المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ} (60)

وقوله { والذين يؤتون ما آتوا } على قراءة الجمهور ، يعطون ما أعطوا وقال الطبري : يريد الزكاة المفروضة وسائر الصدقة ، وروي نحوه عن ابن عمر ومجاهد ع وإنما ضمهم إلى هذا التخصيص أن العطاء مستعمل في المال على الأغلب ، قال ابن عباس وابن جبير : هو عام في جميع أعمال البر ، وهذا أحسن كأنه قال : والذين يعطون من أنفسهم في طاعة الله ما بلغه جهدهم ، وقرأت عائشة أم المؤمنين وابن عباس وقتادة والأعمش «يأتون ما أتوا » ومعناه يفعلون ما فعلوا ورويت هذه القراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم{[8507]} وذهبت فرقة إلى أن معناه من المعاصي ، وذهبت فرقة إلى أن ذلك في جميع الأعمال طاعتها ومعصيتها وهذا أمدح ، وأسند الطبري عن عائشة أنها قالت يا رسول الله قوله تعالى { يؤتون ما آتوا } هي في الذي يزني ويسرق قال «لا يا بنت أبي بكر بل هي في الرجل يصوم ويتصدق وقلبه وجل يخاف أن لا يتقبل منه »{[8508]} .

قال القاضي أبو محمد : ولا نظر مع الحديث ، و «الوجل » نحو الإشفاق والخوف وصورة هذا الوجل أما المخلط فينبغي أن يكون أبداً تحت خوف من أن يكون ينفذ عليه الوعيد بتخليطه ، وأما التقي والتائب فخوفه أمر الخاتمة وما يطلع عليه بعد الموت ، وفي قوله تعالى { أنهم إلى ربهم راجعون } تنبيه على الخاتمة ، وقال الحسن : معناه الذين يفعلون ما يفعلون من البر ويخافون أن لا ينجيهم ذلك من عذاب ربهم ع وهذه عبارة حسنة ، وروي عن الحسن أيضاً أنه قال : المؤمن يجمع إحساناً وشفقة والمنافق يجمع إساءة وأمناً ، وقرأ الجمهور «أنهم » بفتح الألف والتقدير بأنهم أو لأنهم أو من أجل أنهم ويحتمل أن يكون قوله { وجلة } عاملة في «أن » من حيث إنها بمعنى خائفة .

وقرأ الأعمش «إنهم » بالكسر على إخبار مقطوع في ضمنه تخويف ، ثم أخبر تعالى عنهم بأنهم يبادرون إلى فعل الخيرات .


