معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلۡيَتَٰمَىٰ ظُلۡمًا إِنَّمَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ نَارٗاۖ وَسَيَصۡلَوۡنَ سَعِيرٗا} (10)

قوله تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً } . قال مقاتل وابن حيان : نزلت في رجل من بني غطفان يقال له مرثد بن زيد ، ولي مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله فأنزل الله تعالى فيه { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً } أي حراماً بغير حق .

قوله تعالى : { إنما يأكلون في بطونهم نارا } . أخبر عن مآله ، أي عاقبته تكون كذلك .

قوله تعالى : { وسيصلون سعيراً } . قراءة العامة بفتح الياء ، أي : يدخلونه . يقال : صلي النار يصلاها صليا وصلاء ، قال الله تعالى : { إلا من هو صال الجحيم } . وقرأ ابن عامر وأبو بكر بضم الياء ، أي : يدخلون النار ويحرقون ، نظيره قوله تعالى : { فسوف نصليه ناراً } . { سأصليه سقر } وفي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( رأيت ليلة أسري بي قوماً لهم مشافر كمشافر الإبل ، إحداهما قالصة على منخريه والأخرى على بطنه ، وخزنة النار يلقمونهم جمر جهنم وصخرها ، فقلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً ) .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلۡيَتَٰمَىٰ ظُلۡمًا إِنَّمَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ نَارٗاۖ وَسَيَصۡلَوۡنَ سَعِيرٗا} (10)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ إِنّ الّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىَ ظُلْماً إِنّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : { إنّ الّذِينَ يأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى ظُلْما } يقول : بغير حقّ ، { إنمَا يأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نارا } يوم القيامة ، بأكلهم أموال اليتامى ظلما في الدنيا ، نارَ جهنم . { وسَيَصْلَوْنَ } بأكلهم { سَعِيرا } . كما :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { إنّ الّذِينَ يأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى ظُلْما إنّمَا يأْكُلُونَ في بُطُونهِمْ نارا } قال : إذا قام الرجل يأكل مال اليتيم ظلما ، يبعث يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه ومن أذنيه وأنفه وعينيه ، يعرفه من رآه بأكل مال اليتيم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرني أبو هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : حدثنا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ليلة أُسْرِيَ به ، قال : «نَظَرْتُ فإذا أنا بِقَوْمٍ لَهُمْ مَشافِرُ كمَشافِرِ الإبِلِ وقَدْ وُكّلِ بِهِمْ مِنْ يأْخُذُ بِمَشافِرِهِمْ ، ثُمّ يجْعَل فِي أفْواهِهِمْ صخْرا مِنْ نارٍ يخْرُجُ مِنْ أسافِلِهِمْ ، قُلْتُ : يا جِبرِيلُ مَنْ هَؤُلاءِ ؟ قال : هَؤُلاءِ الّذِينَ يأْكُلُونَ أمْوال اليَتامى ظُلْما إنّمَا يأْكَلُونَ في بُطُونِهمْ نارا » .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { إنّ الّذِينَ يأْكُلُون أمْوالَ اليَتَامى ظُلْما إنّمَا يأْكُلُون في بُطُونِهِمْ نارا وَسَيصْلَوْنَ سَعِيرا } قال : قال أبي : إن هذه لأهل الشرك حين كانوا لايورثونهم ويأكلون أموالهم .

وأما قوله : { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا } فإنه مأخوذ من الصّلا ، والصّلا : الاصطلاء بالنار ، وذلك التسخن بها ، كما قال الفرزذق :

وَقاتَلَ كَلْبُ الحَيّ عَنْ نارِ أهْلِهِ ***لِيَرْبِضَ فِيها وَالصّلا مُتَكَنّفُ

وكما قال العجاج :

*** وَصَالِيَانِ للِصّلاَ صُلِيّ ***

ثم استعمل ذلك في كل من باشر بيده أمرا من الأمور ، من حرب أو قتال أو خصومة أو غير ذلك ، كما قال الشاعر :

لَمْ أكُنْ مِنْ جُناتِها عَلِمَ اللّ ***هُ وإنّي بحَرّها اليَوْمَ صَالِي

فجعل ما باشر من شدّة الحرب وإجراء القتال ، بمنزلة مباشرة أذى النار وحرّها .

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة والعراق : { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا } بفتح الياء على التأويل الذي قلنا . وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض الكوفيين : { وَسَيُصْلَوْنَ سَعِيرا } بضم الياء ، بمعنى يحرقون من قولهم : شاة مَصْلِيّة ، يعني : مشوية .

قال أبو جعفر : والفتح بذلك أولى من الضمّ لإجماع جميع القرّاء على فتح الياء في قوله : { لا يَصْلاها إلاّ الأشْقَى } ولدلالة قوله : { إلاّ مَنْ هُوَ صالِ الجَحِيمِ } على أن الفتح بها أولى من الضم . وأما السعير : فإنه شدة حرّ جهنم ، ومنه قيل : استعرت الحرب : إذا اشتدت ، وإنما هو مسعور ، ثم صرف إلى سعير ، قيل : كف خضيب ، ولحية دهين ، وإنما هي مخضوبة صرفت إلى فعيل .

