن يسألهم عن حكم السارق في شريعتهم ، وهو الذي أمره بأن يبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل أن يفتش وعاء شقيقه " بنيامين " دفعا للتهمة ، ونفيا للشبهة . . .
روي أنه لما بلغت النوبة إلى وعاء " بنيامين " لتفتيشه قال يوسف - عليه السلام - : ما أظن هذا أخذ شيئاً ؟ فقالوا : " والله لا تتركه حتى تنظر في رحله ، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا " .
ويطوي القرآن ما اعترى إخوة يوسف من دهشه وخزي ، بعد أن وجدت السقاية في رحل " بنيامين " وبعد أن أقسموا بالله على براءتهم من تهمة السرقة . . يطوي القرآن كل ذلك ، ليترك للعقول أن تتصوره . . .
ثم يعقب على ما حدث ببيان الحكمة التي من أجلها ألهم الله - تعالى - يوسف أن يفعل ما فعل من دس السقاية في رحل أخيه ، ومن سؤال إخوته عن جزاء السارق في شريعتهم فيقول { كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله . . . }
و " كدنا " من الكيد وأصله الاحتيال والمكر ، وهوصرف غيرك عما يريده بحيله ، وهو مذموم إن تحرى به الفاعل الشر والقبيح ، ومحمود إن تحرى به الفاعل الخير والجميل .
والمراد به هنا : النوع المحمود ، واللام في " ليوسف " للتعليل .
والمراد بدين الملك : شريعته التي يسير عليها في الحكم بين الناس .
والمعنى : مثل هذا التدبير الحكيم دبرنا من أجل يوسف ما يوصله إلى غرضه ومقصده ، وهو احتجاز أخيه بنيامين معه ، بأن ألهمناه بأن يضع السقاية في رحل أخيه ، وبأن يسأل إخوته عن حكم السارق في شريعتهم . . وما كان يوسف ليستطيع أن يحتجز أخاه معه ، لو نفذ شريعة ملك مصر ، لأن شريعته لا تجيز استرقاق السارق سنة كما هو الحال في شريعة يعقوب ، وإنما تعاقب السارق بضربه وتغريمه قيمة ما سرقه .
وما كان يوسف ليفعل كل ذلك التدبير الحكيم في حال من الأحوال ، إلا في حال مشيئة الله ومعونته وإذنه بذلك ، فهو - سبحانه - الذي ألهمه أن دس السقاية في رحل أخيه ، وهو - سبحانه - الذي ألهمه أن يسأل إخوته عن عقوبة السارق في شريعتهم حتى يطبقها على من يوجد صواع الملك في رحله منهم .
والجملة الكريمة بيان لمظهر من مظاهر فضل الله - تعالى - على يوسف حيث ألهمه ما يوصله إلى مقصوده بأحكم أسلوب .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ } أى : مثل ذلك الكيد العجيب وهو إرشاد الإِخوة إلى الإِفتاء المذكور . . . دبرنا وصنفنا من أجل يوسف ما يحصل به غرضه . . .
وقوله { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك } أى في حكمه وقضائه والكلام استئناف وتعليل لذلك الكيد ، كأنه قيل : لماذا فعل ؟ فقيل : لأنه لم يكن ليأخذ أخاه جزاء وجود الصواع عنده في دين الملك في أمر السارق إلا بذلك الكيد ، لأن جزاء السارق في دينه أن يضاعف عليه الغرم . . . دون أن يسترق كما هو الحال في شريعة يعقوب .
وقوله { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } أى : لم يكن يوسف ليتمكن من أخذ أخيه في حال نم الأحوال ، إلا في حال مشيئته - تعالى - التي هي عبارة عن ذلك الكيد المذكور . . .
قالوا : وفى الآية دليل على جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما صورته صورة الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف ذلك شرعاً ثابتاً .
وقوله - سبحانه - { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } استئناف لبيان قدرة الله - تعالى - وسعة رحمته وعطائه .
أى : نرفع من نشاء رفعه من عبادنا إلى درجات عالية من العلوم والمعارف والعطايا والمواهب كما رفعنا درجات يوسف - عليه السلام - .
