قوله تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً } ، أي : أعداء ، فيه تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم ، يعني : كما ابتليناك بهؤلاء القوم ، فكذلك جعلنا لكل نبي قبلك أعداء ، ثم فسرهم فقال : { شياطين الإنس والجن } ، قال عكرمة ، والضحاك ، والسدي ، والكلبي : معناه شياطين الإنس التي مع الإنس ، وشياطين الجن التي مع الجن ، وليس للإنس شياطين ، وذلك أن إبليس جعل جنده فريقين ، فبعث فريقاً منهم إلى الإنس ، وفريقاً منهم إلى الجن ، وكلا الفريقين أعداء للنبي صلى الله عليه وسلم ولأوليائه ، وهم الذين يلتقون في كل حين ، فيقول شيطان الإنس لشيطان الجن : أضللت صاحبي بكذا فأضل صاحبك بمثله ، وتقول شياطين الجن لشياطين الإنس كذلك ، فذلك { يوحي بعضهم إلى بعض } . قال قتادة ، ومجاهد ، والحسن : إن من الإنس شياطين ، كما أن من الجن شياطين ، والشيطان : العاتي المتمرد من كل شيء ، قالوا : إن الشيطان إذا أعياه المؤمن وعجز من إغوائه ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليفتنه ، يدل عليه ما روي عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس ؟ فقلت : يا رسول الله ، وهل للإنس من شياطين ؟ قال نعم ، هم شر من شياطين الجن . وقال مالك بن دينار : إن شياطين الإنس أشد علي من شياطين الجن ، وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شياطين الجن ، وشيطان الإنس يجيئني ، فيجرني إلى المعاصي عياناً .
قوله تعالى : { يوحي بعضهم إلى بعض } ، أي : يلقي .
قوله تعالى : { زخرف القول } ، وهو قول مموه مزخرف بالباطل ، لا معنى تحته .
قوله تعالى : { غروراً } ، يعني : هؤلاء الشياطين يزينون الأعمال القبيحة لبني آدم ، ويغرونهم غروراً ، والغرور : القول الباطل .
قوله تعالى : { ولو شاء ربك ما فعلوه } ، أي : ما ألقوه من الوسوسة في القلوب .
{ 112 ، 113 } { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ }
يقول تعالى -مسليا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم- وكما جعلنا لك أعداء يردون دعوتك ، ويحاربونك ، ويحسدونك ، فهذه سنتنا ، أن نجعل لكل نبي نرسله إلى الخلق أعداء ، من شياطين الإنس والجن ، يقومون بضد ما جاءت به الرسل .
{ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } أي : يزين بعضهم لبعض الأمر الذي يدعون إليه من الباطل ، ويزخرفون له العبارات حتى يجعلوه في أحسن صورة ، ليغتر به السفهاء ، وينقاد له الأغبياء ، الذين لا يفهمون الحقائق ، ولا يفقهون المعاني ، بل تعجبهم الألفاظ المزخرفة ، والعبارات المموهة ، فيعتقدون الحق باطلا والباطل حقا ، ولهذا قال تعالى :
ثم سلى الله - تعالى - نبيه عن تعنت المشركين وتماديهم فى الباطل ببيان أن كل نبى كان له أعداء يسيئون إليه ويقفون عقبة فى طريق دعوته فقال :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن } .
والمعنى : ومثل ما جعلنا لك يا محمد أعداء يخالفونك ويعاندونك جعلنا لكل نبى من قبلك - أيضاً - أعداء ، فلا يحزنك ذلك ، قال - تعالى - { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } وقال - تعالى - { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } والمراد بشياطين الإنس والجن ، المردة من النوعين . والشيطان : كل عات متمرد من الإنس والجن .
وجملة { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً } الخ مستأنفة لتسلية النبى صلى الله عليه وسلم عما يشاهده من عداوة قريش له ، والكاف فى محل نصب على أنها نعت لمصدر مؤكد لما بعده .
و ( جعل ) ينصب مفعولين أولهما { عَدُوّاً } وثانيهما { لِكُلِّ نِبِيٍّ } و { شَيَاطِينَ } بل من المفعول الأول ، وبعضهم أعرب { شَيَاطِينَ } مفعولا أولا و { عَدُوّاً } مفعولا ثانيا ، و { لِكُلِّ نِبِيٍّ } حالا من { عَدُوّاً } .
وقوله : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً } .
الوحى : الإعلام بالأشياء من طريق خفى دقيق سريع . زخرف القول : باطله الذى زين وموه بالكذب . وأصل الزخرف . الزينة المزوقة ، ومنه قيل للذهب : زخرف ، ولكل شىء حسن مموه : زخرف .
والغرور : الخداع والأخذ على غرة وغفلة .
والمعنى : يلقى بعضهم إلى بعض بطرق خفية دقيقة القول المزين المموه الذى حسن ظاهره وقبح باطنه لكى يخدعوا به الضعفاء ويصرفونهم عن الحق إلى الباطل .
والجملة المستأنفة لبيان إحكام عداوتهم ، أو حال من الشياطين وقد ورد أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر أتباعه أن يستعيذوا بالله من شياطين الإنس والجن ، فعن أبى ذر قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مجلس . قد أطال فيه الجلوس فقال : " يا أبا ذر هل صليت ؟ قلت : لا يا رسول الله . قال : قم فاركع ركعتين قال : ثم جئت فجلست إليه فقال : يا أبا ذر ، هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس ؟ قال : قلت لا يا رسول الله ، وهل للإنس من شياطين ؟ قال : نعم ، هم شر من شياطين الجن " .
وقد ساق الإمام ابن كثير عدة روايات عن أبى ذر فى هذا المعنى ، ثم قال فى نهايتها : فهذه طرق لهذا الحديث ومجموعها يفيد قوته وصحته " .
وقوله : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } .
أى : ولو شاء ربك ألا يفعل هؤلاء الشياطين ما فعلوه من معاداة الأنبياء ومن الإيحاء بالقول الباطل لتم له ذلك ، لأنه - سبحانه - هو صاحب المشيئة النافذة ، والإرادة التامة ولكنه - سبحانه - لم يشأ أن يجبرهم على خلاف ما زينته لهم أهواؤهم باختيارهم ، لكى يميز الله الخبيث من الطيب .
فدعهم يا محمد وما يفترون من الكفر وغيره من ألوان الشرور ، فسوف يعلمون سوء عاقبتهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.