فلما جمع الله تعالى ليوسف شمله علم أن نعيم الدنيا لا يدوم سأل الله تعالى حسن العاقبة { رب قد آتيتني من الملك } ، يعني : ملك مصر ، والملك : اتساع المقدور لمن له السياسة والتدبير { وعلمتني من تأويل الأحاديث } يعني : تعبير الرؤيا { فاطر } ، أي : يا فاطر { السماوات والأرض } أي : خالقهما { أنت وليي } أي : معيني ومتولي أمري { في الدنيا والآخرة توفني مسلماً } يقول اقبضني إليك مسلما ، { وألحقني بالصالحين } يريد بآبائي النبيين . قال قتادة : لم يسأل نبي من الأنبياء الموت إلا يوسف . وفي القصة : لما جمع الله شمله وأوصل إليه أبويه وأهله اشتاق إلى ربه عز وجل فقال هذه المقالة . قال الحسن : عاش بعد هذا سنين كثيرة . وقال غيره : لما قال هذا القول لم يمض عليه أسبوع حتى توفي . واختلفوا في مدة غيبة يوسف عن أبيه ، فقال الكلبي : اثنتان وعشرون سنة . وقيل : أربعون سنة . وقال الحسن : ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة ، وغاب عن أبيه ثمانين سنة ، وعاش بعد لقاء يعقوب ثلاثا وعشرين سنة ، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة . وفي التوراة مات وهو ابن مائة وعشر سنين ، وولد ليوسف من امرأة العزيز ثلاثة أولاد : أفراثيم وميشا ورحمة امرأة أيوب المبتلى عليه السلام . وقيل : عاش يوسف بعد أبيه ستين سنة . قيل : أكثر . واختلفت الأقاويل فيه . وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة ، فدفنوه في النيل في صندوق من رخام ، وذلك أنه لما مات تشاح الناس فيه فطلب أهل كل محلة أن يدفن في محلتهم رجاء بركته ، حتى هموا بالقتال ، فرأوا أن يدفنوه في النيل حيث يتفرق الماء بمصر ليجري الماء عليه وتصل بركته إلى جميعهم . وقال عكرمة : دفن في الجانب الأيمن من النيل ، فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر ، فنقل إلى الجانب الأيسر فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر ، فدفنوه في وسطه وقدروا ذلك بسلسة فأخصب الجانبان جميعا إلى أن أخرجه موسى فدفنه بقرب آبائه بالشام .
ثم ختم يوسف - عليه السلام - ثناءه على الله - تعالى - بهذا الدعاء الذي حكاه القرآن عنه في قوله : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك } أى : يا رب قد أعطيتنى شيئاً عظيماً من الملك والسلطان بفضلك وكرمك .
{ وَعَلَّمْتَنِي } - أيضاً - شيئاً كثيراً { مِن تَأْوِيلِ الأحاديث } أى : من تفسيرها وتعبيرها تعبيراً صادقاً بتوفيقك وإحسانك .
{ فَاطِرَ السماوات والأرض } أى : خالقهما على غير مثال سابق ، وهو منصوب على النداء بحرف مقدر أى : يا فاطر السموات والأرض .
{ أَنتَ وَلِيِّي } وناصرى ومعينى { فِي الدنيا والآخرة } .
{ تَوَفَّنِي } عندما يدركنى أجلى على الإِسلام ، وأبقنى { مُسْلِماً } مدة حياتى .
{ وَأَلْحِقْنِي } في قبرى ويوم الحساب { بالصالحين } من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً .
وبهذا الدعاء الجامع الذي توجه به يوسف إلى ربه - تعالى - يختتم القرآن الكريم قصة يوسف مع أبيه ومع إخوته ومع غيرهم ممن عاشرهم والتقى بهم وهو دعاء يدل على أن يوسف - عليه السلام - لم يشغله الجاه والسلطان ولم يشغله لقاؤه عن طاعة ربه ، وعن تذكر الآخرة وما فيها من حساب . .
وهذا هو شأن المصطفين الأخيار الذين نسأل الله - تعالى - أن يحشرنا معهم ، ويحلقنا بهم ، ويوفقنا للسير على نهجهم . . .
رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ( 101 ) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ( 102 )
قرأ ابن مسعود «آتيتن » و «علمتن » بحذف الياء على التخفيف{[6844]} ، وقرأ ابن ذر «رب آتيتني » بغير «قد » .
وذكر كثير من المفسرين : أن يوسف عليه السلام لما عدد في هذه الآية نعم الله عنده تشوق إلى لقاء ربه ولقاء الجلة وصالحي سلفه وغيرهم من المؤمنين ، ورأى أن الدنيا كلها قليلة فتمنى الموت في قوله : { توفني مسلماً وألحقني بالصالحين } وقال ابن عباس : «لم يتمن الموت نبي غير يوسف » ، وذكر المهدوي تأويلاً آخر - وهو الأقوى عندي - أن ليس في الآية تمني موت - وإنما عدد يوسف عليه السلام نعم الله عنده ثم دعا أن يتم عليه النعم في باقي عمره أي { توفني } - إذا حان أجلي - على الإسلام ، واجعل لحاقي بالصالحين ، وإنما تمنى الموافاة على الإسلام لا الموت . وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لا يتمنينَّ أحدكم الموت لضرّ نزل به » الحديث بكماله{[6845]} . وروي عنه عليه السلام أنه قال في بعض دعائه : «وإذا أردت في الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون »{[6846]} ، وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال : اللهم قد رقّ عظمي وانتشرت وعييت فتوفني غير مقصر ولا عاجز .
قال القاضي أبو محمد : فيشبه أن قول النبي صلى الله عليه وسلم : لضر نزل به - إنما يريد ضرر الدنيا كالفقر والمرض ونحو ذلك ويبقى تمني الموت مخافة فساد الدين مباحاً ، ويدلك على هذا قول النبي عليه السلام : «يأتي على الناس زمان يمر فيه الرجل بقبر الرجل فيقول : يا ليتني مكانه ، ليس به الدين لكن ما يرى من البلاء والفتن »{[6847]} .
قال القاضي أبو محمد : فقوله : ليس به الدين - يقتضي إباحة ذلك أن لو كان عن الدين وإنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حالة الناس كيف تكون .
وقوله : { آتيتني من الملك } قيل : { من } للتبعيض وقيل : لبيان الجنس ؛ وكذلك في قوله : { من تأويل الأحاديث } المراد بقوله : { الأحاديث } الأحلام ، وقيل : قصص الأنبياء والأمم .
وقوله : { فاطر } منادى ، وقوله { أنت وليي } أي القائم بأمري الكفيل بنصرتي ورحمتي .