{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ } من أولئك المرفوعين { عليم } يزيد عنهم في علمهم وفى مكانتهم عند الله - تعالى - فهو - سبحانه - العليم بأحوال عباده ، وبمنازلهم عنده ، وبأعلاهم درجة ومكانة .
وقال - سبحانه - { نرفع } بصيغة الاستقبال وللأشعار بأن ذلك سنة من سننه الإِلهية التي لا تتخلف ولا تتبدل ، وأن عطاءه - سبحانه - لايناله إلا الذين تشملهم إرادته ومشيئته كما تقتضيه حكمته .
وجاءت كلمة { درجات } بالتنكير ، للإِشارة إلى عظمها وكثرتها .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مّن نّشَآءُ وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ففتّش يوسف أوعيتهم ورحالهم طالبا بذلك صُواع الملك ، فبدأ في تفتيشه بأوعية إخوته من أبيه ، فجعل يفتشها وعاء وعاء قبل وعاء أخيه من أبيه وأمه ، فإنّه أخّر تفتيشه ، ثم فتش آخرها وعاء أخيه ، فاستخرج الصواع من وعاء أخيه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَبَدَأَ بأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أخِيهِ ذُكر لنا أنه كان لا ينظر في وعاء إلاّ استغفر الله تأثما مما قذفهم به ، حتى بقيَ أخوه ، وكان أصغر القوم ، قال : ما أرى هذا أخذ شيئا ، قالوا : بَلى فاسْتبرِه ، أَلاَ وقد علموا حيث وضعوا سقايتهم . ثم استخرجها من وعاء أخيه .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن مَعْمر ، عن قتاد ، قال : فاستخرجها من وعاء أخيه ، قال : كان كلما فتح متاعا استغفر تائبا مما صنع ، حتى بلغ متاع الغلام ، فقال : ما أظنّ هذا أخذ شيئا ، قالوا : بلى ، فاستبره .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : فَبَدأَ بأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وَعاءِ أخِيهِ فلما بقي رَحْلُ الغلام ، قال : ما كان هذا الغلام ليأخذه . قالوا : والله لا يترك حتى تنظر في رحله ، لنذهب وقد طابت نفسك فأدخل يده فاستخرجها من رحله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما قال الرسول لهم : ولِمَنْ جاءِ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وأنا بِهِ زَعِيمٌ قالوا : ما نعلمه فينا ولا معنا . قال : لستم ببارحين حتى أفتش أمتعتكم وأُعْذِر في طلبها منكم . فبدأ بأوعيتهم وعاء وعاء ، يفتشها وينظر ما فيها ، حتى مرّ على وعاء أخيه ففتشه ، فاستخرجها منه ، فأخذ برقبته ، فانصرف به إلى يوسف . يقول الله : كذلكَ كِدْنا لِيُوسُفَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : ذُكِر لنا أنه كان كلما بَحَث متاع رجل منهم استغفر ربه تأثما ، قد علم أين موضع الذي يطلب . حتى إذا بقي أخوه وعلم أن بغيته فيه ، قال : لا أرى هذا الغلام أخذه ، ولا أبالي أن لا أبحث متاعه قال إخوته : إنه أطيب لنفسك وأنفسنا أن تستبرىء متاعه أيضا . فلما فتح متاعه استخرج بغيته منه قال الله : كذلكَ كِدْنا ليُوسُفَ .
واختلف أهل العربية في الهاء والألف اللتين في قوله : ثُمّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أخِيهِ فقال بعض نحويّي البصرة : هي من ذكر «الصواع » ، قال : وأنّث وقد قال : ولِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ لأنه عنى الصّواع . قال : والصواع مذكر ، ومنهم من يؤنث الصواع ، وعني ههنا السقاية ، وهي مؤنثة . قال : وهما اسمان لواحد مثل الثوب والملحفة مذكر ومؤنث لشيء واحد .