[8507]:أخرج سعيد بن منصور، وأحمد، والبخاري في تاريخه، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أشته وابن الأنباري معا في "المصاحف"، والدارقطني في "الأفراد"، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن عبيد بن عمير أنه سأل عائشة رضي الله عنها: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية {والذين يؤتون ما آتوا} أو {والذين يأتون ما أتوا} فقالت: أيهما أحب إليك؟ قلت: والذي نفسي بيده لإحداهما أحب إلي من الدنيا جميعا، قالت: أيهما؟ قلت: {والذين يأتون ما أتوا}، فقالت: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يقرؤها، وكذلك أنزلت، ولكن الهجاء حرف. (الدر المنثور). ولنا وقفة أمام هذا وخصوصا ما ذكر عن تحريف الهجاء؛ لأنه لو كان الأمر تحريف لما غفل عنه القراء والمحققون، لأنهم أصحاب غيرة على القرآن بالذات، وعلى الحقيقة في أي رواية، وهم دائما يتحرون وجه الصواب في كل ما يروى وينقل حتى ولو كان في غير القرآن، وإذا فالأمر أمر رواية لا تحريف. ولو كان الأمر أمر تحريف فلنا أن نسأل: هل وقع هذا التحريف في بعض المصاحف أم في كل المصاحف؟ لو أن هذا التحريف وقع في بعض المصاحف فكيف اتفق عليه كل القراء أو أكثرهم بهذه الصورة؟ وكيف لم يقرأ "بالصواب" إلا قلة ضئيلة؟ هل يعقل أن تتفق الكثرة على الخطأ وأن يكون الصواب موضع اتجاه القلة؟ ولو أن هذا التحريف وقع في جميع المصاحف لما كان تحريفا، بل هو اتفاق وإجماع، ولا يمكن أن نقول عنه تحريف. ولو تصورنا أن التحريف وارد في [آتوا] لأن الفرق بين رسم المدة فوق الألف فيها وبين رسم الهمزة في [أتوا] لما كان واردا أبدا في قوله تعالى [يؤتون]، لأن الفرق في الرسم بينها وبين الرسم في [يأتون] واضح قوي لا يتأتى معه الخطأ من القارئ وبخاصة في القرآن الكريم. ومن ناحية أخرى يقول الفراء: "ولو صحت هذه القراءة عن عائشة رضي الله عنها لم تخالف قراءة الجماعة؛ لأن الهمز من العرب من يلزم فيه الألف في كل الحالات إذا كتب، فيكتب "سئل الرجل" بألف بعد السين، و "يستهزئون" بألف بين الزاي والواو، "شيء" و "شيء" بألف بعد الياء، فغير مستنكر أن يكتب "يؤتون" بألف بعد الياء، وكلام الفراء يوضح أمرين: أولهما أنه يشك في صحة الرواية بدليل قوله: "ولو صحت"، والثاني أنه يبين السبب في رسم الهمزة على ألف بعد الياء بأن هذه قاعدة يلتزمها بعض العرب، وعليه فتكون القراءة للرسم بالألف هي كالقراءة للرسم بالواو. وإذا تأملنا في رواية ابن جرير الطبري في تفسيره نراه ينقلها عن أبي خلف، وفيها يقول: "دخلت مع عبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها، فسألها عبيد: كيف نقرأ هذه الحرف {والذين يؤتون ما آتوا}، فقالت: {يأتون ما أتوا}، وكأنها تأولت في ذلك: والذين يفعلون ما يفعلون من الخيرات وهم وجلون من الله. وليس فيها أنها سألته وأنه أجاب، ثم قالت: أشهد...الخ... لأنه من غير المعقول أن تسأل عائشة رضي الله عنها أحدا مثل هذا السؤال، والقرآن ليس على هوى الناس، فهو توقيف من الله فكيف نجعله عرضة للأهواء والميول؟ هذا السؤال نفسه يجعلنا نشك في هذه الرواية، ونؤيد رواية أبي خلف التي ينص فيها على أن عائشة رضي الله عنها تأولت الآية، فهو فهم منها وتأويل. وقد روي الحديث عن أبي مليكة أنها قالت: لأن تكون هذه الآية كما أقرأ أحب إلي من حمر النعم، فقال لها ابن عباس رضي الله عنهما ما هي؟ فقالت: {والذين يؤتون ما آتوا} ـ هكذا في الدر المنثور. فكيف نجمع بين هذه الرواية وبين الرواية الأخرى، مع ملاحظة أن كلمة التحريف والتصحيف كلمة عرفت وألفت بعد عائشة رضي الله تعالى عنها، فلم تكن الكتابة والقراءة في أيامها بالكثرة التي حدثت بعد ذلك ودخل فيها التحريف والتصحيف كما اتفق عليه المحققون. فهو في رأينا اصطلاح لاحق ورد على ألسنة بعض الناس وليس من صلب الحديث، وصحيح أنها وردت في القرآن الكريم في قوله تعالى: {يحرفون الكلم عن مواضعه}، ولكن من الصحيح أيضا أن عائشة رضي الله عنها لا يمكن أن تقصد هذا المعنى الذي أوردته الآية الكريمة، والله أعلم.
[8508]:رواه أحمد في مسنده، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، والذهبي، وذكره السيوطي في الدر المنثور، وزاد ممن رواه عبد بن حميد، وابن جرير، والفريابي، وابن أبي الدنيا في "نعت الخائفين"، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في "شعب الإيمان".