معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ} (96)

قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا } . سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للمسلمين : بيت المقدس قبلتنا ، وهو أفضل من الكعبة وأقدم ، وهو مهاجر الأنبياء ، وقال المسلمون بل الكعبة أفضل ، فانزل الله تعالى { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين . فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا } . وليس شيء من هذه الفضائل لبيت المقدس . واختلف العلماء في قوله تعالى { إن أول بيت وضع للناس للذي } . فقال بعضهم : هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض ، خلقه الله قبل الأرض بألفي عام ، وكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحته ، هذا قول عبد الله بن عمر ومجاهد وقتادة والسدي . وقال بعضهم : هو أول بيت بني في الأرض .

روي عن علي بن الحسين : أن الله تعالى وضع تحت العرش بيتاً وهو البيت المعمور ، وأمر الملائكة أن يطوفوا به ، ثم أمر الملائكة الذين هم سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتاً على مثاله وقدرة ، فبنوه واسمه الضراح ، وأمر من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور .

وروي أن الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام ، فكانوا يحجونه ، فلما حجه آدم قالت له الملائكة : بر حجك يا آدم ، حججنا هذا البيت قبلك بألف عام ، ويروى عن ابن عباس أنه قال : أراد به ، أنه أول بيت بناه آدم في الأرض وقيل : هو أول بيت مبارك وضع هدى للناس ، يعبد الله فيه ، ويحج إليه ، وقيل : أول بيت جعل قبلة للناس . وقال الحسن والكلبي : معناه أنه أول مسجد ومتعبد وضع للناس ، يروى ذلك عن علي بن أبي طالب . قال الضحاك : أول بيت وضع فيه البركة ، وقيل : أول بيت وضع للناس يعبد الله فيه كما قال الله تعالى : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ) يعني المساجد .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا موسى بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الواحد ، أنا الأعمش ، أخبرنا إبراهيم بن يزيد التيمي عن أبيه قال : سمعت أبا ذر يقول : " قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولاً ؟ قال : المسجد الحرام ، قلت ثم أي ؟ قال : المسجد الأقصى ، قلت : كم كان بينهما ؟ قال : أربعون سنة ، ثم قال : أينما أدركتك الصلاة بعد فصل ، فإن الفضل فيه " . قوله تعالى ( للذي ببكة ) . قال جماعة : هي مكة نفسها ، وهو قول الضحاك ، والعرب تعاقب بين الباء والميم ، فتقول : سيد رأسه وسمده ، وضربه لازب ولازم ، وقال الآخرون بكة موضع البيت في مكة ، ومكة اسم البلد كله . وقيل : بكة موضع البيت والمطاف ، سميت بكة لأن الناس يتباكون فيها ، أي يزدحمون يبك بعضهم بعضا ، ويمر بعضهم بين يدي بعض ، . وقال عبد الله بن الزبير : سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة ، أي تدقها فل يقصدها جبار بسور إلا قصمه الله . وأما مكة سميت بذلك لقلة مائها ، من قول العرب : " مك الفصيل ضرع أمه وأمتكه " إذا امتص كل ما فيه من اللبن ، وتدعى أم رحم لأن الرحمة تنزل بها { مباركاً } نصب على الحال ، أي : ذا بركة { وهدى للعالمين } لأنه قبلة المؤمنين { فيه آيات بينات } قرأ ابن عباس( آية بينة ) على الواحد ، وأراد مقام إبراهيم وحده ، وقرأ الآخرون { آيات بينات } بالجمع ، فذكر منها مقام إبراهيم وهو الحجر الذي قام عليه إبراهيم ، وكان أثر قدميه فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي ، ومن تلك الآيات في البيت الحجر السود ، والحطيم ، وزمزم والمشاعر كلها ، وقيل : مقام إبراهيم جميع الحرم ، ومن الآيات في البيت أن الطير تطير فلا تعلو فوقه ، وأن الجارحة إذا قصدت صيداً فإذا دخل الصيد الحرم كفت عنه ، وإنه بلد صدر إليه الأنبياء والمرسلون والأولياء والأبرار ، وأن الطاعة والصدقة فيها تضاعف بمائة ألف .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أبو محمد بن الحسن بن احمد المخلدي ، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج ، أخبرنا أبو مصعب احمد بن أبي بكر الزهري ، أنا مالك بن أنس ، عن زيد بن رباح ، أخبرنا عبد الله بن عبد الله الأغر ، عن أبي عبد الله الأعمش عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة ، فيما سواه إلا المسجد الحرام " .