وقال بعض نحويّي الكوفة في قوله : ثُمّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أخِيهِ ذهب إلى تأنيث السرقة ، قال : وإن يكن الصواع في معنى الصاع ، فلعل هذا التأنيث من ذلك . قال : وإن شئت جعلته لتأنيث السقاية . قال : والصواع ذَكر ، والصاع يؤنث ويذكر ، فمن أنثه قال : ثلاث أَصْوُع ، مثل ثلاث أَدْوُر ، ومن ذكره قال : أصواع ، مثل أبواب .
وقال آخر منهم : إنما أُنث الصواع حين أنث لأنه أريدت به السقاية وذُكّر حين ذكر ، لأنه أريد به الصواع . قال : وذلك مثل الخِوَان والمائدة ، وسِنان الرمح وعاليته ، وما أشبه ذلك من الشيء الذي يجتمع فيه اسمان : أحدهما مذكر ، والاَخر مؤنث .
وقوله : كذلك كِدْنا لِيُوسُفَ يقول : هكذا صنعنا ليوسف حتى يُخَلّص أخاه لأبيه وأمه من إخوته لأبيه ، بإقرار منهم أن له أن يأخذه منهم ويحتبسه في يديه ويحول بينه وبينهم وذلك أنهم قالوا إذ قيل لهم ما جَزَاؤُهُ إنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ : جزاء من سرق الصواع أن من وجد ذلك في رحله فهو مُسْتَرَقّ به ، وذلك كان حكمهم في دينهم . فكاد الله ليوسف كما وصف لنا حتى أخَذ أخاهُ منهم ، فصار عنده بحكمهم وصنع الله له .
وقوله : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ يقول : ما كان يوسف ليأخذ أخاه في حكم ملك مصر وقضائه وطاعته منهم ، لأنه لم يكن من حكم ذلك الملك وقضائه أن يُسْترقّ أحد بالسرق ، فلم يكن ليوسف أخذ أخيه في حكم ملك أرضه إلاّ أن يشاء الله بكيده الذي كاده له ، حتى أَسْلَمَ مَنْ وُجد في وعائه الصّواع إخوتُه ورفقاؤه بحكمهم عليه وطابت أنفسهم بالتسليم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إلاّ فعلةً كادها الله له ، فاعتلّ بها يوسف .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كذلكَ كِدْنا لِيُوسُفَ كادها الله له ، فكانت علة ليوسف .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ قال : إلاّ فعلة كادها الله فاعتلّ بها يوسف .
قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : كذلكَ كِدْنا لِيُوسُفَ قال : صنعنا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : كذلكَ كِدْنا لِيُوسُفَ يقول : صنعنا ليوسف .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : كذلكَ كِدْنا لِيُوسُفَ يقول : صنعنا ليوسف .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ فقال بعضهم : ما كان ليأخذ أخاه في سلطان الملك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ يقول : في سلطان الملك .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ما كان لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ يقول : في سلْطان الملك .
وقال آخرون : معنى ذلك : في حكمه وقضائه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ يقول : ما كان ذلك في قضاء الملك أن يستعبد رجلاً بسرقة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فِي دِينِ المَلِكِ قال : لم يكن ذلك في دين الملك ، قال : حكمه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح محمد بن ليث المروزي ، عن رجل قد سماه ، عن عبد الله بن المبارك ، عن أبي مودود المدينيّ ، قال : سمعت محمد بن كعب القُرَظيّ يقول : قالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كذلكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ قال : دين الملك لا يؤخذ به من سرق أصلاً ، ولكن الله كاد لأخيه ، حتى تكلموا ما تكلموا به ، فأخذهم بقولهم ، وليس في قضاء الملك .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، قال : بلغه في قوله : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلكِ قال : كان حكم الملك أن من سرق ضوعف عليه الغُرم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ يقول : في حكم الملك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ : أي بظلم ، ولكن الله كاد ليوسف ليضمّ إليه أخاه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ فِي دِينِ المَلِكِ قال : ليس في دين الملك أن يؤخذ السارق بسرقته . قال : وكان الحكم عند الأنبياء يعقوب وبنيه : أن يؤخذ السارق بسرقته عبدا يُسترقّ .
