تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ستجدون آخرين} منهم أسد وغطفان، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:"أجئتم مهاجرين؟"، قالوا: بل جئنا مسلمين، فإذا رجعوا إلى قومهم، قالوا: آمنا بالعقرب والخنفساء إذ تعود، فقال: {ستجدون آخرين} {يريدون أن يأمنوكم}، يعني يأمنوا فيكم معشر المؤمنين بأنهم مقرون بالتوحيد، {ويأمنوا قومهم} المشركين، لأنهم على دينهم، {كل ما ردوا إلى الفتنة}، يعني كلما دعوا إلى الشرك، {أركسوا فيها}، يقول: عادوا في الشرك، {فإن لم يعتزلوكم} في القتال، {ويلقوا إليكم السلم}، يعني الصلح، {ويكفوا أيديهم} عن قتالكم، {فخذوهم واقتلوهم}: أأسروهم واقتلوهم، {حيث ثقفتموهم}، يعني أدركتموهم من الأرض في الحل والحرم، {وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا}، يعني حجة بينة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهؤلاء فريق آخر من المنافقين كانوا يظهرون الإسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليأمنوا به عندهم من القتل والسباء وأخذ الأموال وهم كفار، يعلم ذلك منهم قومهم، إذا لقوهم كانوا معهم وعبدوا ما يبعدونه من دون الله ليأمنوهم على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وذراريهم، يقول الله: {كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا}: كلما دعاهم إلى الشرك بالله ارتدوا فصاروا مشركين مثلهم.
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الآية؛
فقال بعضهم: هم ناس كانوا من أهل مكة أسلموا على ما وصفهم الله به من التقية وهم كفار، ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم، يقول الله: {كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا}: كلما دعاهم إلى الشرك بالله ارتدوا، فصاروا مشركين مثلهم ليأمنوا عند هؤلاء وهؤلاء.
وقال آخرون: بل هم قوم من أهل الشرك كانوا طلبوا الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمنوا عنده وعند أصحابه وعند المشركين. عن قتادة، قوله: {سَتَجِدُونَ آخَرينَ يُريدُونَ أنْ يَأْمَنُوكُمْ ويَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} قال: حيّ كانوا بتهامة، قالوا: يا نبيّ الله لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا، وأرداوا أن يأمنوا نبيّ الله ويأمنوا قومهم. فأبي الله ذلك عليهم، فقال: {كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَة أُرْكِسُوا فِيها}: كلما عرض لهم بلاء هلكوا فيه.
وقال آخرون: نزلت هذه الآية في نعيم بن مسعود الأشجعي. وكان يأمن في المسلمين والمشركين، ينقل الحديث بين النبيّ صلى الله عليه وسلم.
{كُلّما رُدّوا إلى الفِتْنَة أُرْكِسُوا فِيهَا}: كلما ابتلوا بها عموا فيها...
والقول في ذلك ما قد بينت قبل، وذلك أن الفتنة في كلام العرب: الاختبار، والإركاس: الرجوع.
فتأويل الكلام: كلما ردوا إلى الاختبار ليرجعوا إلى الكفر والشرك رجعوا إليه.
{فإنْ لَمْ يَعْتَزلُوكُمْ وَيُلْقُوا إلَيْكُمْ السّلَمَ ويَكُفّوا أيْديَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وأُولَئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطانا مُبينا}: فإن لم يعتزلوكم أيها المؤمنون هؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم، وهم كلما دعوا إلى الشرك أجابوا إليه، ويلقوا إليكم السلم، ولم يستسلموا إليكم فيعطوكم المقاد ويصالحوكم.
{وَيَكُفّوا أيْدِيَهُمْ}: ويكفوا أيديهم عن قتالكم، {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}: فإن لم يفعلوا فخذوهم أين أصبتموهم من الأرض ولقيتموهم فيها فاقتلوهم، فإن دماءهم لكم حينئذٍ حلال. {وأُولَئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطانا مُبِينا}: وهؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم وهم على ما هم عليه من الكفر، إن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم، جعلنا لكم حجة في قتلهم أينما لقيتموهم، بمقامهم على كفرهم وتركهم هجرة دار الشرك. {مُبِينا} يعني أنها تبين عن استحقاقهم ذلك منكم وإصابتكم الحقّ في قتلهم، وذلك قوله: {سُلْطانا مُبِينا}. والسلطان: هو الحجة.