قوله تعالى : { ومن دخله كان آمناً } . من أن يهاج فيه ، وذلك بدعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال ( رب اجعل هذا بداً آمناً ) وكانت العرب في الجاهلية يقتل بعضهم بعضاً ، ويغير بعضهم على بعض ، ومن دخل الحرم أمن من القتل والغارة ، وهو المراد من الآية على قول الحسن وقتادة وأكثر المفسرين قال الله تعالى( أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) وقيل : المراد به أن من دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آمناً ، كما قال تعالى ( لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ) وقيل : هو خبر بمعنى الأمر تقديره : ومن دخله فأمنوه ، كقوله تعالى( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) أي : لا ترفثوا ولا تفسقوا ، حتى ذهب بعض أهل العلم إلى أن من وجب عليه القتل قصاصاً أو حدا ، ً فالتجأ إلى الحرم فلا يستوفى منه فيه ولكنه لا يطعم ولا يبايع ولا يشارى حتى يخرج منه فيقتل قاله ابن عباس ، وبه قال أبو حنيفة ، وذهب قوم إلى أن القتل الواجب بالشرع يستوفى فيه ، أما إذا ارتكب الجريمة في الحرم فيستوفي فيه عقوبته بالاتفاق . وقيل معناه : ومن دخله معظماً له ، متقرباً إلى الله عز وجل كان آمناً يوم القيامة من العذاب .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ} (96)

ثم أخبر القرآن عن مسألة أخرى جادل اليهود فيها النبى صلى الله عليه وسلم وهى مسألة أفضلية المسجد الحرام على غيره من المساجد ، وقد رد القرآن عليهم وعلى أمثالهم فى الكفر والعناد بما يثبت أن المسجد الحرام الذى نازعوا فى أفضليته هو أفضل المساجد على الإطلاق فقال تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ . . . } .

قال الفخر الرازى ما ملخصه : فى اتصال هاتين الآيتين بما قبلهما وجوه :

الأول : أن المراد منهما الجواب عن شبهة أخرى من شبهات اليهود فى إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لأنه لما حولت القبلة إلى الكعبة طعن اليهود فى نبوته وقالوا : إن بيت المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال ، وذلك لأنه وضع قبل الكعبة وهو أرض الحشر ، وقبلة جملة الأنبياء ، وإذا كان كذلك كان تحويل القبلة إلى الكعبة باطلا ، فأجاب الله عنه بقوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } فبين - سبحانه - أن الكعبة أفضل من بيت المقدس وأشرف فكان جعلها قبلة أولى " .

والمراد بالأولية أنه أول بيت وضعه الله لعبادته فى الأرض ، وقيل المراد بها كونه أولا فى الوضع وفى البناء ، ورووا فى ذلك آثارا ليس فيها ما يعتمد عليه .

وبكة : لغة فى مكة عند الأكثرين ، والباء والميم تعقب إحداهما الأخرى كثيراً ، ومنه النميط والنبيط فهما اسم لموضع . وقيل هما متغايران : فبكة موضع المسجد ومكة اسم البلد بأسرها . وأصل كلمة بكة من البك وهو الازدحام . يقال تباك القوم إذا تزاحموا ، وكأنها سميت بذلك لازدحام الحجيج فيها . والبك أيضاً دق العنق ، وكأنها سميت بكة لأن الجبابرة تندق أعناقهم إذا أرادوها بسوء . وقيل إنها مأخوذة من بكأت الناقة أو الشاة إذا قل لبنها ، وكأنها إنما سميت بذلك لقلة مائها وخصبها .

والمعنى : إن أول بيت وضعه الله - تعالى - للناس فى الأرض ليكون متعبداً لهم ، هو البيت الحرام الذى بمكة ، حيث يزدحم الناس أثناء طوافهم حوله ، وقد أتوا إليه رجالا وعلى كل ضامر من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم .

روى الشيخان عن أبى ذر قال : " قلت يا رسول الله : أي مسجد وضع فى الأرض أول ؟ قال : المسجد الحرام . قلت : ثم آي ؟ قال المسجد الأقصى . قلت : كم بينهما ؟ قال : أربعون سنة ، ثم قال : حيثما أدركتك الصلاة فصل . والأرض لك مسجد " .