وهذه الأقوال وإن اختلفت ألفاظ قائليها في معنى دين الملك ، فمتقاربة المعاني ، لأن من أخذه في سلطان الملك عامله بعمله ، فيريناه أخذه إذا لم يغيره ، وذلك منه حكم عليه ، وحكمه عليه قضاؤه . وأصل الدّين : الطاعة ، وقد بيّنت ذلك في غير هذا الموضع بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ ولكن صَنَعنا له بأنهم قالوا : فَهُوَ جَزَاؤُهُ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ إلاّ بعلة كادها الله ، فاعتلّ بها يوسف .
وقوله : نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعضهم : «نَرْفَعُ دَرَجاتِ مَنْ نَشاءُ » بإضافة الدرجات إلى «مَنْ » بمعنى : نرفع منازل من نشاء ، رفع منازله ومراتبه في الدنيا بالعلم على غيره ، كما رفعنا مرتبة يوسف في ذلك ومنزلته في الدنيا على منازل إخوته ومراتبهم . وقرأ ذلك آخرون : نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بتنوين «الدرجات » ، بمعنى : نرفع من نشاء مراتب ودرجات في العلم على غيره ، كما رفعنا يوسف . فمَن على هذه القراءة نصب ، وعلى القراءة الأولى خفض . وقد بيّنا ذلك في سورة الأنعام .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قوله : نَرْفَعُ دَرَجاتِ مَنْ نَشاءُ يوسف وإخوته أُوتوا علما ، فرفعنا يوسف فوقهم في العلم .
وقوله : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَليمٌ يقول تعالى ذكره : وفوق كل عالم مَنْ هو أعلم منه حتى ينتهي ذلك إلى الله تعالى . وإنما عَنَى بذلك أن يوسف أعلم إخوته ، وأن فوق يوسف من هو أعلم من يوسف ، حتى ينتهي ذلك إلى الله تعالى .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر العَقْديّ ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الأعلى الثعلبيّ ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أنه حدّث بحديث ، فقال رجل عنده : وَفَوْقَ كُلّ ذِي علْمٍ عَليمٌ فقال ابن عباس : بئسما قلت ، إن الله هو عليم ، وهو فوق كلّ عالم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير ، قال : حدّث ابن عباس بحديث ، فقال رجل عنده : الحمد لله وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ فقال ابن عباس : العالم الله ، وهو فوق كلّ عالم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير ، قال : كنا عند ابن عباس ، فحدّث حديثا ، فتعجب رجل فقال : الحمد لله وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ فقال ابن عباس : بئسما قلت : الله العليم ، وهو فوق كل عالم .
حدثنا الحسن بن محمد وابن وكيع ، قالا : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن سالم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال : يكون هذا أعلم من هذا ، وهذا أعلم من هذا ، والله فوق كل عالم .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : أخبرنا أبو الأحوص ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال : الله الخبير العليم فوق كلّ عالم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبيد الله ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال : الله فوق كلّ عالم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب ، قال : سأل رجل عليا عن مسئلة ، فقال فيها ، فقال الرجل : ليس هكذا ولكن كذا وكذا ، قال عليّ : أصبت وأخطأت وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ .
حدثني يعقوب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن عُلَية ، عن خالد ، عن عكرمة ، في قوله : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال : علم الله فوق كلّ أحد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن نصر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال : الله عزّ وجلّ .
حدثنا ابن وكيع ، حدثنا يعلى بن عبيد ، عن سفيان ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال : الله أعلم من كلّ أحد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ابن شبرمة ، عن الحسن ، في قوله : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَليمٌ قال : ليس عالم إلاّ فوقه عالم حتى ينتهي العلم إلى الله .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عاصم ، قال : حدثنا جويرية ، عن بشير الهجيمي ، قال : سمعت الحسن قرأ هذه الآية يوما : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ، ثم وقف فقال : إنه والله ما أمسى على ظهر الأرض عالم إلاّ فوقه من هو أعلم منه ، حتى يعود العلم إلى الذي علمه .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عليّ ، عن جرير ، عن ابن شُبْرُمة ، عن الحسن : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال : فوق كل عالم عالم ، حتى ينتهي العلم إلى الله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَليمٌ حتى ينتهي العلم إلى الله ، منه بدىء ، وتعلمت العلماء ، وإليه يعود . في قراءة عبد الله : «وَفَوْقَ كُلّ عالِمٍ عَلِيمٌ » .
قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وكيف جاز ليوسف أن يجعل السقاية في رحل أخيه ثم يِسَرّق قوما أبرياء من السّرَق ، ويقول أيّتُها العِيرُ إنّكُمْ لَسارِقُونَ ؟ قيل : إن قوله : أيّتُها العِيرُ إنّكُمْ لَسارِقُونَ إنما هو خبر من الله عن مؤذّن أذّن به ، لا خبر عن يوسف . وجائز أن يكون المؤذّن أذن بذلكَ أنْ فَقَد الصواع ولا يعلم بصنيع يوسف . وجائز أن يكون كان أذن المؤذن بذلك عن أمر يوسف ، واستجاز الأمر بالنداء بذلك لعلمه بهم أنهم قد كانوا سرقوا سرقة في بعض الأحوال ، فأمر المؤذن أن يناديهم بوصفهم بالسّرَق ، ويوسف يعني ذلك السرق لا سرقهم الصواع . وقد قال بعض أهل التأويل : إن ذلك كان خطأ من فعل يوسف ، فعاقبه الله بإجابة القوم إياه : إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ وقد ذكرنا الرواية فيما مضى بذلك .
{ فبدأ بأوعيتهم } فبدأ المؤذن . وقيل يوسف لأنهم ردوا إلى مصر . { قبل وعاء أخيه } بنيامين نفيا للتهمة . { ثم استخرجها } أي السقاية أو الصواع لأنه يذكر ويؤنث . { من وعاء أخيه } وقرئ بضم الواو وبقلبها همزة . { كذلك } مثل ذلك الكيد . { كدنا ليوسف } بأن علمناه إياه وأوحينا به إليه . { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } ملك مصر لأن دينه الضرب وتغريم ضعف ما أخذ دون الاسترقاق وهو بيان للكيد . { إلا أن يشاء الله } أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك ، فالاستثناء من أعم الأحوال ويجوز أن يكون منقطعا أي لكن أخذه بمشيئة الله تعالى وإذنه . { نرفع درجات من نشاء } بالعلم كما رفعنا درجته . { وفوق كل ذي علم عليم } أرفع درجة منه ، واحتج به من زعم أنه تعالى عالم بذاته إذ لو كان ذا علم لكان فوقه من هو أعلم منه . والجواب أن المراد كل ذي علم من الخلق لأن الكلام فيهم ولأن العليم هو الله سبحانه وتعالى ، ومعناه الذي له العلم البالغ لغة ولأنه لا فرق بينه وبين قولنا فوق كل العلماء عليم وهو مخصوص .
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ( 76 )
بدؤه - أيضاً - من أوعيتهم تمكين للحيلة وإبعاد لظهور أنها حيلة .
وقرأ جمهور الناس «وِعاء » بكسر الواو ، وقرأ الحسن «وُعاء » بضمها ، وقرأ ابن جبير «أعاء » بهمزة بدل الواو ، وذلك شائع في الواو المكسورة ، وهو أكثر في المضمومة ، وقد جاء من المفتوحة : أحد في وحد .
وأضاف الله تعالى إلى ضميره لما أخرج القدر الذي أباح به ليوسف أخذ أخيه مخرج ما هو في اعتياد الناس كيد ، وقال السدي والضحاك : { كدنا } معناه : صنعنا .
و { دين الملك } فسره ابن عباس بسلطانه ، وفسره قتادة بالقضاء والحكم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا متقارب ، والاستثناء في هذه الآية حكاية حال ، التقدير : إلا ان شاء الله ما وقع من هذه الحيلة ؛ ويحتمل أن يقدر أنه تسنن لما قرر النفي .
