ثم بين - سبحانه - لونا آخر من ألوان كمال قدرته فقال : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ } .
والمراد بالآيات هنا : الدلائل والعلامات الواضحة الدالة على كمال قدرته - عز وجل - .
وقوله : { وَمَا بَثَّ } معطوف على { خَلْقُ السماوات والأرض } .
أى : ومن العلامات الناصعة الدالة على كمال قدرته - تعالى - خلقه للسموات وللأرض بتلك الصورة الباهرة التى نشاهدها بأعيننا ، وخلقه - أيضا - لما ث فيها من دابة ، ولما نشر وفرق فيهما من دواب لا يعلم عددها إلا الله - تعالى - .
والدابة : اسم لكل ما يدب على وجه الأرض أو غيرها . وظاهر الآية الكريمة يفيد وجود دواب فى السماوات .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم قال : { فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ } والدواب فى الأرض وحدها ؟ .
قلت : يجوز أن ينسب الشئ إلى جميع المذكور وإن كان متلبسا ببعضه كما يقال : بنو تميم فيهم شاعر مجيد ، أو شجاع بطل ، وإنما هو فخذ من أفخاذهم .
ويجوز أن يكون للملائكة - عليهم السلام - مشى مع الطيران ، فيوصفوا بالدبيب كما يوصف به الأناسى ، ولا يبعد أن يخلق - سبحانه - فى السماوات حيوانا يمشى فيها مشى الأناسى على الأرض ، سبحان الذى خلق ما نعلم وما لا نعمل من أصناف الخلق .
وقوله - تعالى - : { وَهُوَ على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ } بيان لكمال قدرته - عز وجل - .
أى : وهو - سبحانه - قادر قدرة تامة على جمع الخلائق يوم القيامة للحساب والجزاء .
كما قال - تعالى - فى آية أخرى : { قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } .
ثم ذكر تعالى الآية الكبرى ، الصنعة الدالة على الصانع ، وذلك { خلق السماوات والأرض } .
وقوله تعالى : { وما بث فيهما } يتخرج على وجوه ، منها أن يريد إحداهما فيذكر الاثنين كما قال : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان }{[10146]}وذلك إنما يخرج من الملح وحده ، ومنها أن يكون تعالى قد خلق السماوات وبث دواب لا نعلمها نحن ، ومنها أن يريد الحيوانات التي توجد في السحاب ، وقد يقع أحياناً كالضفادع ونحوها ، فإن السحاب داخل في اسم السماء . وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال في تفسير : { وما بث فيهما من دابة } هم الناس والملائكة ، وبعيد غير جار على عرف اللغة أن تقع الدابة على الملائكة .
وقوله تعالى : { وهو على جمعهم } يريد القيامة عند الحشر من القبور
لما كان إنزال الغيث جامعاً بين كونه نعمة وكونه آية دالة على بديع صنع الله تعالى وعظيم قدرته المقتضية انفراده بالإلهية ، انتقل من ذكره إلى ذكر آيات دالة على انفراد الله تعالى بالإلهية وهي آية خلق العوالم العظيمة وما فيها مما هو مشاهد للناس دون قصد الامتنان . وهذا الانتقال استطراد واعتراض بين الأغراض التي سياق الآيات فيها .
والآيات : جمع آية ، وهي العلامة والدليل على شيء . والسياق دال على أن المراد آيات الإلهية . والسموات : العوالم العليا غير المشاهدة لنا والكواكب وما تجاوزَ الأرضَ من الجو . والأرضُ : الكرة التي عليها الحيوان والنبات . والبث : وضع الأشياء في أمكنة كثيرة .
والدابة : ما يدُبّ على الأرض ، أي يمشي فيشمل الطير لأن الطير يمشي إذا نزل وهو مما أريد في قوله هنا : { فيهما } أي في الأرض وفي السماء ، أي بعض ما يسمى بالسماء وهو الجو وهو ما يلوح للناظر مثل قبة زرقاء على الأرض في النهار ، قال تعالى : { ألم يروا إلى الطير مسخرات في جوّ السماء } [ النحل : 79 ] فإطلاق الدابّة على الطير باعتبار أن الطير يدبّ على الأرض كثيراً لالتقاط الحب وغيرِ ذلك . u وأمّا الموجودات التي في السموات العُلى من الملائكة والأرواح فلا يطلق عليها اسم دابّة . ويجوز أن تكون في بعض السماوات موجودات تدبّ فيها فإن الكواكب من السماوات . والعلماء يترددون في إثبات سكان في الكواكب ، وجوز بعض العلماء المتأخرين أن في كوكب المريخ سكاناً ، وقال تعالى : { ويخلق ما لا تعلمون } [ النحل : 8 ] ، على أنه قد يكون المراد من الظرفية في قوله : { فيهما } ظرفية المجموع لا الجميع ، أي ما بَثَّ في مجموع الأرض والسماء من دابّة ، فالدابّة إنما هي على الأرض ، ولما ذكرت الأرض والسماء مقترنتين وجاء ذكر الدواب جعلت الدواب مظروفة فيهما لأن الأرض محوطة بالسماوات ومتخيّلة منها كالمظروف في ظرفه ، والمظروفُ في ظرف مظروف في ظرف مظروفه كما قال تعالى : { مرَج البحرين يلتقيان } [ الرحمن : 19 ] ثم قال : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } [ الرحمن : 22 ] واللؤلؤ والمرجان يخرجان من أحد البحرين وهو البحر الملح لا من البحر العذب .
وجملة { وهو على جمعهم إذا يشاء قدير } ، معترضة في جُملة الاعتراض لإدماج إمكان البعث في عُرض الاستدلال على عظيم قدرة الله وعلى تفرده بالإلهية .
والمعنى : أن القادر على خلق السماوات والأرض وما فيهما عن عدممٍ قادر على إعادة خلق بعض ما فيهما للبعث والجزاء لأن ذلك كله سواء في جواز تعلق القدرة به فكيف تعدُّونه محالاً . وضمير الجماعة في قوله : { جمعهم } عائد إلى ما بثّ فيهما من دابّة باعتبار أن الذي تتعلق الإرادة بجمعه في الحشر للجزاء هم العقلاء من الدوابّ أي الإنس . والمراد ب { جمعهم } حشرهم للجزاء ، قال تعالى : { يوم يجمعكم ليوم الجمع } [ التغابن : 9 ] .
وقد ورد في أحاديث في « الصحيح » أن بعض الدواب تحشر للانتِصاف مِمن ظلمها . و { إذا } ظرف للمستقبل وهو هنا مجرد عن تضمن الشرطية ، فالتقدير : حين يشاء في مستقبل الزمان ، وهو متعلق ب { جمعهم } . وهذا الظرف إدماج ثان لإبطال استدلالهم بتأخر يوم البعث على أنه لا يقع كما حُكي عنهم في قوله تعالى : { ويقولون متَى هُو قل عسى أن يكون قريباً } [ الإسراء : 51 ] و { يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون } [ سبأ : 29 ، 30 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.