معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ} (60)

قوله تعالى : { والذين يؤتون ما آتوا } أي : يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات ، وروي عن عائشة أنها كانت تقرأ { والذين يؤتون ما آتوا } أي : يعملون ما عملوا من أعمال البر ، { وقلوبهم وجلة } أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله وأن أعمالهم لا تقبل منهم ، { أنهم إلى ربهم راجعون } لأنهم يوقنون أنهم يرجعون إلى الله عز وجل . قال الحسن : عملوا لله بالطاعات واجتهدوا فيها ، وخافوا أن ترد عليهم .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا عبد الله بن يوسف ، أنبأنا محمد بن حامد ، حدثنا محمد بن الجهم ، أنبأنا عبد الله بن عمرو ، أنبأنا وكيع عن مالك بن مغول ، عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله : ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ) أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق ؟ قال :لا يا بنت الصديق ، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ} (60)

ثم بين - سبحانه - صفتهم الرابعة فقال : { والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } .

قرأ القراء السبعة { يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ } بالمد ، على أنه من الإتيان بمعنى الإعطاء ، والوجل : استشعار الخوف . يقال : وَجِل فلان وَجَلاً فهو واجل ، إذا خاف ، أى : يعطون ما يعطون من الصدقات وغيرها من ألوان البر ، ومع ذلك فإن قلوبهم خائفة أن لا يقبل منهم هذا العطاء ، لأى سبب من الأسباب فهم كما قال بعض الصالحين : لقد أدركنا أقواماً كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم ، أشفق منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها .

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : أى : يعطون العطاء وهم خائفون أن لا يتقبل منهم ، لخوفهم أن يكونوا قد قصروا فى القيام بشروط الإعطاء ، وهذا من باب الإشفاق والاحتياط .

كما روى الإمام أحمد عن عائشة أنها قالت : " يا رسول الله { والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } هو الذى يسرق ويزنى ويشرب الخمر ، وهو يخاف الله - عز وجل - ؟

قال : " لا يا بنت الصديق ، ولكنه الذى يصلى ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله - تعالى - " " .

ثم قال - رحمه الله - وقد قرأ آخرون : { والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ . . } من الإتيان . أى : يفعلون ما فعلوا وهم خائفون . . .

والمعنى على القراءة الأولى - وهى قراءة الجمهور : السبعة وغيرهم - أظهر لأنه قال - بعد ذلك - : { أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } فجعلهم من السابقين ، ولو كان المعنى على القراءة الأخرى ، لأوشك أن لا يكونوا من السابقين ، بل من المقتصدين أو المقتصرين .

وجملة { وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } حال من الفاعل فى قوله - تعالى - { يُؤْتُونَ } .

وجملة { أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } تعليلية بتقدير اللام ، وهى متعلقة بقوله : { وَجِلَةٌ } .

أى : وقلوبهم خائفة من عدم القبول لأنهم إلى ربهم راجعون ، فيحاسبهم على بواعث أقوالهم وأعمالهم ، وهم - لقوة إيمانهم - يخشون التقصير فى أى جانب من جوانب طاعتهم له - عز وجل - .

وقد جاءت هذه الصفات الكريمة - كما يقول الإمام الرازى - فى نهاية الحسن ، لأن الصفة الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز عما لا ينبغى ، والثانية : دلت على قوة إيمانهم بآيات ربهم ، والثالثة دلت على شدة إخلاصهم ، والرابعة : دلت على أن المستجمع لتلك الصفات يأتى بالطاعات مع الوجل والخوف من التقصير ، وذلك هو نهاية مقامات الصديقين ، رزقنا الله - سبحانه - الوصول إليها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ} (60)