ظاهر الآية يدلّ على أنهم كانوا يُظْهِرُونَ الإيمان إذا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم إذا رجعوا إلى قومهم أظهروا الكفر، لقوله تعالى: {كُلَّما رُدُّوا إلَى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها}، والفتنة ههنا الشرك؛ وقوله: {أُرْكِسُوا فِيهَا} يدل على أنهم قبل ذلك كانوا مُظْهِرين للإسلام، فأمر الله تعالى المؤمنين بالكفّ عن هؤلاء أيضاً إذا اعتزلونا وألقوا إلينا السلم، وهو الصلح،...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إن من رام الجمع بين الضدين خاب سعيُه، ولم يرتفع عزمُه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه الآية حض على قتل هؤلاء المخادعين إذا لم يرجعوا عن حالهم إلى حال الآخرين المعتزلين الملقين للسلم...
هم قوم من أسد وغطفان، كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا، وغرضهم أن يأمنوا المسلمين، فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودكم {كلما ردوا إلى الفتنة} كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين {أركسوا فيها} أي ردوا مغلوبين منكوسين فيها، وهذا استعارة لشدة إصرارهم على الكفر وعداوة المسلمين لأن من وقع في شيء منكوسا يتعذر خروجه منه.
ثم قال تعالى: {فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم}.
والمعنى: فإن لم يعتزلوا قتالكم ولم يطلبوا الصلح منكم ولم يكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم. قال الأكثرون: وهذا يدل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن إيذائنا لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم، ونظيره قوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم} وقوله: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} فخص الأمر بالقتال لمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا. واعلم أن هذا الكلام مبني على أن المعلق بكلمة «إن» على الشرط عدم عند عدم الشرط، وقد شرحنا الحال فيه في قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه}.
ثم قال: {وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا}.
الأول: أنه ظهر على جواز قتل هؤلاء حجة واضحة ظاهرة، وهي ظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر، وإضرارهم بأهل الإسلام.
الثاني: أن السلطان المبين هو إذن الله تعالى للمسلمين في قتل هؤلاء الكفار.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان هؤلاء أعرق في النفاق وأردى وأدنى من الذين قبلهم وأعدى، صرح بمفهوم ما صرح به في أولئك، لأنه أغلظ وهم أجدر من الأولين بالإغلاظ، وطوى ما صرح به، ثم قال: {فإن لم يعتزلوكم} ولما كان الاعتزال خضوعاً لا كبراً، صرح به في قوله: {ويلقوا إليكم السلم} أي الانقياد. ولما كان الإلقاء لا بد له من قرائن يعرف بها قال: {ويكفوا أيديهم} أي عن قتالكم وأذاكم {فخذوهم} أي اقهروهم بكل نوع من أنواع القهر تقدرون عليه {واقتلوهم}...
ولما كان نفاقهم -كما تقدم- في غاية الرداءة، وأخلاقهم في نهاية الدناءة، أشار إلى الوعد بتيسير التمكين منهم فقال: {حيث ثقفتموهم}... فإن معناه: صادفتموهم وأدركتموهم وأنتم ظافرون بهم، حاذقون في قتالهم، فطنون به، خفيفون فيه، فإن الثقف: الحاذق الخفيف الفطن... {جعلنا} أي بعظمتنا {لكم عليهم سلطاناً} أي تسلطاً {مبيناَ} أي ظاهراً قوته وتسلطه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم} هؤلاء فريق من الذين لم يهتدوا بالإسلام، ولم يتصدوا إلى مجالدة أهله بحد الحسام، فكانوا مذبذبين بين المؤمنين والكافرين، لا يهمهم إلا سلامة أبدانهم، والأمن على أرواحهم وأموالهم، فهم يظهرون لكل من المتحاربين أنهم منهم أو معهم، روى ابن جرير عن مجاهد أنهم ناس كانوا يأتون النبي (صلى الله عليه وسلم) فيسلمون رياء فيرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يؤمنوا ههنا وههنا، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا. اه...