قالوا : وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد منه فقال : معلوم أن سليمان بن داود هو الذى بنى المسجد الأقصى ، والذى بنى المسجد الحرام هو إبراهيم وابنه إسماعيل ، وبينهما وبين سليمان أكثر من ألف سنة فيكف قال صلى الله عليه وسلم : إن بين بناء المسجدين أربعين سنة !

والجواب أن الوضع غير البناء ، فالذى أسس المسجد الأقصى ووضعه فى الأرض بأمر الله سيدنا يعقوبن بن إسحاق بن إبراهيم ويعقوب هذه المدة التى جاءت في الحديث ، أما سليمان فلم يكن مؤسساً للمسجد الأقصى أو واضعاً له وإنما كان مجددا فلا إشكال ولا منافاة .

وإذن فالبيت الحرام أسبق بناء من المسجد الأقصى ، وأجمع منه للديانات السماوية ، وهو - أى البيت الحرام - أول بيت جعل الله الحج إليه عبادة مفروضة على كل قادر على الحج ، وجعل الطوف حوله عبادة ، وتقبيل الحجر الأسود الذى هو ضمن بنائه عبادة .

. . ولا يوجد بيت سواه فى الأرض له من المزايا والخصائص ما لهذا البيت الحرام .

وبذلك ثبت كذب اليهود فى دعواهم أن المسجد الأقصى أفضل من المسجد الحرام ، وأن فى تحول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة فى صلاته مخالفة للأنبياء قبله .

ثم مدح الله - تعالى - بيته بكونه { مُبَارَكاً } أى كثير الخير دائمه ، من البركة وهى النماء والزيادة والدوام .

أى أن هذا البيت كثير الخير والنفع لمن حجه أو اعتمره أو اعتكف فيه ، أو طاف حوله ، بسبب مضاعفة الأجر ، وإجابة الدعاء ، وتكفير الخطايا لمن قصده بإيمان وإخلاص وطاعة لله رب العالمين .

وإن هذا البيت فى الوقت ذاته وفير البركات المادية والمعنوية .

فمن بركاتع المادية : قدوم الناس إليه من مشارق الإرض ومغاربها ومعهم خيرات الأرض ، يقدمونها على سبيل تبادل المنفعة تارة وعلى سبيل الصدقة تارة أخرى لمن يسكنون حول هذا البيت الحرام ، إجابة لدعوة سيدنا إبراهيم حيث قال : { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } ومن بركاته المعنوية : أنه مكان لأكبر عبادة جامعة للمسلمين وهى فريضة الحج ، وإليه يتجه المسلمون فى صلاتهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأماكنهم .

وقوله { مُبَارَكاً } حال من الضمير فى " وضع " .

ثم مدحه بأنه { هُدًى لِّلْعَالَمِينَ } آي بذاته مصدر هداية للعالمين ، لأنه قبلتهم ومتعبدهم ، وفى استقباله توجيه للقلوب والعقول إلى الخير وإلى ما يوصلهم إلى رضا الله وجنته .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ} (96)

هذا الكلام واقع موقع التّعليل للأمر في قوله : { فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً } [ آل عمران : 95 ] لأنّ هذا البيت المنوّه بشأنه كان مقاماً لإبراهيم ففضائل هذا البيتِ تحقّق فضيلة شرع بانيه في متعارف النَّاس ، فهذا الاستدلال خطابي ، وهو أيضاً إخبار بفضيلة الكعبة ، وحرمتها فيما مضى من الزّمان .

وقد آذن بكون الكلام تعليلاً موقع ( إنّ ) في أوّله فإنّ التأكيد بإنّ هنا لمجرّد الاهتمام وليس لردّ إنكار منكر ، أو شكّ شاكّ .

ومن خصائص ( إنّ ) إذا وردت في الكلام لمجرّد الاهتمام ، أن تغني غَناء فاء التفريع وتفيد التَّعليل والربط ، كما في دلائل الإعجاز .

ولِمَا في هذه من إفادة الربط استغني عن العطف لكون ( إنّ ) مؤذنة بالربط . وبيانُ وجه التعليل أن هذا البيت لمّا كان أوّل بيت وضع للهُدى وإعلان توحيد الله ليكون علماً مشهوداً بالحسّ على معنى الوحدانية ونفي الإشراك ، فقد كان جامعاً لدلائل الحنيفية ، فإذا ثبت له شرف الأولية ودوام الحرمة على ممرّ العصور ، دون غيره من الهياكل الدينية الَّتي نشأت بعده ، وهو مائل ، كان ذلك دلالة إلهية على أنَّه بمحلّ العناية من الله تعالى ، فدلّ على أنّ الدّين الَّذي قارن إقامته هو الدّين المراد لله ، وهذا يؤول إلى معنى قوله : { إن الدين عند اللَّه الإسلام } [ آل عمران : 19 ] .