وقوله { والذين يؤتون ما آتوا } على قراءة الجمهور ، يعطون ما أعطوا وقال الطبري : يريد الزكاة المفروضة وسائر الصدقة ، وروي نحوه عن ابن عمر ومجاهد ع وإنما ضمهم إلى هذا التخصيص أن العطاء مستعمل في المال على الأغلب ، قال ابن عباس وابن جبير : هو عام في جميع أعمال البر ، وهذا أحسن كأنه قال : والذين يعطون من أنفسهم في طاعة الله ما بلغه جهدهم ، وقرأت عائشة أم المؤمنين وابن عباس وقتادة والأعمش «يأتون ما أتوا » ومعناه يفعلون ما فعلوا ورويت هذه القراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم{[8507]} وذهبت فرقة إلى أن معناه من المعاصي ، وذهبت فرقة إلى أن ذلك في جميع الأعمال طاعتها ومعصيتها وهذا أمدح ، وأسند الطبري عن عائشة أنها قالت يا رسول الله قوله تعالى { يؤتون ما آتوا } هي في الذي يزني ويسرق قال «لا يا بنت أبي بكر بل هي في الرجل يصوم ويتصدق وقلبه وجل يخاف أن لا يتقبل منه »{[8508]} .

قال القاضي أبو محمد : ولا نظر مع الحديث ، و «الوجل » نحو الإشفاق والخوف وصورة هذا الوجل أما المخلط فينبغي أن يكون أبداً تحت خوف من أن يكون ينفذ عليه الوعيد بتخليطه ، وأما التقي والتائب فخوفه أمر الخاتمة وما يطلع عليه بعد الموت ، وفي قوله تعالى { أنهم إلى ربهم راجعون } تنبيه على الخاتمة ، وقال الحسن : معناه الذين يفعلون ما يفعلون من البر ويخافون أن لا ينجيهم ذلك من عذاب ربهم ع وهذه عبارة حسنة ، وروي عن الحسن أيضاً أنه قال : المؤمن يجمع إحساناً وشفقة والمنافق يجمع إساءة وأمناً ، وقرأ الجمهور «أنهم » بفتح الألف والتقدير بأنهم أو لأنهم أو من أجل أنهم ويحتمل أن يكون قوله { وجلة } عاملة في «أن » من حيث إنها بمعنى خائفة .

وقرأ الأعمش «إنهم » بالكسر على إخبار مقطوع في ضمنه تخويف ، ثم أخبر تعالى عنهم بأنهم يبادرون إلى فعل الخيرات .


