معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (40)

قوله تعالى : { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } بدل من الذين الأولى { إلا أن يقولوا ربنا الله } يعني : لم يخرجوا من ديارهم إلا لقولهم ربنا الله وحده { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } بالجهاد وإقامة الحدود ، { لهدمت } قرأ أهل المدينة : بتخفيف الدال . وقرأ الآخرون : بالتشديد على التكثير ، فالتخفيف يكون للتقليل والكثير ، والتشديد يختص بالتكثير { صوامع } قال مجاهد و الضحاك يعني : صوامع الرهبان . وقال فتادة : صوامع الصابئين { وبيع } يعني : بيع النصارى جمع بيعة وهي كنيسة النصارى ، { وصلوات } يعني كنائس اليهود ، ويسمونها بالعبرانية صلوتا { ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً } يعني مساجد المسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم . ومعنى الآية : ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في شريعة كل نبي مكان صلاتهم ، لهدم في زمن موسى الكنائس ، وفي زمن عيسى البيع والصوامع ، وفي زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد . وقال ابن زيد : أراد بالصلوات صلوات أهل الإسلام ، فإنها لا تنقطع إذا دخل العدو عليهم { ولينصرن الله من ينصره } يعني : ينصر دينه ونبيه . { إن الله لقوي عزيز* }

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (40)

ثم ذكر صفة ظلمهم فقال : { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ } أي : ألجئوا إلى الخروج بالأذية والفتنة { بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا } أن ذنبهم الذي نقم منهم أعداؤهم { أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } أي : إلا أنهم وحدوا الله ، وعبدوه مخلصين له الدين ، فإن كان هذا ذنبا ، فهو ذنبهم كقوله تعالى : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } وهذا يدل على حكمة الجهاد ، وأن المقصود منه إقامة دين الله ، وذب الكفار المؤذين للمؤمنين ، البادئين لهم بالاعتداء ، عن ظلمهم واعتدائهم ، والتمكن من عبادة الله ، وإقامة الشرائع الظاهرة ، ولهذا قال : { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } فيدفع الله بالمجاهدين في سبيله ضرر الكافرين ، { لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ } أي : لهدمت هذه المعابد الكبار ، لطوائف أهل الكتاب ، معابد اليهود والنصارى ، والمساجد للمسلمين ، { يُذْكَرَ فِيهَا } أي : في هذه المعابد { اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } تقام فيها الصلوات ، وتتلى فيها كتب الله ، ويذكر فيها اسم الله بأنواع الذكر ، فلولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ، لاستولى الكفار على المسلمين ، فخربوا معابدهم ، وفتنوهم عن دينهم ، فدل هذا ، أن الجهاد مشروع ، لأجل دفع الصائل والمؤذي ، ومقصود لغيره ، ودل ذلك على أن البلدان التي حصلت فيها الطمأنينة بعبادة الله ، وعمرت مساجدها ، وأقيمت فيها شعائر الدين كلها ، من فضائل المجاهدين وببركتهم ، دفع الله عنها الكافرين ، قال الله تعالى : { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ }

فإن قلت : نرى الآن مساجد المسلمين عامرة لم تخرب ، مع أنها كثير منها إمارة صغيرة ، وحكومة غير منظمة ، مع أنهم لا يدان لهم بقتال من جاورهم من الإفرنج ، بل نرى المساجد التي تحت ولايتهم وسيطرتهم عامرة ، وأهلها آمنون مطمئنون ، مع قدرة ولاتهم من الكفار على هدمها ، والله أخبر أنه لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ، لهدمت هذه المعابد ، ونحن لا نشاهد دفعا .

أجيب بأن هذا السؤال والاستشكال ، داخل في عموم هذه الآية وفرد من أفرادها ، فإن من عرف أحوال الدول الآن ونظامها ، وأنها تعتبر كل أمة وجنس تحت ولايتها ، وداخل في حكمها ، تعتبره عضوا من أعضاء المملكة ، وجزء من أجزاء الحكومة ، سواء كانت تلك الأمة مقتدرة بعددها أو عددها ، أو مالها ، أو عملها ، أو خدمتها ، فتراعي الحكومات مصالح ذلك الشعب ، الدينية والدنيوية ، وتخشى إن لم تفعل ذلك أن يختل نظامها ، وتفقد بعض أركانها ، فيقوم من أمر الدين بهذا السبب ما يقوم ، خصوصا المساجد ، فإنها -ولله الحمد- في غاية الانتظام ، حتى في عواصم الدول الكبار .

وتراعي تلك الدول الحكومات المستقلة ، نظرا لخواطر رعاياهم المسلمين ، مع وجود التحاسد والتباغض بين دول النصارى ، الذي أخبر الله أنه لا يزال إلى يوم القيامة ، فتبقى الحكومة المسلمة ، التي لا تقدر تدافع عن نفسها ، سالمة من [ كثير ]{[538]} ضررهم ، لقيام الحسد عندهم ، فلا يقدر أحدهم أن يمد يده عليها ، خوفا من احتمائها بالآخر ، مع أن الله تعالى لا بد أن يري عباده من نصر الإسلام والمسلمين ، ما قد وعد به في كتابه .

وقد ظهرت -ولله الحمد- أسبابه [ بشعور المسلمين بضرورة رجوعهم إلى دينهم والشعور مبدأ العمل ]{[539]} فنحمده ونسأله أن يتم نعمته ، ولهذا قال في وعده الصادق المطابق للواقع : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ } أي : يقوم بنصر دينه ، مخلصا له في ذلك ، يقاتل في سبيله ، لتكون كلمة الله هي العليا .

{ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي : كامل القوة ، عزيز لا يرام ، قد قهر الخلائق ، وأخذ بنواصيهم ، فأبشروا ، يا معشر المسلمين ، فإنكم وإن ضعف عددكم وعددكم ، وقوي عدد عدوكم وعدتهم{[540]} فإن ركنكم القوي العزيز ، ومعتمدكم على من خلقكم وخلق ما تعملون ، فاعملوا بالأسباب المأمور بها ، ثم اطلبوا منه نصركم ، فلا بد أن ينصركم .


[538]:- زيادة من هامش ب.
[539]:- زيادة من هامش ب.
[540]:- في أ: وعدتكم، وهو سبق قلم -والله أعلم- .