ونزيد في بيان معنى قوله: {كل ما ردّوا إلى الفتنة أركسوا فيها} أنهم كانوا يريدون أن يأمنوا جانب المسلمين إما بإظهار الإسلام وإما بالعهد على السلم وترك القتال ومساعدة الكفار على المؤمنين ثم يفتنهم المشركون أي يحملونهم على الشرك أو على مساعدتهم على قتال المسلمين وهو الإركاس، فيرتكسون أي فيتحولون شر التحول معهم، ثم يعودون إلى ذلك النفاق والارتكاس المرة بعد المرة، أي فهم قد مردوا على النفاق فلا ينبغي أن يختلف المؤمنون في شأنهم، وقد بين الله حكمهم بقوله:
{فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم} أي فإن لم يعتزلوكم بترككم وشأنكم والتزامهم الحياد، ويلقوا إليكم السلم أي زمام المسالمة بالصفة التي تثقون بها حتى كأن زمامها في أيديكم، (وفسره بعضهم بالصلح ويكفوا أيديهم عن القتال مع المشركين أو عن الدسائس، إن لم يفعلوا ذلك ويؤمن به غدرهم وشرهم فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم، إذ ثبت بالاختبار أنه لا علاج لهم غير ذلك، فقد قامت الحجة لكم على ذلك، وذلك قوله تعالى: {وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا} أي جعلنا لكم حجة واضحة وبرهانا ظاهرا على قتالهم، فقد روي عن غير واحد أن السلطان في كتاب الله تعالى هو الحجة. وهذا يقابل قوله تعالى في من اعتزلوا وألقوا السلم {فما جعل الله لكم عليهم سبيلا} وكل من العبارتين تؤيد الأخرى في بيان كون القتال لم يشرع في الإسلام إلا للضرورة، وأن هذه الضرورة تقدر بقدرها في كل حال...
والظاهر أنه يعني بمقابل الأكثرين من يقول إن في الآيات نسخا. ولا يظهر النسخ فيها إلا بتكلف فما وجه الحرص على هذا التكلف؟ ويأتي في هذه الآية ما ذكرناه عقب التي قبلها في قتل المرتدين وغيرهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هكذا نرى صفحة من حسم الإسلام وجديته، إلى جانب سماحته وتغاضيه.. هذه في موضعها، وتلك في موضعها. وطبيعة الموقف، وحقيقة الواقعة، هي التي تحدد هذه وتلك.. ورؤية هاتين الصفحتين -على هذا النحو- كفيلة بأن تنشىء التوازن في شعور المسلم؛ كما تنشىء التوازن في النظام الإسلامي -السمة الأساسية الأصيلة- فأما حين يجيء المتشددون فيأخذون الأمر كله عنفا وحماسة وشدة واندفاعا فليس هذا هو الإسلام! وأما حين يجيء المتميعون المترققون المعتذرون عن الجهاد في الإسلام، كأن الإسلام في قفص الاتهام وهم يترافعون عن المتهم الفاتك الخطير! فيجعلون الأمر كله سماحة وسلمًا وإغضاء وعفوا؛ ومجرد دفاع عن الوطن الإسلامي وعن جماعة المسلمين -وليس دفعًا عن حرية الدعوة وإبلاغها لكل زاوية في الأرض بلا عقبة. وليس تأمينًا لأي فرد في كل زاوية من زوايا الأرض يريد أن يختار الإسلام عقيدة. وليس سيادة لنظام فاضل وقانون فاضل يأمن الناس كلهم في ظله، من اختار عقيدته ومن لم يخترها سواء.. فأما حينئذ فليس هذا هو الإسلام. وفي هذه الطائفة من أحكام المعاملات الدولية بلاغ وبيان...