[8507]:أخرج سعيد بن منصور، وأحمد، والبخاري في تاريخه، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أشته وابن الأنباري معا في "المصاحف"، والدارقطني في "الأفراد"، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن عبيد بن عمير أنه سأل عائشة رضي الله عنها: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية {والذين يؤتون ما آتوا} أو {والذين يأتون ما أتوا} فقالت: أيهما أحب إليك؟ قلت: والذي نفسي بيده لإحداهما أحب إلي من الدنيا جميعا، قالت: أيهما؟ قلت: {والذين يأتون ما أتوا}، فقالت: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يقرؤها، وكذلك أنزلت، ولكن الهجاء حرف. (الدر المنثور). ولنا وقفة أمام هذا وخصوصا ما ذكر عن تحريف الهجاء؛ لأنه لو كان الأمر تحريف لما غفل عنه القراء والمحققون، لأنهم أصحاب غيرة على القرآن بالذات، وعلى الحقيقة في أي رواية، وهم دائما يتحرون وجه الصواب في كل ما يروى وينقل حتى ولو كان في غير القرآن، وإذا فالأمر أمر رواية لا تحريف. ولو كان الأمر أمر تحريف فلنا أن نسأل: هل وقع هذا التحريف في بعض المصاحف أم في كل المصاحف؟ لو أن هذا التحريف وقع في بعض المصاحف فكيف اتفق عليه كل القراء أو أكثرهم بهذه الصورة؟ وكيف لم يقرأ "بالصواب" إلا قلة ضئيلة؟ هل يعقل أن تتفق الكثرة على الخطأ وأن يكون الصواب موضع اتجاه القلة؟ ولو أن هذا التحريف وقع في جميع المصاحف لما كان تحريفا، بل هو اتفاق وإجماع، ولا يمكن أن نقول عنه تحريف. ولو تصورنا أن التحريف وارد في [آتوا] لأن الفرق بين رسم المدة فوق الألف فيها وبين رسم الهمزة في [أتوا] لما كان واردا أبدا في قوله تعالى [يؤتون]، لأن الفرق في الرسم بينها وبين الرسم في [يأتون] واضح قوي لا يتأتى معه الخطأ من القارئ وبخاصة في القرآن الكريم. ومن ناحية أخرى يقول الفراء: "ولو صحت هذه القراءة عن عائشة رضي الله عنها لم تخالف قراءة الجماعة؛ لأن الهمز من العرب من يلزم فيه الألف في كل الحالات إذا كتب، فيكتب "سئل الرجل" بألف بعد السين، و "يستهزئون" بألف بين الزاي والواو، "شيء" و "شيء" بألف بعد الياء، فغير مستنكر أن يكتب "يؤتون" بألف بعد الياء، وكلام الفراء يوضح أمرين: أولهما أنه يشك في صحة الرواية بدليل قوله: "ولو صحت"، والثاني أنه يبين السبب في رسم الهمزة على ألف بعد الياء بأن هذه قاعدة يلتزمها بعض العرب، وعليه فتكون القراءة للرسم بالألف هي كالقراءة للرسم بالواو. وإذا تأملنا في رواية ابن جرير الطبري في تفسيره نراه ينقلها عن أبي خلف، وفيها يقول: "دخلت مع عبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها، فسألها عبيد: كيف نقرأ هذه الحرف {والذين يؤتون ما آتوا}، فقالت: {يأتون ما أتوا}، وكأنها تأولت في ذلك: والذين يفعلون ما يفعلون من الخيرات وهم وجلون من الله. وليس فيها أنها سألته وأنه أجاب، ثم قالت: أشهد...الخ... لأنه من غير المعقول أن تسأل عائشة رضي الله عنها أحدا مثل هذا السؤال، والقرآن ليس على هوى الناس، فهو توقيف من الله فكيف نجعله عرضة للأهواء والميول؟ هذا السؤال نفسه يجعلنا نشك في هذه الرواية، ونؤيد رواية أبي خلف التي ينص فيها على أن عائشة رضي الله عنها تأولت الآية، فهو فهم منها وتأويل. وقد روي الحديث عن أبي مليكة أنها قالت: لأن تكون هذه الآية كما أقرأ أحب إلي من حمر النعم، فقال لها ابن عباس رضي الله عنهما ما هي؟ فقالت: {والذين يؤتون ما آتوا} ـ هكذا في الدر المنثور. فكيف نجمع بين هذه الرواية وبين الرواية الأخرى، مع ملاحظة أن كلمة التحريف والتصحيف كلمة عرفت وألفت بعد عائشة رضي الله تعالى عنها، فلم تكن الكتابة والقراءة في أيامها بالكثرة التي حدثت بعد ذلك ودخل فيها التحريف والتصحيف كما اتفق عليه المحققون. فهو في رأينا اصطلاح لاحق ورد على ألسنة بعض الناس وليس من صلب الحديث، وصحيح أنها وردت في القرآن الكريم في قوله تعالى: {يحرفون الكلم عن مواضعه}، ولكن من الصحيح أيضا أن عائشة رضي الله عنها لا يمكن أن تقصد هذا المعنى الذي أوردته الآية الكريمة، والله أعلم.
[8508]:رواه أحمد في مسنده، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، والذهبي، وذكره السيوطي في الدر المنثور، وزاد ممن رواه عبد بن حميد، وابن جرير، والفريابي، وابن أبي الدنيا في "نعت الخائفين"، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في "شعب الإيمان".
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ} (60)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{والذين يؤتون ما ءاتوا} يعنى يعطون ما أعطوا من الصدقات والخيرات {وقلوبهم وجلة} يعني: خائفة لله من عذابه، يعلمون {أنهم إلى ربهم راجعون}، في الآخرة، فيعملون على علم، فيجزيهم بأعمالهم، فكذلك المؤمن ينفق ويتصدق وجلا من خشية الله، عز وجل.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني تعالى ذكره بقوله:"والّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا" والذين يعطون أهل سُهْمان الصدقة ما فرض الله لهم في أموالهم. "ما آتَوْا "يعني: ما أعطوهم إياه من صدقة، ويؤدّون حقوق الله عليهم في أموالهم إلى أهلها.

"وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ" يقول: خائفة من أنهم إلى ربهم راجعون، فلا ينجيهم ما فعلوا من ذلك من عذاب الله، فهم خائفون من المرجع إلى الله لذلك، كما قال الحسن: إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة...