وهذا التَّعليل خطابي جار على طريقة اللُّزوم العرفي .

وقال الواحدي ، عن مجاهد : تفاخر المسلمون واليهود ، فقالت اليهود : بيت المَقْدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنَّه مُهَاجر الأنبياء وفي الأرض المقدّسة وقال المسلمون : بل الكعبة أفضل ، فأنزل الله هذه الآية .

و { أوَّل } اسم للسابق في فِعلٍ مَّا فإذا أضيف إلى اسم جنس فهو السابق من جنس ذلك المضاف إليه في الشأن المتحدّث عنه .

والبيت بناء يأوِي واحداً أو جماعة ، فيكون بيتَ سكنى ، وبيت صلاة ، وبيت ندوة ، ويكون مبنياً من حَجَر أو من أثواببِ نسيج شعر أو صوف ، ويكون من أدم فيسمّى قبَّة قال تعالى : { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً } [ النحل : 81 ] .

ومعنى { وُضع } أسّسَ وأثْبِتَ ، ومنه سمّي المكان موضعاً . وأصل الوضع أنَّه الحطّ ضدّ الرفع ، ولمَّا كان الشيء المرفوع بعيداً عن التناول ، كان الموضوع هو قريب التناول ، فأطلق الوضع لمعنى الإدناء للمتناول ، والتَّهيئة للانتفاع .

و ( النَّاس ) تقدّم في قوله تعالى : { ومن النَّاس من يقول آمنا باللَّه } في سورة [ البقرة : 8 ] .

( { وبكّة } اسم مكَّة . وهو لغة بإبدال الميم باء في كلمات كثيرة عدّت من المترادف : مثل لازب في لازم ، وأربد وأرمد أي في لون الرماد ، وفي سماع ابن القاسم من العتبية عن مالك : أنّ بكة بالباء اسم موضع البيت ، وأنّ مكَّة بالميم اسم بقية الموضع ، فتكون باء الجرّ هنا لظرفية مكان البيت خاصّة .

لا لسائر البلد الَّذي فيه البيت ، والظاهر عندي أنّ بكة اسم بمعنى البلدة وضعه إبراهيم علماً على المكان الَّذي عيّنه لسكنى ولده بنيّة أن يكون بلداً ، فيكون أصله من اللغة الكلدانية ، لغة إبراهيم ، ألا ترى أنَّهم سمّوا مدينة ( بعلبك ) أي بلد بَعل وهو معبود الكلدانيين ، ومن إعجاز القرآن اختيار هذا اللَّفظ عند ذكر كونه أوّل بيت ، فلاحظ أيضاً الاسم الأوّل ، ويؤيّد ذلك قوله : { ربّ هذه البلدة } [ النمل : 91 ] وقوله : { ربّ اجعل هذا البلد آمناً } [ إبراهيم : 35 ] . وقد قيل : إنّ بكّة مشتقّ من البَكّ وهو الازدحام ، ولا أحسب قصد ذلك لواضع الاسم .

وعدل عن تعريف البيت باسمه العلَم بالغلبة ، وهو الكعبة ، إلى تعريفه بالموصولية بأنَّه ( الَّذي ببكة ) : لأنّ هذه الصّلة صارت أشهر في تعيّنه عند السامعين ، إذ ليس في مكّة يومئذ بيت للعبادة غيره ، بخلاف اسم الكعبة : فقد أطلق اسم الكعبة على القليس الَّذي بناه الحبشة في صنعاء لدين النصرانية ولقّبوه الكعبة اليمانية .

