معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡـٔٗاۚ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِيجٖ} (5)

ثم ألزم الحجة على منكري البعث فقال : { يا أيها الناس إن كنتم في ريب } يعني : في شك { من البعث فإنا خلقناكم } يعني : أباكم آدم الذي هو أصل النسل { من تراب ثم من نطفة } يعني : ذريته ، والنطفة هي المني ، وأصلها الماء القليل وجمعها نطاف { ثم من علقة } وهي : الدم الغليظ المتجمد ، الطري وجمعها علق ، وذلك أن النطفة تصير دماً غليظاً ثم تصير لحماً { ثم من مضغة } وهي لحمة قليلة قدر ما يمضع { مخلقة وغير مخلقة } قال ابن عباس وقتادة : { مخلقة } أي : تامة وغير مخلقة غير تامة . أي : ناقصة الخلق . وقال مجاهد : مصورة وغير مصورة ، يعني السقط . وقيل : المخلقة الولد الذي تأتي به المرأة لوقته وغير المخلقة السقط . روي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال : إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه وقال : أي رب مخلقة أو غير مخلقة ؟ فإن قال : غير مخلقة ، قذفها الرحم دماً ولم تكن نسمة ، وإن قال : مخلقة ، قال الملك : أي رب أذكر أم أنثى ، أشقي أم سعيد ؟ ما الأجل ما العمل ما الرزق وبأي أرض تموت ؟ فيقال له : اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك ، فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها ، فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفته . { لنبين لكم } كمال قدرتنا وحكمتنا في تصريف أطوار خلقكم ولتستدلوا بقدرته في ابتداء الخلق على قدرته على الإعادة . وقيل : لنبين لكم ما تأتون وما تذرون وما تحتاجون إليه في العبادة . { ونقر في الأرحام ما نشاء } فلا تمجه ولا تسقطه { إلى أجل مسمى } إلى وقت خروجها من الرحم تامة الخلق والمدة . { ثم نخرجكم } من بطون أمهاتكم { طفلاً } أي : صغراً ، ولم يقل : أطفالاً ، لأن العرب تذكر الجمع باسم الواحد . وقيل : تشبيهاً بالمصدر مثل عدل وزور . { ثم لتبلغوا أشدكم } يعني : الكمال والقوة . { ومنكم من يتوفى } من قبل بلوغ الكبر ، { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } أو الهرم والخرف { لكيلا يعلم من بعد علم شيئا } أي : يبلغ من السن ما يتغير عقله فلا يعقل شيئاً . ثم ذكر دليلاً آخر على البعث فقال : { وترى الأرض هامدة } أي : يابسة لا نبات فيها ، { فإذا أنزلنا عليها الماء } المطر ، { اهتزت } تحركت بالنبات وذلك أن الأرض ترتفع بالنبات فذلك تحركها ، { وربت } أي : ارتفعت وزادت ، وربأت بالهمزة ، وكذلك في حم السجدة . أي ارتفعت وعلت . قال المبرد : أراد اهتز وربا نباتها ، فحذف المضاف ، والاهتزاز في النبات أظهر ، يقال : اهتز النبات أي : طال وإنما أنث لذكر الأرض . وقيل : فيه تقديم وتأخير معناه : ربت واهتزت { وأنبتت من كل زوج بهيج } أي : صنف حسن يبهج به من رآه ، أي : يسر ، فهذا دليل آخر على البعث .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡـٔٗاۚ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِيجٖ} (5)

{ 5 - 7 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ *ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ }

يقول تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ } أي : شك واشتباه ، وعدم علم بوقوعه ، مع أن الواجب عليكم أن تصدقوا ربكم ، وتصدقوا رسله في ذلك ، ولكن إذا أبيتم إلا الريب ، فهاكم دليلين عقليين تشاهدونهما ، كل واحد منهما ، يدل دلالة قطعية على ما شككتم فيه ، ويزيل عن قلوبكم الريب .

أحدهما : الاستدلال بابتداء خلق الإنسان ، وأن الذي ابتدأه سيعيده ، فقال فيه : { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ } وذلك بخلق أبي البشر آدم عليه السلام ، { ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } أي : مني ، وهذا ابتداء أول التخليق ، { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } أي : تنقلب تلك النطفة ، بإذن الله دما أحمر ، { ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ } أي : ينتقل الدم مضغة ، أي : قطعة لحم ، بقدر ما يمضغ ، وتلك المضغة تارة تكون { مُخَلَّقَةٍ } أي : مصور منها خلق الآدمي ، { وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } تارة ، بأن تقذفها الأرحام قبل تخليقها ، { لِنُبَيِّنَ لَكُمْ } أصل نشأتكم ، مع قدرته تعالى ، على تكميل خلقه في لحظة واحدة ، ولكن ليبين لنا كمال حكمته ، وعظيم قدرته ، وسعة رحمته .

{ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي : ونقر ، أي : نبقي في الأرحام من الحمل ، الذي لم تقذفه الأرحام ، ما نشاء إبقاءه إلى أجل مسمى ، وهو مدة الحمل . { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ } من بطون أمهاتكم { طِفْلًا } لا تعلمون شيئا ، وليس لكم قدرة ، وسخرنا لكم الأمهات ، وأجرينا لكم في ثديها الرزق ، ثم تنتقلون طورا بعد طور ، حتى تبلغوا أشدكم ، وهو كمال القوة والعقل .

{ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى } من قبل أن يبلغ سن الأشد ، ومنكم من يتجاوزه فيرد إلى أرذل العمر ، أي : أخسه وأرذله ، وهو سن الهرم والتخريف ، الذي به يزول العقل ، ويضمحل ، كما زالت باقي القوة ، وضعفت .

{ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } أي : لأجل أن لا يعلم هذا المعمر شيئا مما كان يعلمه قبل ذلك ، وذلك لضعف عقله ، فقوة الآدمي محفوفة بضعفين ، ضعف الطفولية ونقصها ، وضعف الهرم ونقصه ، كما قال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } والدليل الثاني ، إحياء الأرض بعد موتها ، فقال الله فيه : { وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً } أي : خاشعة مغبرة لا نبات فيها ، ولا خضر ، { فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ } أي : تحركت بالنبات { وَرَبَتْ } أي : ارتفعت بعد خشوعها وذلك لزيادة نباتها ، { وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ } أي : صنف من أصناف النبات { بَهِيجٍ } أي : يبهج الناظرين ، ويسر المتأملين ، فهذان الدليلان القاطعان ، يدلان على هذه المطالب الخمسة ، وهي هذه .