قال ابن عباس: "يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ" قال: المؤمن ينفق ماله ويتصدّق وقلبه وَجِل أنه إلى ربه راجع...

حدثناه أحمد بن يوسف، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا عليّ بن ثابت، عن طلحة بن عمر، عن أبي خلف، قال: دخلت مع عبيد بن عمير على عائشة، فسألها عبيد: كيف نقرأ هذا الحرف "وَالّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا"؟ فقالت: «يَأْتُونَ ما أتَوْا».

وكأنها تأوّلت في ذلك والذين يفعلون ما يفعلون من الخيرات وهم وجلون من الله. وكأنها تأوّلت في ذلك: والذين يفعلون ما يفعلون من الخيرات وهم وجلون من الله، كالذي حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا عمر بن قيس، عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب الهمداني، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قالت عائشة: يا رسول الله «وَالّذِينَ يَأْتُونَ مَا أتَوْا وَقُلوبُهُم وَجِلَةٌ» هو الذي يذنب الذنب وهو وجل منه؟ فقال: «لا، وَلَكِنْ مَنْ يَصُومُ وَيُصَلّي ويَتَصَدّقُ وَهُوَ وَجِلٌ»...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وقلوبهم وجلة} أن ذلك يقبل منهم أم لا. وفيه دلالة أن المطيع في ما يطيع ربه يكون على خوف منه كالمسيء في إساءته وكذلك...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

يُخْلِصُون في الطاعات من غير إلمام بتقصيرٍ، أو تعريج في أوطانِ الكسل، أو جنوحٍ إلى الاسترواح بالرُّخَص. ثم يخافون كأنّهم أَلمُّوا بالفواحش، ويلاحظون أحوالَهم بعين الاستصغار والاستحقار، ويخافون بغتات التقدير، وقضايا السخط...

أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :

وقال الحسن: لقد أدركت أقواماً كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم أشفق منكم على سيئاتكم أن يعذبوا عليها.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وقوله {والذين يؤتون ما آتوا} على قراءة الجمهور، يعطون ما أعطوا وقال الطبري: يريد الزكاة المفروضة وسائر الصدقة، وروي نحوه عن ابن عمر ومجاهد ع وإنما ضمهم إلى هذا التخصيص أن العطاء مستعمل في المال على الأغلب، قال ابن عباس وابن جبير: هو عام في جميع أعمال البر، وهذا أحسن كأنه قال: والذين يعطون من أنفسهم في طاعة الله ما بلغه جهدهم، وقرأت عائشة أم المؤمنين وابن عباس وقتادة والأعمش «يَأتون ما أتوا» ومعناه يفعلون ما فعلوا ورويت هذه القراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم وذهبت فرقة إلى أن معناه من المعاصي، وذهبت فرقة إلى أن ذلك في جميع الأعمال طاعتها ومعصيتها وهذا أمدح، وأسند الطبري عن عائشة أنها قالت يا رسول الله قوله تعالى {يؤتون ما آتوا} هي في الذي يزني ويسرق قال «لا يا بنت أبي بكر بل هي في الرجل يصوم ويتصدق وقلبه وجل يخاف أن لا يتقبل منه».

ولا نظر مع الحديث.

و «الوجل» نحو الإشفاق والخوف وصورة هذا الوجل أما المخلط فينبغي أن يكون أبداً تحت خوف من أن يكون ينفذ عليه الوعيد بتخليطه، وأما التقي والتائب فخوفه أمر الخاتمة وما يطلع عليه بعد الموت، وفي قوله تعالى {أنهم إلى ربهم راجعون} تنبيه على الخاتمة، وقال الحسن: معناه الذين يفعلون ما يفعلون من البر ويخافون أن لا ينجيهم ذلك من عذاب ربهم ع وهذه عبارة حسنة...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