وقرأ الجمهور «نرفع » على ضمير المعظم و «نشاء » كذلك ، وقرأ الحسن وعيسى ويعقوب بالياء ، أي الله تعالى : وقرأ عمرو ونافع وأهل المدينة «درجاتِ من » بإضافة الدرجات إلى { من } ، وقرأ عاصم وابن محيصن «درجاتٍ من » بتنوين الدرجات ، وقرأ الجمهور ، «وفوق كل ذي علم » . وقرأ ابن مسعود «وفوق كل ذي عالم » والمعنى أن البشر في العلم درجات ، فكل عالم فلا بد من أعلم منه ، فإما من البشر وإما الله عز وجل . وأما على قراءة ابن مسعود فقيل : { ذي } زائدة ، وقيل : «عالم » مصدر كالباطل{[6759]} .
وروي أن المفتش كان إذا فرغ من رحل رجل فلم يجد فيه شيئاً استغفر الله عز وجل تائباً من فعله ذلك ، وظاهر كلام قتادة وغيره ، أن المستغفر كان يوسف لأنه كان يفتشهم يعلم أين الصواع ، حتى فرغ منهم وانتهى إلى رحل بنيامين فقال : ما أظن هذا الفتى رضي بهذا ، ولا أخذ شيئاً ، فقال له إخوته ، والله لا تبرح حتى تفتشه فهو أطيب لنفسك ونفوسنا ، ففتش فأخرج السقاية - وهذا التفتيش من يوسف يقتضي أن المؤذن إنما سرقه برأيه{[6760]} ، فإنما يقال جميع ذلك كان بأمر الله تعالى{[6761]} ، ويقوي ذلك قوله : { كدنا } ، وكيف لا يكون برأي يوسف وهو مضطر في محاولته إلى أن يلزمهم حكم السرقة له أخذ أخيه .
والضمير في قوله : { استخرجها } عائد على { السقاية } [ يوسف : 70 ] ، ويحتمل أن يعود على السرقة .
وروي أن إخوة يوسف لما رأوا ذلك قالوا : يا بنيامين بن راحيل قبحك الله ولدت أمك أخوين لصَّين ، كيف سرقت هذه السقاية ؟ فرفع يديه إلى السماء وقال : والله ما فعلت ، فقالوا له : فمن وضعها في رحلك قال : الذي وضع البضاعة في رحالكم .
وما ذكرناه من المعنى في قوله : { وفوق كل ذي علم عليم } هو قول الحسن وقتادة ، وقد روي عن ابن عباس ، وروي أيضاً عنه رضي الله عنه : أنه حدث يوماً بحديث عجيب فتعجب منه رجل ممن حضر ، وقال : الحمد لله { وفوق كل ذي علم عليم } ، وقال ابن عباس : بئس ما قلت ، إنما العليم لله وهو فوق كل ذي علم .
{ بدأ } أي أمر يوسف عليه السلام بالبداءة بأوعية بقية إخوته قبلَ وعاء أخيه الشقيق .
وأوعية : جمع وعاء ، وهو الظرف ، . مشتق من الوعي وهو الحفظ . والابتداء بأوعية غير أخيه لإبعاد أن يكون الذي يُوجد في وعائه هو المقصود من أول الأمر . وتأنيث ضمير { استخرجها } للسقاية . وهذا التأنيث في تمام الرشاقة إذ كانت الحقيقة أنها سقاية جعلت صواعاً . فهو كردّ العجز على الصدر .
والقول في { كذلك كدنا ليوسف } كالقول في { كذلك نجزي الظالمين } [ سورة يوسف : 75 ] .
والكَيْد : فعل يتوصل بظاهره إلى مقصد خفي . والكيد : هنا هو إلهام يوسف عليه السلام لهذه الحيلة المحكمة في وضع الصواع وتفتيشه وإلهام إخوته إلى ذلك الحكم المُصْمَت .
وأسند الكيد إلى الله لأنه ملهمه فهو مسبّبه . وجعل الكيد لأجل يوسف عليه السلام لأنه لفائدته .