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هؤلاء فريق آخر لا سَعْيَ لهم إلاّ في خُوَيْصَتِهِم، ولا يعبؤون بغيرهم، فهم يظهرون المودّة للمسلمين ليأمنوا غزوهم، ويظهرون الودّ لقومهم ليأمنوا غائلتهم، وما هم بمخلصين الودّ لأحد الفريقين، ولذلك وصفوا بإرادة أن يأمنوا من المؤمنين ومن قومهم، فلا هَمّ لهم إلاّ حظوظ أنفسهم، يلتحقون بالمسلمين في قضاء لبانات لهم فيظهرون الإيمانَ، ثم يرجعون إلى قومهم فيرتدّون إلى الكفر، وهو معنى قوله: {كُلَّما رُدّوا إلى الفتنة أُرْكسُوا فيها}... والوجدان في قوله: {ستجدون آخرين} بمعنى العثور والاطّلاع، أي ستطَّلعون على قوم آخرين،... وجيء باسم الإشارة في قوله: {وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً} لزيادة تمييزهم. (والسلطان المبين) هو الحجّة الواضحة الدالّة على نفاقهم، فلا يُخْشَى أن ينسب المسلمون في قتالهم إلى اعتداء وتفريق الجامعة...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذا صنف أخير يتجه إلى أن يأمن قومه، فلا يقاتلهم، ويأمن المؤمنين حتى لا يقتلوه، ولكنه لا يمدّ يد الأمان، ولا يسلم القياد، وهؤلاء إذا دعوا إلى القتال، ولم يعترضوا منفردين لأذى المؤمنين، استجابوا للقتال في صفوف المشركين، فهم يظهرون الأمان، أو يظهرون الإسلام، ليأمنوا جانب المؤمنين، فإن لاحت لهم فرصة الانضمام لأعداء الله قاتلوا معهم، وهذا مرمى قوله تعالى: {كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها}، أي كلما ردوا إلى قومهم مفتونين بعصبيتهم وكفرهم، قلبت نفوسهم أقبح قلب، فأركسوا في فتنة الكفر والعصبية، وهؤلاء أوجب الإسلام قتالهم إذا لم يعتزلوا أقوامهم ويكفوا أيديهم عن قتال المسلمين، ولذا قال سبحانه: {فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأُولئِكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا}...
تبدأ هذه الآية بفعل يتحدث عن المستقبل: {ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويؤمنوا قومهم}. معنى ذلك أن المسلمين لحظة نزول هذه الآية لم يكونوا قد وجدوا مثل هؤلاء القوم الذين يتحدث عنهم الحق، ولو لم يحدث للمعاصرين لنزول القرآن أن وجدوا مثل هؤلاء ماذا كانوا يقولون عن هذا الخبر؟. لو لم يجدوا مثل هؤلاء القوم لتشككوا في القرآن. وسبحانه يوضح أني عين معكم، وعين لكم، أخبرتكم بما حدث واختلفتم فيه، وأخبركم بما لم يصل إلى أذهانكم وعلمكم فلا تختلفوا فيه، وهذا دليل على أنكم في رعايتي وفي عنايتي...
{ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويؤمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها}، وهؤلاء كلما جاءهم الاختبار {أركسوا فيها}. أي فشلوا في الاختيار، فعناصرهم الإيمانية لم تقو بعد، ومازالوا في حيرة من أمرهم. وعندما جاءتهم الفتنة لتصهرهم وتكشف ما في أعماقهم ازدادت حيرتهم. فالفتنة هي اختبار، وليست الفتنة شيئا مذموما، وعندما يقال: ان فلانا في فتنة فعلى المؤمن أن يدعو له بالنجاح فيها، فالفتنة ليست مصيبة تقع، ولكن المصيبة تقع إذا رسب الإنسان في الفتنة...
ويشرح القرآن كيفية سلوك المؤمنين تجاه هؤلاء المر تكسين والمنقلبين في الفتنة: {فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا}... والسلطان المبين الذي جعله الله للمؤمنين على المنافقين الذين يقاتلون المؤمنين، هذا السلطان يمكن لكم أيها المسلمون قوة تفعلون بها ما تريدون من هؤلاء ماداموا حاولوا القتال وإلحاق الأذى بالمسلمين، فالحزم والعدل هو أخذهم بالعنف...