لَيْسَ يُحْتَاجُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إلَى اخْتِلَافِ الْقِرَاءَةِ بَيْنَ يَأْتُونَ وَيُؤْتُونَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: {يُؤْتُونَ} يُعْطِي الْأَمْرَيْنِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: آتَيْت من نَفْسِي الْقَبُولَ، وَآتَيْت مِنْهَا الْإِنَابَةَ، تُرِيدُ أَعْطَيْت الْقِيَادَ من نَفْسِي يَعْنِي إذَا أَطَاعَ، وَأَعْطَيْت الْعِنَادَ من نَفْسِي يَعْنِي إذَا عَصَى، فَمَعْنَاهُ يُؤْتُونَ مَا أَتَوْا من طَاعَةٍ أَوْ من مَعْصِيَةٍ، وَلَكِنْ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُؤْتِي الطَّاعَةَ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِالْخَشْيَةِ لِرَبِّهِمْ، وَالْإِيمَانِ بِآيَاتِهِ، وَتَنْزِيهِهِ عَنْ الشِّرْكِ، وَخَوْفِهِمْ عَدَمَ الْقَبُولِ مِنْهُمْ عِنْدَ لِقَائِهِ لَهُمْ، فَلَا جَرَمَ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يُسَارِعُ فِي الْخَيْرَاتِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى الْعِصْيَانِ مُتَمَادِيًا فِي الْخِلَافِ مُسْتَمِرًّا، فَكَيْفَ يُوصَفُ بِأَنَّهُ يُسَارِعُ فِي الْخَيْرَاتِ أَوْ بِالْخَشْيَةِ لِرَبِّهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ من الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِيهِ. أَمَّا إنَّ الَّذِي يَأْتِي الْمَعْصِيَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الَّذِي يَأْتِيهَا وَيَخَافُ الْعَذَابَ فَهَذَا هُوَ الْمُذْنِبُ. وَاَلَّذِي يَأْتِيهَا آمِنًا من عَذَابِ اللَّهِ من جِهَةِ غَلَبَةِ الرَّجَاءِ عَلَيْهِ فَهُوَ الْمَغْرُورُ، وَالْمَغْرُورُ فِي حِزْبِ الشَّيْطَانِ. وَإِنْ أَتَاهَا شَاكًّا فِي الْعَذَابِ فَهُوَ مُلْحِدٌ لَا مَغْفِرَةَ لَهُ. وَلِأَجْلِ إشْكَالِ قَوْلِهِ: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} قَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي بِهِ إنْفَاقَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ إلَيْهِ صَلَاحِيَةُ لَفْظِ الْعَطَاءِ إلَّا فِي الْمَالِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ الْعَطَاءِ يَنْطَلِقُ فِي كُلِّ مَعْنًى: مَالٍ وَغَيْرِهِ، وَفِي كُلِّ طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ، وَاتَّضَحَتْ الْآيَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

الصفة الرابعة: قوله: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} معناه يعطون ما أعطوا فدخل فيه كل حق يلزم إيتاؤه سواء كان ذلك من حق الله تعالى: كالزكاة والكفارة وغيرهما، أو من حقوق الآدميين: كالودائع والديون وأصناف الإنصاف والعدل، وبين أن ذلك إنما ينفع إذا فعلوه وقلوبهم وجلة، لأن من يقدم على العبادة وهو وجل من تقصيره وإخلاله بنقصان أو غيره، فإنه يكون لأجل ذلك الوجل مجتهدا في أن يوفيها حقها في الأداء...

واعلم أن ترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن، لأن الصفة الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز عما لا ينبغي.

والصفة الثانية: دلت على ترك الرياء في الطاعات.

والصفة الثالثة: دلت على أن المستجمع لتلك الصفات الثلاثة يأتي بالطاعات مع الوجل والخوف من التقصير، وذلك هو نهاية مقامات الصديقين رزقنا الله سبحانه الوصول إليها، فإن قيل: أفتقولون إن قوله: {وقلوبهم وجلة} يرجع إلى يؤتون، أو يرجع إلى كل ما تقدم من الخصال؟ قلنا بل الأولى أن يرجع إلى الكل لأن العطية ليست بذلك أولى من سائر الأعمال، إذ المراد أن يؤدى ذلك على وجل من تقصيره، فيكون مبالغا في توفيته حقه، فأما إذا قرئ {والذين يأتون ما أتوا} فالقول فيه أظهر، إذ المراد بذلك أي شيء أتوه وفعلوه من تحرز عن معصية وإقدام على إيمان وعمل، فإنهم يقدمون عليه مع الوجل، ثم إنه سبحانه بين علة ذلك الوجل وهي علمهم بأنهم إلى ربهم راجعون، أي للمجازاة والمساءلة ونشر الصحف وتتبع الأعمال، وأن هناك لا تنفع الندامة، فليس إلا الحكم القاطع من جهة مالك الملك.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{وقلوبهم وجلة} أي شديدة الخوف، قد ولج في دواخلها وجال في كل جزء منها لأنهم عالمون بأنهم لا يقدرون الله حق قدره وإن اجتهدوا... ثم علل ذلك بقوله: {أنهم إلى ربهم} أي الذي طال إحسانه إليهم {راجعون} بالبعث فيحاسبهم على النقير والقطمير، ويجزيهم بكل قليل و كثير وهو الناقد البصير.

