قوله تعالى : { ستجدون آخرين } . قال الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : هم أسد ، وغطفان ، كانوا حاضري المدينة ، تكلموا بالإسلام رياء وهم غير مسلمين ، وكان الرجل منهم يقول له قومه : بماذا أسلمت ؟ فيقول : آمنت بهذا القرد ، وبهذا العقرب والخنفساء ، وإذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : إنا على دينكم ، يريدون بذلك الأمن في الفريقين . وقال الضحاك عن ابن عباس : هم بنو عبد الدار كانوا بهذه الصفة .
قوله تعالى : { يريدون أن يأمنوكم } . فلا تتعرضوا لهم .
قوله تعالى : { ويأمنوا قومهم } فلا يتعرضوا لهم .
قوله تعالى : { كلما ردوا إلى الفتنة } أي : دعوا إلى الشرك .
قوله تعالى : { أركسوا فيها } أي : رجعوا وعادوا إلى الشرك .
قوله تعالى : { فإن لم يعتزلوكم } أي : فإن لم يكفوا عن قتالكم حتى تسيروا إلى مكة .
قوله تعالى : { ويلقوا إليكم السلم } أي : المفادة والصلح .
قوله تعالى :{ ويكفوا أيديهم } . ولم يقبضوا أيديهم عن قتالكم .
قوله تعالى : { فخذوهم } ، أسرى .
قوله تعالى : { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } أي : وجدتموهم .
قوله تعالى : { وأولئكم } أي : أهل هذه الصفة .
قوله تعالى : { جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً } أي : حجة بينةً ظاهرة بالقتل والقتال .
{ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلّ مَا رُدّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوَاْ إِلَيْكُمُ السّلَمَ وَيَكُفّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلََئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مّبِيناً } . .
وهؤلاء فريق آخر من المنافقين كانوا يظهرون الإسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليأمنوا به عندهم من القتل والسباء وأخذ الأموال وهم كفار ، يعلم ذلك منهم قومهم ، إذا لقوهم كانوا معهم وعبدوا ما يبعدونه من دون الله ليأمنوهم على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وذراريهم ، يقول الله : { كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا } يعني : كلما دعاهم إلى الشرك بالله ارتدوا فصاروا مشركين مثلهم .
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الاَية ، فقال بعضهم : هم ناس كانوا من أهل مكة أسلموا على ما وصفهم الله به من التقية وهم كفار ، ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم ، يقول الله : { كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا } يعني : كلما دعاهم إلى الشرك بالله ارتدوا ، فصاروا مشركين مثلهم ليأمنوا عند هؤلاء وهؤلاء . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { يُرِيدونَ أنْ يأْمَنُوكُمْ ويَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ } قال ناس كانوا يأتون النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فيسلمون رياء ، ثم يرجوعن إلى قريش فيرتكسون في الأوثان ، يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا ، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أنْ يَأْمَنُوكُمْ ويَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها } يقول : كلما أرادوا أن يخرجوا من فتنة أركسوا فيها . وذلك أن الرجل كان يوحد قد تكلم بالإسلام ، فيقرّب إلى العود والجحر وإلى العقرب والخنفساء ، فيقول المشركون لذلك المتكلم بالإسلام : قل هذا ربي ، للخنفساء والعقرب .
وقال آخرون : بل هم قوم من أهل الشرك كانوا طلبوا الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمنوا عنده وعند أصحابه وعند المشركين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { سَتَجِدُونَ آخَرينَ يُريدُونَ أنْ يَأْمَنُوكُمْ ويَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ } قال : حيّ كانوا بتهامة ، قالوا : يا نبيّ الله لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا ، وأرداوا أن يأمنوا نبيّ الله ويأمنوا قومهم . فأبي الله ذلك عليهم ، فقال : { كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَة أُرْكِسُوا فِيها } يقول : كلما عرض لهم بلاء هلكوا فيه .
وقال آخرون : نزلت هذه الاَية في نعيم بن مسعود الأشجعي . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ثم ذكر نعيم بن مسعود الأشجعي ، وكان يأمن في المسلمين والمشركين ، ينقل الحديث بين النبيّ صلى الله عليه وسلم . فقال : { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُريدُونَ أنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَة } يقول : إلى الشرك .
وأما تأويل قوله : { كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَة أُرْكِسُوا فِيهَا } فإنهم كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : { كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا } قال : كلما ابتلوا بها عموا فيها .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : كلما عرض لهم بلاء هلكوا فيه .
والقول في ذلك ما قد بينت قبل ، وذلك أن الفتنة في كلام العرب : الاختبار ، والإركاس : الرجوع .
فتأويل الكلام : كلما ردوا إلى الاختبار ليرجعوا إلى الكفر والشرك رجعوا إليه .
القول في تأويل قوله تعالى : { فإنْ لَمْ يَعْتَزلُوكُمْ وَيُلْقُوا إلَيْكُمْ السّلَمَ ويَكُفّوا أيْديَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وأُولَئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطانا مُبينا } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : فإن لم يعتزلوكم أيها المؤمنون هؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم ، وهي كلما دعوا إلى الشرك أجابوا إليه ، ويلقوا إليكم السلم ، ولم يستسلموا إليكم فيعطوكم المقاد ويصالحوكم . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { فإنْ لَمْ يَعْتَزلُوكُمْ وَيُلْقُوا إلَيْكُمُ السّلَمَ } قال : الصلح .