والمقصود إثبات سبق الكعبة في الوجود قبل بيوت أخر من نوعها . وظاهر الآية أنّ الكعبة أوّل البيوت المبنيّة في الأرض ، فتمسّك بهذا الظَّاهر مجاهد ، وقتادة ، والسّدي ، وجماعة ، فقالوا : هي أوّل بناء ، وقالوا : إنَّها كانت مبنيّة من عهد آدم عليه السلام ثُمّ درست ، فجددها إبراهيم ، قال ابن عطية : ورويت في هذا أقاصيص أسانيدها ضعاف فلذلك تركتُها ، وقد زعموا أنَّها كانت تسمّى الضُراح بوزن غراب ولكنّ المحقّقين وجمهور أهل العلم لم يأخذوا بهذا الظاهر ، وتأوّلوا الآية . قال عليّ رضي الله عنه : « كان قبل البيت بيوت كثيرة » ولا شكّ أنّ الكعبة بناها إبراهيم وقد تعدّد في القرآن ذكر ذلك ، ولو كانت من بناء الأنبياء قبله لزيد ذكر ذلك زيادة في التنويه بشأنها ، وإذا كان كذلك فلا يجوز أن يكون أوّل بناء وقع في الأرض كان في عهد إبراهيم ، لأنّ قبل إبراهيم أمماً وعصوراً كان فيها البناء ، وأشهر ذلك برج بابل ، بُنِي إثر الطوفان ، وما بناه المصريّون قبل عهد إبراهيم ، وما بناه الكلدان في بدل إبراهيم قبل رحلته إلى مصر ، ومن ذلك بيت أصنامهم ، وذلك قبل أن تصير إليه هاجَر الَّتي أهداها له ملك مصر ، وقد حكى القرآن عنهم { قالوا ابْنُوا له بنياناً فَألْقُوه في الجحيم } [ الثافات : 97 ] فتعيّن تأويل الآية بوجه ظاهر ، وقد سلك العلماء مسالك فيه : وهي راجعة إلى تأويل الأوّل ، أو تأويل البيت ، أو تأويل فعل وُضع ، أو تأويل النَّاس ، أو تأويل نظم الآية ، والَّذي أراه في التأويل أنّ القرآن كتاب دين وهُدى ، فليس غرض الكلام فيه ضبط أوائل التَّاريخ ، ولكن أوائل أسباب الهدى ، فالأوَّلية في الآية على بابها ، والبيت كذلك ، والمعنى أنَّه أوّل بيت عبادة حقّة وضع لإعلان التَّوحيد ، بقرينة المقام ، وبقرينة قوله : { وُضع للنَّاس } المقتضى أنَّه من وضعِ واضعٍ لمصلحة النَّاس ، لأنَّه لو كان بيت سكنى لقيل وضعه النَّاس ، وبقرينة مجيء الحالين بعدُ ؛ وهما قوله : { مباركاً وهدى للعالمين } .

وهذا تأويل في معنى بيت ، وإذا كان أوّلَ بيتِ عبادة حقَ ، كان أوّل معهد للهدى ، فكان كُلّ هدى مقتبساً منه فلا محيص لكلّ قوم كانوا على هدى من الاعتراف به وبفضله ، وذلك يوجب اتّباع الملّة المبنيّة على أسس ملّة بانيه ، وهذا المفاد من تفريع قوله : { فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً } [ البقرة : 95 ] . وتأوّل الآية عليّ بن أبي طالب ، فروى عنه أنّ رجلاً سأله : أهو أوّل بيت ؟ قال : « لا ، قد كان قبله بيوت ، ولكنَّه أوّل بيت وضع للنَّاس مباركاً وهدى » فجعل مباركاً وهدى حالين من الضمير في { وُضع } لا من اسممِ الموصول ، وهذا تأويل في النظم لا ينساق إليه الذهن إلاّ على معنى أنَّه أوّل بيت من بيوت الهدى كما قلنا ، وليس مراده أنّ قوله : { وضع } هو الخبَر لتعيّن أن الخبر هو قوله : { للذي ببكة } بدليل دُخول اللاّم عليه .

وعن مجاهد قالت اليهود : بيت المقدس أفضل من الكعبة لأنَّها مهاجَر الأنبياء ، وقال المسلمون : الكعبة ، فأنزل الله هذه الآية ، وهذا تأويل { أول } بأنَّه الأوّل من شيئين لا من جنس البيوت كلّها .

وقيل : أراد بالأول الأشرف مجازاً .

وعندي أنَّه يجوز أن يكون المراد من النَّاس المعهودين وهم أهل الكتب أعني اليهود والنَّصارى والمسلمين ، وكلّهم يعترف بأصالة دين إبراهيم عليه السلام ، فأوّل معبد بإجماعهم هو الكعبة فيلزمهم الاعتراف بأنَّه أفضل ممَّا سواه من بيوت عبادتهم .