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

وسبب الوجل هو أن يخافوا أن لا يقبل منهم ذلك على الوجه المطلوب، لا مجرّد رجوعهم إليه سبحانه...

وقيل: المعنى: أن من اعتقد الرجوع إلى الجزاء والحساب وعلم أن المجازي والمحاسب هو الربّ الذي لا تخفى عليه خافية لم يخل من وجل.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إن قلب المؤمن يستشعر يد الله عليه. ويحس آلاءه في كل نفس وكل نبضة.. ومن ثم يستصغر كل عباداته، ويستقل كل طاعاته، إلى جانب آلاء الله ونعمائه... ومن ثم يشعر بالهيبة، ويشعر بالوجل، ويشفق أن يلقى الله وهو مقصر في حقه، لم يوفه حقه عبادة وطاعة ولم يقارب أياديه عليه معرفة وشكرا..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وإنما عُبر ب {ما آتوا} دون الصدقات أو الأموال ليعم كل أصناف العطاء المطلوب شرعاً وليعم القليل والكثير، فلعل بعض المؤمنين ليس له من المال ما تجب فيه الزكاة وهو يعطي مما يكسب...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

الوجل: الخوف مع الاضطراب الشديد، والإحساس بالقصور، وهذا هو الوصف الرابع لأهل الإيمان، والإيتاء: الإعطاء، والمعنى أن هؤلاء المؤمنين لفرط إحساسهم بخشية ربهم، وإشفاقه يعطون العطاء الكبير ويخشون مع ذلك ألا يقبل منهم لرياء أو نحوه مما يمحق الحسنات، أو لوجود داء يذهب بخير القربات ولقد قال الحسن البصري سيد أهل البصرة: لقد أدركنا أقواما كانوا من حسناتهم أن ترد أشفق منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها، ولا شك أن ذلك من تغليب خوفهم على رجائهم، وقوله تعالى: {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} حال من فاعل يؤتون...

ووجلهم من أنهم إلى ربهم راجعون، وهذا يدل على أمرين: أحدهما أنهم ذاكرون دائما لليوم الآخر، ويغلبون خوفهم على رجائهم فيه، لفرط إحساسهم بالخشية من الله تعالى. ويدل ثانيا على أنهم يرهبون الوقوف أمام الله استصغارا لحسناتهم، واستكثارا لسيئاتهم.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

هؤلاء الذين يعيشون حسّ الطاعة بشكل مرهف، فيدققون في دوافع كل عمل يأتون به كي لا يدخله الشرك الخفيّ، ويفحصون جزئياته كي لا يقعوا في الخطأ أو يتجاوزوا بعض الحدود من خلاله.. فإذا أتوا بعملهم ذاك إنفاقاً كان أو قولاً أو غير ذلك، نجدهم خائفين مشفقين، أن لا يقبل الله منهم عملهم ذلك، وأن يحاسبهم عليه إذا رجعوا إليه ووقفوا أمامه ساعة الحساب، حذراً من غفلتهم عن بعض دقائقه وخفاياه.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

إنّهم ليسوا كالشخص الكسول الدنيء الهمّة الذي يأتي بأقلّ الأعمال ثمّ يتصوّر انّه من المقرّبين عند الله، ويتملّكه العجب والغرور بحيث يرى الآخرين صغار وحقراء، بل إنّ هؤلاء لا يطمئنّون ولا يبتهجون بأكبر عمل مهما زكا وسما، بل وينجزون الأعمال الصالحة التي تعادل عبادة الثقلين، ومع كلّ هذا يقولون: آه من قلّة الزاد وبعد السفر!