فتأويل الكلام إذًا : وسيصلون نارا مسعرة : أي موقودة مشعلة ، شديدا حرّها .

وإنما قلنا إن ذلك كذلك ، لأن الله جلّ ثناؤه قال : { وَإذَا الجَحِيمُ سُعّرَتْ } فوصفها بأنها مسعورة ، ثم أخبر جلّ ثناؤه أن إكلة أموال اليتامى يصلونها ، وهي كذلك ، فالسعير إذًا في هذا الموضع صفة للجحيم على ما وصفنا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلۡيَتَٰمَىٰ ظُلۡمًا إِنَّمَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ نَارٗاۖ وَسَيَصۡلَوۡنَ سَعِيرٗا} (10)

قال ابن زيد : نزلت في الكفار الذين كانوا لا يورثون النساء والصغار ، ويأكلون أموالهم ، وقال أكثر الناس : نزلت في الأوصياء الذي يأكلون ما لم يبح لهم من مال اليتيم ، وهي تتناول كل آكل وإن لم يكن وصياً ، وسمي آخذ المال على كل وجوهه آكلاً لما كان المقصود هو الأكل وبه أكثر الإتلاف للأشياء ، وفي نصه على البطون من الفصاحة تبيين نقصهم ، والتشنيع عليهم بضد مكارم الأخرق ، من التهافت بسبب البطن ، وهو أنقص الأسباب وألأمها حتى يدخلوا تحت الوعيد بالنار ، و { ظلماً } معناه : ما جاوز المعروف مع فقر الوصي ، وقال بعض الناس : المعنى أنه لما يؤول أكلهم للأموال إلى دخولهم النار قيل : { يأكلون } النار ، وقالت طائفة : بل هي حقيقة أنهم يطعمون النار ، وفي ذلك أحاديث ، منها حديث أبي سعيد الخدري قال : حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به ، قال ، رأيت أقواماً لهم مشافر كمشافر الإبل ، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخراً من نار ، تخرج من أسافلهم ، قلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً{[3865]} ، وقرأ جمهور الناس «وسيَصلون » على إسناد الفعل إليهم ، وقرأ ابن عامر بضم الياء واختلف عن عاصم ، وقرأ أبو حيوة ، و «سيُصلُون » بضم الياء واللام ، وهي ضعيفة ، والأول أصوب ، لأنه كذلك جاء في القرآن في قوله : { لا يصلاها إلا الأشقى }{[3866]} وفي قوله : { صال الجحيم }{[3867]} والصلي هو التسخن بقرب النار أو بمباشرتها ، ومنه قول الحارث بن عباد{[3868]} :

لم أكن من جناتها ، علم الله . . . وإني بحرِّها اليوم صال

والمحترق الذي يذهبه الحرق ليس بصال إلا في بدء أمره ، وأهل جهنم لا تذهبهم فهم فيها صالون ، «والسعير » : الجمر المشتعل ، وهذه آية من آيات الوعيد ، والذي يعتقده أهل السنة أن ذلك نافذ على بعض العصاة ، لئلا يقع الخبر بخلاف مخبره ، ساقط بالمشيئة عن بعضهم ، وتلخيص الكلام في المسألة : أن الوعد في الخير ، والوعيد في الشر ، هذا عرفهما إذا أطلقا ، وقد يستعمل الوعد في الشر مقيداً به ، كما قال تعالى : { النار وعدها الله ، الذين كفروا }{[3869]} فقالت المعتزلة : آيات الوعد كلها في التائبين والطائعين ، وآيات الوعيد في المشركين والعصاة بالكبائر ، وقال بعضهم : وبالصغائر ، وقالت المرجئة : آيات الوعد كلها فيمن اتصف بالإيمان الذي هو التصديق ، كان من كان من عاص أو طائع ، وقلنا أهل السنة والجماعة : آيات الوعد في المؤمنين الطائعين ومن حازته المشيئة من العصاة ، وآيات الوعيد في المشركين ومن حازه الإنفاذ من العصاة ، والآية الحاكمة بما قلناه قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لما يشاء }{[3870]} فإن قالت المعتزلة لمن يشاء يعني التائبين ، رد عليهم بأن الفائدة في التفضيل كانت تنفسد ، إذ الشرك أيضاً يغفر للتائب ، وهذا قاطع بحكم قوله { لمن يشاء } بأن ثم مغفوراً له وغير مغفور ، واستقام المذهب السني .


[3865]:- أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم، انظر فتح القدير 1/ 430 ط دار الفكر. بيروت.
[3866]:- من الآية (16) من سورة الليل.
[3867]:- من الآية (163) من سورة الصافات.
[3868]:- زعيم بني بكر، لم يشترك أول الأمر في حرب البسوس، إلا بعد أن قتل ابنه بجير، وعدّ بواء بشسع نعل كليب؛ وعندئذ قال الحارث: "قربا مربط النعامة مني"- والنعامة فرسه، وهو في هذا البيت يبرئ نفسه من أن يكون أحد جناة تلك الحرب، ولكنه لم يملك إلا أن يصلى بحرها، (انظر الأغاني 5/ 40 ط. دار الثقافة).
[3869]:- من الآية (72) من سورة الحج.
[3870]:- من الآية (48) من سورة النساء.