وإنَّما كانت الأوّلية موجِبة التّفضيل لأنّ مواضع العبادة لا تتفاضل من جهة العبادة ، إذ هي في ذلك سواء ، ولكنَّها تتفاضل بما يحفّ بذلك من طول أزمان التعبّد فيها ، وبنسبتها إلى بانيها ، وبحسن المقصد في ذلك ، وقد قال تعالى في مسجد قُبَاء : { لمَسجِدٌ أسِّسَ على التَّقوَى من أوّل يوم أحقّ أن تقوم فيه } [ التوبة : 108 ] .

وقد جمعت الكعبة جميع هذه المزايا فكانت أسبق بيوت العبادة الحقّ ، وهي أسبق من بيت المقدس بتسعة قرون . فإنّ إبراهيم بنى الكعبة في حدود سنة 1900 قبل المسيح وسليمانَ بنى بيت المقدس سنة 1000 قبل المسيح ، والكعبة بناها إبراهيم بيده فهي مبنية بيد رسول . وأمَّا بيتُ المقدس فبناها العملة لسليمان بأمره . وروى في « صحيح مسلم » ، عن أبي ذرّ رضي الله عنه أنَّه قال : سألت رسول الله : أيّ مسجد وُضِعَ أولُ ؟ قال : المسجدُ الحرام ، قلت : ثمّ أيّ ؟ قال : المسجدُ الأقصى ، قلت : كم كان بينهما ؟ قال : أربعون سنة . فاستشكله العلماء بأنّ بين إبراهيم وسليمان قروناً فكيف تكون أربعين سنة ، وأجاب بعضهم بإمكان أن يكون إبراهيم بنى مسجداً في موضع بيت المقدس ثُمّ درس فجدّده سليمان .

وأقول : لا شكّ أنّ بيت المقدس من بناء سليمان كما هو نص كتاب اليهود ، وأشار إليه القرآن في قوله : { يعملون له ما يشاء من محاريب } [ سبأ : 13 ] الآية ، فالظاهر أنّ إبراهيم لمَّا مرّ ببلاد الشَّام ووعده الله أن يورث تلك الأرض نسلهُ عيَّن الله له الوضع الَّذي سيكون به أكبر مسجدٍ تبنيه ذرّيّته ، فأقام هنالك مسجداً صغيراً شكراً لله تعالى ، وجعله على الصّخرة المجعولة مذبحاً للقربان . وهي الصّخرة الَّتي بنى سليمان عليها المسجد ، فلمَّا كان أهل ذلك البلد يومئذ مشركين دثر ذلك البناء حتَّى هدى الله سليمان إلى إقامة المسجد الأقصى عليه ، وهذا من العِلم الَّذي أهملتْه كتب اليهود ، وقد ثبت في سفر التَّكوين أنّ إبراهيم بنى مذابح في جهات مرّ عليها من أرض الكنعانيين لأنّ الله أخبره أنَّه يعطي تلك الأرض لنسله ، فالظاهر أنّه بنى أيضاً بموضع مسجد أرشليم مذبحاً .

و { مباركاً } اسم مفعول من بارك الشيء إذا جعل له بركة وهي زيادة في الخير . أي جُعلت البركة فيه بجعل الله تعالى ، إذ قَدّرَ أن يكون داخلُهُ مُثاباً ومحصّلا على خيْر يبلغه على مبلغ نيته ، وقدّر لمجاوريه وسكّان بلده أن يكونوا ببركة زيادةِ الثَّوابِ ورفاهية الحال ، وأمر بجعل داخله آمناً ، وقدّر ذلك بين النَّاس فكان ذلك كلّه بركة . وسيأتي معنى البركة عند قوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الَّذي بين يديه } في سورة [ الأنعام : 92 ] .

( ووصفه بالمصدر في قوله : وهُدى } مبالغة لأنَّه سبب هدى .

وجُعل هدى للعالمين كلِّهم : لأنّ شهرته وتسامع النَّاس به ، يحملهم على التساؤل عن سبب وضعه ، وأنَّه لتوحيد الله ، وتطهير النُّفوس من خبث الشرك فيهتدي بذلك المهتدي ، ويرعوي المتشكك .

ومن بركة ذاته أنّ حجارته وضعتْها عند بنائه يد إبراهيم ، ويد إسماعيل ، ثُمّ يدُ محمَّد صلى الله عليه وسلم ولا سيما الحجر الأسود . وانتصب { مباركاً وهدى } على الحال من الخبر ، وهو اسم الموصول .