وجملة { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله } بيان للكيد باعتبار جميع ما فيه من وضع السقاية ومن حكم إخوته على أنفسهم بما يلائم مَرغوب يوسف عليه السلام من إبقاء أخيه عنده ، ولولا ذلك لمَا كانت شريعة القبط تخوله ذلك ، فقد قيل : إن شرعهم في جزاء السارق أن يؤخذ منه الشيء ويضرب ويغرم ضعفي المسروق أو ضعفي قيمته . وعن مجاهد { في دين الملك } أي حكمه وهو استرقاق السراق . وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية لقوله : { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } أي لولا حيلة وضع الصُّواع في متاع أخيه . ولعل ذلك كان حكماً شائعاً في كثير من الأمم ، ألا ترى إلى قولهم : { من وجد في رحله فهو جزاؤه } [ سورة يوسف : 75 ] كما تقدم ، أي أن ملك مصر كان عادلاً فلا يؤخذ أحد في بلاده بغير حق . ومثله ما كان في شرع الرومان من استرقاق المدين ، فتعين أن المراد بالدّين الشريعة لا مطلق السلطان .
ومعنى لام الجحود هنا نفي أن يكون في نفس الأمر سبب يخول يوسف عليه السلام أخذ أخيه عنده .
والاستثناء من عموم أسباب أخذ أخيه المنفية . وفي الكلام حرف جر محذوف قبل { أن } المصدرية ، وهو باء السببية التي يدل عليها نفي الأخذ ، أي أسبابه . فالتقدير : إلا بأن يشاء الله ، أي يُلهم تصوير حالته ويأذن ليوسف عليه السلام في عَمله باعتبار ما فيه من المصالح الجمة ليوسف وإخوته في الحال والاستقبال لهم ولذريتهم .
وجملة { نرفع درجات من نشاء } تذييل لقصة أخذ يوسف عليه السلام أخاه لأن فيها رفع درجة يوسف عليه السلام في الحال بالتدبير الحكيم من وقت مناجاته أخاه إلى وقت استخراج السقاية من رحله . ورفع درجة أخيه في الحال بإلحاقه ليوسف عليه السلام في العيش الرفيه والكمال بتلقي الحكمة من فيه .
ورفع درجات إخوته وأبيه في الاستقبال بسبب رفع درجة يوسف عليه السلام وحنوه عليهم . فالدرجات مستعارة لقوة الشرف من استعارة المحسوس للمعقول . وتقدم في قوله تعالى : { وللرجال عليهن درجة } في سورة البقرة ( 228 ) ، وقوله : { لهم درجات عند ربهم } في سورة الأنفال ( 4 ) .
وجملة وفوق كل ذي علم عليم } تذييل ثان لجملة { كذلك كدنا ليوسف } الآية .
وفيها شاهد لتفاوت الناس في العلم المؤذن بأن علم الذي خلق لهم العلم لا ينحصر مداه ، وأنه فوق كل نهاية من علم الناس .
والفوقية مجاز في شرف الحال ، لأن الشرف يشبّه بالارتفاع .
وعبر عن جنس المتفوق في العلم بوصف { عليم } باعتبار نسبته إلى من هو فوقه إلى أن يبلغ إلى العليم المطلق سبحانه .
وظاهر تنكير { عليم } أن يراد به الجنس فيعم كلّ موصوف بقوة العلم إلى أن ينتهي إلى علم الله تعالى . فعموم هذا الحكم بالنسبة إلى المخلوقات لا إشكال فيه . ويتعين تخصيص هذا العموم بالنسبة إلى الله تعالى بدليل العقل إذ ليس فوق الله عليم .
وقد يحمل التنكير على الوحدة ويكون المراد عليم واحد فيكون التنكير للوحدة والتعظيم ، وهو الله تعالى فلا يحتاج إلى التخصيص .
وقرأ الجمهور { درجات من نشاء } بإضافة { درجات } إلى { من نشاء } . وقرأه حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف بتنوين { درجاتٍ } على أنه تمييز لتعلق فعل { نرفع } بمفعوله وهو { من نشاء } .