وبعد أن تكلم الحق عن القتال ومشروعيته، وقتال المنافقين، وقتال الآخرين. نجد الكلام يصل إلى موضوع القتل. فأوضح لهم: المسألة أنني أنا الذي عملت البنيان الآدمي، والحياة أنا الذي أهبها، وليس من السهل لباني البنيان أن يحرض على هدمه، إنما أنا أحرض على هدم هؤلاء الذين يقاتلونكم؛ لكي يسلم باقي البنيان لكم، وإياكم أن تجترئوا على بنيانات الناس، فملعون من يهدم بنيان الله؛ فالنفس التي خلقها الله، إياك أن تقترب من ناحيتها إلا بحقها وذلك بأن اجترأت على حدود الله؛ لأنه سبحانه هو الذي خلق الحياة وهو الذي يأخذ الحياة، وحياة الناس ليست ملكا لهم؛ فحياة الإنسان نفسه ليست ملكا لنفسه، ولذلك فمن يقتل واحدا، عدوانا دون حق نقتص منه، وأما ان كان ذلك قد قتل خطا فنأخذ منه الدية، وتنتهي المسألة. لكن قاتل نفسه تحرم عليه الجنة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ} وهؤلاء هم الذين يريدون أن يحصلوا على الأمن من كلا الطرفين، ولكن لا عن ضيق أو حرج في نفوسهم من القتال، بل عن حب للحياة مع العمل على أن يأخذوا الحرية لأنفسهم في التحرك في الفتنة، من خلال أجواء الأمان الممنوحة لهم. {كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا}، فهم يخضعون لنوازع الفتنة، ويستسلمون لعواملها ومؤثراتها؛ فإذا حصلت لهم الظروف المساعدة، وقعوا فيها. وقد حكم الإسلام على هؤلاء بأن يقدّموا للمسلمين الدليل العملي الصادق على طبيعة الأمان التي يطلبونها في ممارساتهم تجاه المسلمين، باعتزال القتال وإلقاء السلام إليهم وكف الأيدي عنهم، وإذا تمرّدوا على ذلك وحاولوا أن يلعبوا وينافقوا بعيداً عن وضوح الموقف وصراحته، كان للمسلمين أن يعاملوهم معاملة المشركين، لوحدة الموقع في المعركة مع اختلاف في الأسلوب...
وقد نستوحي من هذه الآيات بعض الملامح العامة لمواقفنا العملية في ساحة الدعوة إلى الله منها:
أن يتعمق العاملون في دراسة النماذج البشرية الموجودة في الساحة من الفئات المنافقة، ولا يستسلموا للأجواء الحميمة وتقديم التنازلات، لمجرد أن هناك هدفاً لهداية الناس ينبغي للمسلم أن يستهدفه، بل لا بد من دراسة تاريخ هؤلاء في سلوكهم العملي، والتعرف على حركتهم في الحاضر، لنعرف من خلال ذلك ما هي الفرص التي قدّمت إليهم في هذا السبيل، وما هي الظروف التي منعت من إقبالهم على انتهازها، وما هي الإمكانات الحاضرة والمستقبلة التي يمكننا من خلالها خلق ظروف جديدة لهدايتهم؟ إننا نؤكد على ذلك، ليخرج العمل الإسلامي من أجواء السذاجة المنطلقة من حالة الطهارة الروحية البريئة التي يعيشها العاملون، فيتحركون في الفراغ، ويبذلون الجهد الضائع، وربما يستغل أولئك المنافقون هذا الإلحاح الإيماني على هدايتهم، فيوحون للعاملين بأنهم سائرون في هذا الاتجاه، مما يفتح لهم أبواب المجتمع المؤمن من موقع الثقة، فيعبثون فيه كما يشاؤون، ثم ينقلبون إلى جماعاتهم من دون أن يحصل المؤمنون على ما يريدونه منهم.
أن نستوحي من الفقرة الكريمة في قوله تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ} أن على المؤمنين أن يأخذوا الحذر في علاقتهم بالفئات التي تحمل هذا التفكير وتعمل لهذا الهدف، سواء كان ذلك على مستوى أحزاب الكفر والضلال، أو على مستوى الأفراد والجماعات المنافقة، فعليهم أن لا يتخذوا منهم أولياء؛ بل يعملوا على أن يعاملوهم معاملة الأعداء من حيث الحذر في الموقف والعلاقة والمعاملة، ليأمنوا شرّهم ويحفظوا الناس من الوقوع في حبائلهم.
أن ندرس حالة الحياديين، فنميّز بين الذين يحملون الحياد كموقف ينطلق من قناعاتهم النفسية، فنحترم حيادهم تبعاً لمصلحة الإسلام والمسلمين في حالة الصراع بيننا وبين الفئات المعادية؛ وبين الذين يلعبون بالحياد كورقة يحصلون فيها على امتيازات من حيث الأمن، ويمنحهم حرية الحركة في اللعب على أكثر من حبل من أجل الحصول على مكاسب مادية أو في إيقاد نار الفتنة من أجل الوصول إلى أهداف عدوانية لمصلحة الكفر والكافرين، فنأخذ جانب الحيطة في موقفنا منهم، بالتأكيد على إلغاء الفرص التي تسمح لهم باللعب، وتقييد حريتهم بالوسائل العملية الواقعية؛ لنحفظ الساحة من كل دعاة الفتنة والضلال...