{ وَيَكُفّوا أيْدِيَهُمْ } يقول : ويكفوا أيديهم عن قتالكم ، { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } يقول جلّ ثناؤه : فإن لم يفعلوا فخذوهم أين أصبتموهم من الأرض ولقيتموهم فيها فاقتلوهم ، فإن دماءهم لكم حينئذٍ حلال . { وأُولَئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطانا مُبِينا } يقول جلّ ثناؤه : وهؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم وهم على ما هم عليه من الكفر ، إن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم ، جعلنا لكم حجة في قتلهم أينما لقيتموهم ، بمقامهم على كفرهم وتركهم هجرة دار الشرك . { مُبِينا } يعني أنها تبين عن استحقاقهم ذلك منكم وإصابتكم الحقّ في قتلهم ، وذلك قوله : { سُلْطانا مُبِينا } . والسلطان : هو الحجة . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا قبيصة ، قال : حدثنا سفيان ، عن رجل ، عن عكرمة ، قال : ما كان في القرآن من سلطان فهو حجة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قوله : { سُلْطانا مُبِينا } أما السلطان المبين : فهو الحجة .
{ ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم } هم أسد وغطفان ، وقيل بنو عبد الدار أتوا المدينة وأظهروا الإسلام ليأمنوا المسلمين فلما رجعوا كفروا . { كل ما ردوا إلى الفتنة } دعوا إلى الكفر وإلى قتال المسلمين .
{ أركسوا فيها } عادوا إليها وقلبوا فيها أقبح قلب . { فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم } وينبذوا إليكم العهد . { ويكفوا أيديهم } عن قتالكم . { فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم } حيث تمكنتم منهم فإن مجرد الكف لا يوجب نفي التعرض .
{ وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا } حجة واضحة في التعرض لهم بالقتل والسبي لظهور عداوتهم ووضوح كفرهم وغدرهم ، أو تسلطا ظاهرا حيث أذنا لكم في قتلهم .
لما وصف الله تعالى فيما تقدم صفة المحقين في المتاركة ، المجدين في إلقاء السلم ، نبه على طائفة مخادعة مبطلة مبطنة كانوا يريدون الإقامة في مواضعهم مع أهليهم ، يقولون لهم : نحن معكم وعلى دينكم ، ويقولون أيضاً للمسلمين إذا وفدوا وأرسلوا : نحن معكم وعلى دينكم خبثة منهم وخديعة ، قيل : كانت أسد وغطفان بهذه الصفة ، وقيل : نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي ، كان ينقل بين النبي عليه االسلام والكفار الأخبار ، وقيل : نزلت في قوم يجيئون من مكة إلى النبي عليه السلام رياء يظهرون الإسلام ثم يرجعون إلى قريش فيكفرون ، ففضح الله تعالى هؤلاء ، وأعلم أنهم على غير صفة من تقدم ، وقوله :
{ إلى الفتنة } معناه إلى الاختبار ، حكي أنهم كانوا يرجعون إلى قومهم فيقال لأحدهم : قل : ربي الخنفساء ، وربي العود ، وربي العقرب ، ونحوه ، فيقولها ، ومعنى { أركسوا } رجعوا رجع ضلالة أي أهلكوا في الاختيار بما واقعوه من الكفر ، وقرأ عبد الله بن مسعود «رُكسوا » بضم الراء من غير ألف ، وحكاه عنه أبو الفتح بشد الكاف على التضعيف ، والخلاف في { السلم } حسبما تقدم ، وهذه الآية حض على قتل هؤلاء المخادعين إذا لم يرجعوا عن حالهم إلى حال الآخرين المعتزلين الملقين للسلم .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله : وتأمل فصاحة الكلام في أن سياقه في الصيغة المتقدمة قبل هذه سياق إيجاب الاعتزال ، وإيجاب إلقاء السلم ، ونفي المقاتلة ، إذ اكانوا محقين في ذلك معتقدين له ، وسياقه في هذه الصيغة المتأخرة سياق نفي الاعتزال ، ونفي إلقاء السلم ، إذ كانوا مبطلين فيه مخادعين ، والحكم سواء على السياقين ، لأن الذين لم يجعل الله عليهم سبيلاً لو لم يعتزلوا لكان حكمهم حكم هؤلاء الذين جعل عليهم «سلطان مبين » ، وكذلك هؤلاء الذين عليهم السلطان ، إذ لم يعتزلوا ، لو اعتزلوا لكان حكمهم حكم الذين لا سبيل عليهم . ولكنهم بهذه العبارة تحت القتل إن لم يعتزلوا ، و { ثقفتموهم } مأخوذ من الثقاف ، أي ظفرتم بهم مغلوبين متمكناً منهم ، والسلطان الحجة ، قال عكرمة : حيث ما وقع السلطان في كتاب الله تعالى فهو الحجة .